طبيعة اتصال وسائل الاعلام بالظاهرة الإجرامية
تمهيد وتقسيم :
يقصد بوسائل الإعلام Moyens de communication مجموع أساليب الاتصال والأخبار التي تصل الأفراد ببعضهم وتساهم في نشر الثقافة وتنمية المعارف لدى الأفراد واحاطتهم بالمشكلات المختلفة داخلياً وعالمياً.
ولا شك أن وسائل الإعلام بمختلف أنواعها المقروء منها (الصحف والمجلات والكتب) أو المسموع (الإذاعة) أو المرئي (السينما والمسرح والتليفزيون) تساهم في تقارب الزمن بين الدول والمناطق على اتساعها بحيث صرنا نقول أن العالم أصبح قرية صغيرة.
وفيما يتعلق بصلة وسائل الإعلام بالظاهرة الإجرامية ، فيمكن القول أن تلك الصلة تظهر في جانبيها الإيجابي والسلبي ، على التفصيل التالي [11] :
أولاً : الدور الايجابي لوسائل الإعلام والظاهرة الإجرامية :
من المؤكد أن لوسائل الإعلام – خاصة الصحافة المكتوبة – دور ايجابي في مكافحة الظاهرة الإجرامية ، يظهر في مساعدتها في الكشف عن الجرائم وتعقب مرتكبيها حينما يتم نشر أوصاف الجناة تمكيناً للجمهور من التعرف عليهم. كما أن نشر أخبار الجريمة يثير مشاعر الجمهور نحو المطالبة بتحقيق العدالة تجاه الجناة.
فضلاً عن أن وسائل الإعلام المختلفة تلعب دوراً وقائياً من ناحيتين : الأولى حينما يؤدي نشر أخبار الجريمة من تحذير المجني عليهم المحتملين من الوقوع فريسة للطرق الاحتيالية التي يلجأ إليها المجرمون ؛ والثاني حينما يؤدي نشر أخبار الجرائم من تهدئة ميول المجرمين المحتملين فتنزع ما بداخلهم من أفكار إجرامية تراودهم. ففي بعض الأحيان يكون سماع أخبار الجريمة بمثابة المتنفس أو البديل للرغبات الإجرامية المكبوتة لدي الأفراد.
هذا بالإضافة إلى أن نشر أخبار الجريمة يساهم في تحقيق الردع العام من خلال تخويف الأفراد من سوء العاقبة إذا ما سقطوا في طريق الإجرام. كما أن هذا النشر يكون هو البديل عن التطبيق الفعلي لمبدأ علانية المحاكمات الجنائية ، وعن طريقها يتأكد الأفراد من حسن سير مرفق القضاء وإدارة العدالة الجنائية.
ثانياً : الدور السلبي لوسائل الإعلام والظاهرة الإجرامية :
رغم الدور الايجابي الذي تلعبه وسائل الإعلام في التصدي للظاهرة الإجرامية ، إلا أن الباحثين في علم الإجرام قد أوضحوا أن لها دور سلبي يظهر في زيادة معدل السلوك الإجرامي ، خاصة لدى المراهقين والأحداث والشواذ ، بحسبان هؤلاء لا يقدرون على استيعاب أو تحليل المادة الإعلامية المقدمة إليهم ، فضلاً عن روح التقليد التي تتملكهم والميل إلى التفاخر بالرذيلة ومخالفة القواعد القانونية والقيم المجتمعية رغبة منهم في تأكيد الذات.
ويظهر الدور السلبي لوسائل الإعلام في علاقتها بالظاهرة الإجرامية من أكثر من جانب : فمن ناحية يؤدي تكرار نشر أخبار الجريمة إلى تسهيل ارتكاب الجرائم ، إما بتمكين المجرمين المحتملين من الاستفادة من الوسائل التي لجأ إليها المجرمون المقبوض عليهم وتفادي ما شاب استخدامها من قصور ، وإما بإضعاف قوة المقاومة عن طريق خلق نوع من اللامبالاة لدى الجمهور والرأي العام تجاه الجريمة فلا تعود تثير لديه أي سخط اجتماعي ، فيشيع التساهل تجاه المجرمين ، فيندفع البعض إلى تقليد هؤلاء أو معاودة نشاطه الإجرامي مرة أخرى.
