طردُ ومنع المحامي اعتداءٌ على العدالة
مع أن مهنة المحاماة عالمياً تحظى بمكانة وتقدير كبيرين لما تمثّله وتقوم عليه من ضمانة كبرى لحماية الحقوق الإنسانية ، وأن المحامين في عامة دول العالم يؤدون واجبات المهنة، ويقومون بأعبائها تحت مظلة الأنظمة التي تحمي جانبهم وتشد ّ من أزرهم وتتفهم أهمية الدور الجليل الذي يقومون به.
إلا أن مهنة المحاماة في المملكة ما تزال تشهد الكثير من الصعوبات والعوائق التي تحول دون قيام المحامي بواجباته على الوجه المأمول ، وليست هذه العوائق محصورة ً في جانب الأنظمة التي حققت قدراً كبيراً مما هو مطلوب – وإن كانت ما تزال بحاجة إلى مزيد تطوير وتحديث يستوعب كافة جوانب حماية مهنة المحاماة ودعمها وتأييدها – إلا أن أبرز ما تواجهه هذه المهنة الشريفة من صعوبات يكمن في جانبين مهمين :
أولهما : عدم تفهم وقبول بعض القضاة أو العاملين في سلك العدالة أو بعض المسؤولين الذين ترتبط بهم أعمال هذه المهنة لأهمية دور المحامي وطبيعة الأعمال المطلوبة منه ، وعدم تصورهم على الوجه الصحيح لما ينبغي أن يُكفل للمحامي من حقوق وضمانات ، والحدود التي يجب أن تكون متاحة ً له لأداء مهمته.
ثانيهما : وجود بعض الممارسات غير المقبولة من أفراد محسوبين على مهنة المحاماة ، سواء في تعاملهم مع عملائهم أو في أسلوب أدائهم لأعمال المهنة لدى الجهات القضائية أو الحقوقية . وهذا الأمر يعود بالدرجة الأولى إلى عدم الدقة في اختيار من يشغل هذه المهنة وضعف الضوابط والشروط المطلوبة للترخيص له ، والتي كان ينبغي أن تشمل على اختبارات دقيقة ، ومقابلات شخصية ، تساعد على فرز الصالح الكفء القادر من غيره .
إلا أن الإشكالية الحقيقية تكمن فيما يواجهه بعض المحامين من المشهود لهم بالكفاءة والقوة والانضباط والسعي الجاد الدءوب الذي تفرضه عليهم أمانة المهنة للدفاع عن حقوق موكليهم ؛ حيث يواجهون في سبيل ذلك الكثير من الصعوبات والعوائق والمنغّصات التي تجعل الواحد منهم يحمل من الهمّ في سبيل ذلك أكثر مما يحمله بعض القضاة من أعباء العمل القضائي وإشكالاته التي لا تصل أبداً إلى درجة الإهانة والتحقير أو الإيذاء المعنوي الذي يتعرض له المحامي من بعض القضاة.
ولا أجدني أكشف ُ سراً حين أؤكد أن مثل هذه المنغصات التي تعترض سبيل المحامي في أدائه لعمله تؤدي إلى الكثير من النتائج السلبية غير المحمودة والتي من أهمها:
إضعاف مساهمة المحامين في رفع مستوى حماية الحقوق ورفع المظالم، وإيصال صوت الضعيف والمقهور والمغلوب على أمره ، ذلك أن مهنة المحاماة من أهم قنوات نصرة المظلوم وحفظ الحقوق وردع الظالم عن ظلمه ، ولا يخفى أن هذه الغاية الشريفة هي أساس قيام الدول والأمم والمجتمعات وبغيرها يدب الضعف وينخر في جسد الأمة والدولة حتى يأتي عليها.
والمحامون الشرفاء الذين يستشعرون ثقل الأمانة هم المهيأون أكثر من غيرهم لتحقيق هذا الدور والقيام به والمساهمة الفاعلة من أجهزة الدولة الرسمية والمنظمات الحقوقية المعنية بتحقيق العدل ، إذ لا غنى لهم عن دور المحامي في تحقيق هذه الغاية.
إن ما يواجهه المحامي من عوائق وصعوبات كثيرة يعتبر سبباً أساسياً لرفع أجور المحامين ، خاصة الأكثر كفاءة وخبرة ً منهم ، إذ لا يمكن لأحدهم – دون أجر مجز ولو نوعاً ما – أن يزج ّ بنفسه في غياهب قضية مفتوحة على كل الاحتمالات ابتداء بطول مدة التقاضي ، ومروراً بعدم القدرة مطلقاً على توقع ما تنتهي إليه القضية من نتيجة في ظل عدم التقنين، وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه ، وقبل كل ذلك استعداده النفسي لتحمل ما يمكن أن يواجهه من أذىً أدبي أو إهانة أو مقاومة القاضي لدور المحامي حتى يضطر المحامي لفتح باب قضية جديدة يكون هو والقاضي طرفيْها ، ويكون المحامي غالباً الطرف الخاسر.
إن هذا الواقع المزعج لمهنة المحاماة لدينا في المملكة جعل كثيراً من المحامين النبهاء الناجحين يتجهون بشكل تدريجي إلى الخروج من هذه المهنة بعد تحقيق قدر من النجاح فيها، والمكسب المادي الذي يُمكّنهم من الدخول في ميدان كسب أو استثمار خال من هذه المنغصات يحفظون به ما بقي من كرامتهم وصحتهم النفسية والجسدية . وبالتالي تخسر المهنة بذلك كثيراً من جنودها المخلصين.
إن كثيراً من المحامين في ظل هذه الأوضاع يتعذر عليهم – مع رغبتهم الصادقة في ذلك – الاحتساب في القيام ببعض أعمال المحاماة نصرة لمظلوم فقير أو محتاج ، لأنهم لا يسلمون من الأذى ويتضاعف عليهم الجهد ولا يجدون من العون والتفهم لاحتسابهم لدى القضاة ما يكون مشجعاً على فتح هذا الباب من أبواب العمل التطوعي الاحتسابي العظيم.
ولعل من أبرز صور الإيذاء وعدم التفهم لدور المحامي ما نسمعه بين وقت وآخر ونشاهده ونعايشه من تصرفات بعض القضاة الذين يبادرون بطرد المحامي أو منعه من الترافع في القضية أمامهم دون التزام بالآلية النظامية التي تعالج أي خطأ أو تجاوز يمكن أن يصدر من المحامي ، وتكون غالب هذه الحالات أيضاً دون صدور أي تجاوز أو مخالفة من المحامي ، بل وصلت في بعض الأحوال إلى منع القاضي للمحامي من القيام بالترافع قبل الدخول في القضية.
ولايمكن لي التعميم في هذا الخطأ على القضاة ، بل إن غالب أصحاب الفضيلة القضاة لا نجد منهم ولا نشاهد إلا القبول والتفهم التام لدور المحامي . إلا أن تكرار حصول بعض التجاوزات التي تخرج عن هذا الأصل أمرٌ لا ينبغي الاستمرار في السكوت عنه ، ويجب أن يكون للمحامين جهة ٌ تدافع عن حقوقهم ، وينبغي لأصحاب الفضيلة القائمين على القضاء والتفتيش القضائي أيضاً أن يسهموا في معالجة مثل هذه المشكلة حُباً في العدل ، وبغضاً للظلم ، وحفظاً للحقوق.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.
اترك تعليقاً