كما أن نشر الأخبار المتعلقة بالجرائم فيه ما قد يمس بحسن سير العدالة الجنائية. ذلك أن وسائل الإعلام بتصديها لوقائع الجريمة وهي قيد التحقيق أو المحاكمة قد تصدر أحكام مسبقة حول أشخاصها تمس بقرينة البراءة التي يتمتع بها هؤلاء ، مما يعرقل الأجهزة الجنائية من شرطة ومحققين ومحلفين وقضاة في تكوين عقيدة حرة حول المتهمين. ويزداد هذا الخطر إذا ما علمنا أن المساحات المخصصة للجرائم في وسائل الإعلام المختلفة عادة ما تعد بطريقة تلهب خيال المتلقين والقراء ، وتكون في أذهانهم صورة معينة عن الجريمة وأشخاصها يتعذر محوها فيما بعد ، حتى ولو صدرت الأحكام الجنائية مخالفة لما جاء بوسائل الإعلام. بل وربما جاءت الأحكام المخالفة لما كونه الرأي العام من تصور حول الجريمة ومرتكبيها بأثرها السلبي على القضاة أنفسهم ، إذ تهتز صورة هؤلاء في نظر العامة وتضعف الثقة في جهاز العدالة الجنائية ككل.
ويزداد الأثر السلبي لوسائل الإعلام إذا تعلق الأمر بالوسائل المرئية من مسرح وتليفزيون وسينما ، بحسبانها وسائل تعتمد على الصورة المتحركة. فهذه الوسائل قد تعرض لمشاهد عنف وجنس تنال من القوة النفسية للمتلقي – خاصة إذا كان مراهقاً – فتدفعه إلى ارتكاب جرائم الاعتداء على الأشخاص أو الجرائم الماسة بالعرض. كما أن القصص المعروضة عبر تلك الوسائل قد تقوم على فكرة البطل المنتصر دائماً مهما كانت المخاطر التي يتعرض لها ، مما يجعل المراهقين يتعلقون بهذا النموذج المشاكس ويقلدونه في ميوله العدوانية. وربما تعرض القصص للنموذج الإجرامي باعتباره ضحية المجتمع مما قد يخلق تجاهه نوع من التعاطف ، وينمي بلادة الإحساس وعدم الاستنكار تجاه أفعاله الإجرامية. بل قد يندفع البعض إلى تقليد هذا النموذج من أجل لفت الأنظار وبحثاً عن الشهرة.
وقد كشفت دراسة إحصائية أعدت في الولايات المتحدة حول تأثير السينما على الإجرام عن أن هذه الأخيرة كانت سببا في دفع 10% من المجرمين الذكور ، و25% من المجرمات الإناث نحو الجريمة. كما أن الزوجان جلوك قد أثبتا في دراسة لهم أجريت على 500 من الشباب الجانح مقارناً بعدد مماثل من غير المجرمين أن ما يقرب من نصف عدد المجرمين الأحداث (44.9%) كانوا يترددون فوق ثلاث مرات على السينما مقابل 11% فقط من غير المجرمين.
وفي دراسة إحصائية أجريت في فرنسا عام 1955 على نحو 150 من الشباب الجانحين بين سن 13 إلى 19 سنة ، مقارنة بعدد مماثل من الفتيات غير الجانحات ، ظهر أن 27% من الشباب الجانح كانوا يذهبون للسينما من 8 إلى 12 مرة في الشهر بمعدل مرتان أو ثلاثة أسبوعياً ، مقابل 17% من أفراد المجموعة الضابطة التي تشمل الفتيات غير المجرمات.
وفي رأينا أن وسائل الإعلام في ذاتها لا يمكن أن تكون عاملاً إجرامياً ، فالأمر يتوقف على طبيعة المادة الإعلامية المعروضة ، وطبيعة المتلقي وما إذا كان يتمتع بقوى مانعة قوية أم تكمن بداخله عوامل استعداد إجرامي تأتي وسائل الإعلام ، بما تحمله أحياناً من مثيرات للغرائز ، فتحركها. يؤكد ذلك أن الأفراد جميعهم يتعرضون لتأثير الوسائل الإعلامية ولكن قلة منهم هي التي تستجيب للإيحاء صحيفة أو قصة أو سينما أو تليفزيون ، مما يدل على أن هؤلاء لهم خصوصية عضوية أو نفسية أو بيئية تعمل على تسهيل استجابتهم للمؤثرات الخارجية.
ومن جانبا فإننا نعتقد أن وسائل الإعلام حتى وإن اشتملت على عدد من المواد الإعلامية المثيرة للغرائز فإنها لا تؤثر في الأفراد أو في حركة الظاهرة الإجرامية متى كانت هذه الوسائل لا تفعل أكثر من تصوير وتجسيد الوضع الأخلاقي والمستوى الفكري للمجتمع. فالعطب عندئذ يكمن في المجتمع ذاته لا في وسائل التعبير عنه.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً