طرق إثبات التغرير في الزواج
التغرير يحتاج إلى توثيق وتثبيت لدى المحاكم المختصة، لأن المدعى عليه قد يجحد محل التغرير، علما بأن الأصل شرعاً وقانوناً أن يقوم المدعى بإثبات التغرير، ومحله لدى المحكمة المختصة أصولاً، وبعد تحقق المحكمة من استكمال الدعوى لأركانها المقررة شرع وقانونا وأن التغرير قد وقع من المدعى عليه، وهو بكامل قواه العقلية، ترسل المحكمة إعلاماً بذلك للمدعى عليه يشتمل على لائحة الدعوى وموعد المحاكمة، وتطلب من المدعى عليه الرد على لائحة الدعوى، فإن أنكر كلف المدعي بإثبات دعواه أصولاً. والتغرير يثبت بوسائل الإثبات الشرعية القديمة والحديثة، وفيما يلي بيانها في الفروع الآتية:
الفرع الأول – الإقرار.
أولاً – الإقرار لغة واصطلاحاً: تفيد قواميس اللغة العربية أن الإقرار هو الإثبات من قّر بالشيء، يقر به، وأقر بالحق اعترف به مأخوذ من المقر، وهو المكان كأن المقر جعل الحق في موضعه، ويقال أقررت الكلام لفلان إقرارا، أي بينته حتى عرفه.
وفي اصطلاح الفقهاء: إخبار بالحق في مجلس القضاء على وجه ينفي عن المقر التهمة والريبة، إلا أنه ليس إخبارا محضا، وإنما هو إخبار من وجه، وإنشاء من وجه.
وصورته أن يخبر المدعى عليه في مجلس القضاء أنه غرر المدعي، ويحدد واقعة التغرير، ووسيلته، وزمانه، ومكانه، وكيفيته، وأنه كان بكامل الأهلية، وقاصدا تغرير المدعى عليه بزواج صحيح متكامل الأركان والشروط؛ لتحقيق هدف سعى لتحصيله من هذا الزواج.
وقد ثبت الإقرار بأدلة كثيرة نذكر منها:
1- ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ [البقرة: 84].
2- ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 81].
3- ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 102].
4- ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172].
5– قوله – صلى الله عليه وسلم -: “واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها”.
6– أجمعت الأمة على صحة الإقرار؛ لأن العاقل لا يكذب على نفسه كذباً يضرّ بها.
7- البينة العادلة مظهرة للحق؛ لأن الإنسان لا يقر على نفسه كذبا، فكان القضاء بالإقرار قضاء بالحق، والإقرار آكد من الشهادة، فإن المدعى عليه إذا اعترف لا تسمع عليه الشهادة، وإنما تسمع إذا أنكر.
شرائط الإقرار:
يشترط في الإقرار ما يلي:
أ- أن يكون المقر عاقلاً مختاراً، فلا يصح الإقرار من المجنون، والمعتوه، والمغمى عليه، والنائم، والمكره.
ب- أن يكون الإقرار معبراً عن إرادة المقر صراحة، أ و دلالة، ومتفقاً مع موضوع الدعوى، أي منتجاً لها.
ج- ألا يكذّب ظاهر الحال الإقرار.
د- أن يكون المقر له ممن يثبت له الحق، أي أن تكون له أهلية وجوب، فلا يصح الإقرار بدين لبهيمة.
هـ- أن لا يكذّب المقر له المقر في إقراره.
والإقرار حجة قاصرة على المقر؛ لأنه شهادة على النفس، وهو أقوى أدلة الإثبات.
ويقسم الإقرار إلى قسمين:
الأول – الإقرار القضائي:
وهو اعتراف الخصم، أو من ينوب عنه إذا كان مأذوناً له بالإقرار بواقعة أدعي بها عليه، وذلك أمام القضاء أثناء السير في الدعوى المتعلقة بهذه الواقعة.
والثاني – الإقرار غير القضائي:
وهو الذي يقع في غير مجلس الحكم، أو يقع في مجلس الحكم في غير الدعوى التي أقيمت بالواقعة المقر بها.
وحكم الإقرار:
ثبوت الحق المقر به في ذمة المقر لغيره، وليس إثبات هذا الحق بواسطة الإقرار ابتداء، أي أن الإقرار كشف لنا عن ثبوت الحق في ذمة المقر في الماضي بسبب من الأسباب الشرعية غير الإقرار.
الفرع الثاني – الشهادة.
أولا – الشهادة لغة: تفيد قواميس اللغة العربية، أن للشهادة عدة معان هي:
أ- الاطلاع على الشيء ومعاينته، تقول: شهدت كذا، أي اطلعت عليه، وعاينته.
ب- الحضور، تقول: شهد المجلس، أي حضره.
ج- العلم: تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أي أعلم وأبين.
د- الإخبار بالشيء خبرًا قاطعًا، تقول: شهد فلان على كذا، أي أخبر به خبرًا قاطعًا.
هـ- الحلف، تقول: أشهد بالله لقد كان كذا، أي أحلف.
والشهادات جمع شهادة، وتجمع باعتبار أنواعها، وإن كانت في الأصل مصدرا.
ثانيا: الشهادة اصطلاحا:
عرفت المجلة الشهادة في المادة (1684) وجاء فيها:
الإخبار بلفظ الشهادة. يعني يقول أشهد بإثبات حق أحد الذي هو في ذمة الآخر في حضور القاضي، ومواجهة الخصمين، ويقال للمخبر شاهد، ولصاحب الحق مشهود له، وللمخبر عليه مشهود عليه، وللحق مشهود به.
ثالثا: العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي.
تبين بوضوح أن كلمة أشهد تجمع عدة معان، لا تحتويها كلمة أخرى، وهي: الحضور، والعلم، والإخبار القاطع، وكل هذه المعاني لا بد منها؛ لقبول الشهادة من الشاهد؛ ولهذا ذهب جماهير الفقهاء ومنهم الحنفية، والشافعية، والحنابلة إلى جعل كلمة أشهد من أركان الشهادة؛ لعدم وجود كلمة أخرى تشتمل على مضامين الشهادة المقبولة شرعاً.
رابعا: حكم الشهادة.
الشهادة فرض على الكفاية، يحملها بعض الناس عن بعض كالجهاد، إلا في موضع ليس فيه من يحمل ذلك ففرض عين، ودليل وجوبها، قول الله تعالى: ﴿ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: من الآية 283].
والشهادة أمانة، يجب أداؤها عند طلبه كالوديعة، فإن عجز عن إقامتها، أو تضرر بها، لم تجب عليه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: من الآية 282].
ومن له الكفاية من المال، فليس له أخذ الجعل أو الأجر على الشهادة؛ لأنه أداء فرض، فإن فرض الكفاية، إذا قام به البعض وقع منه فرضا، ومن لم تكن له كفاية، ولا تعينت عليه، حل له أخذه.
والشهادة في الحدود يخير فيها الشاهد بين الستر والإظهار؛ لأنه بين حسبتين: إقامة الحد، والتوقي عن الهتك، والستر أفضل[12].
وصورة الشهادة في التغرير:
أن يشهد عدلان من الرجال، أو رجل وامرأتان في مجلس القضاء على وقوع التغرير من الزوج أو الزوجة أو طرف ثالث كولي الزوجة مع بيان مكان التغرير ومحله وزمانه ومكانه وكيفته، وإن يتم التطابق بين شهادة الشهود؛ لتكون الشهادة منتجة، وأن تنتفي التهمة عن الشهود؛ لأن التهمة تنقض أو تبطل الشهادة.
السجل والتوقيع الإلكتروني
الفرع الثالث: السجل والتوقيع الإلكتروني.
العصر الذي نعيش فيه يسمى بعصر التقنية، وأصبحت التعاملات الإدارية، والتنظيمية تتم إلكترونيًا باستخدام أجهزة التقنية، كالحاسب الآلي، والإنترنت، وتوجد صعوبة في إثبات التعاملات الإلكترونية، مما استدعى كثيراً من الدول؛ لإيجاد التشريعات المنظمة لذلك، ومن هذه الدول، دول أوروبا، وأمريكا، والصين، وروسيا، واليابان، وماليزيا، ومن البلاد العربية، السعودية، ومصر، والإمارات، والأردن، وتونس، وغيرها.
وقبل الحديث عن حجية السجل الإلكتروني، وكذلك التوقيع الإلكتروني فلا بد من تحديد مفهوم السجل الإلكتروني، والتوقيع الإلكتروني من خلال القوانين المعمول بها في دول العالم بشكل عام، والإسلامي بشكل خاص وهي متقاربة في الجملة، ومن ثم تأصيلها الفقهي والشرعي.
أولا: تحديد مفهوم السجل الإلكتروني:
جاء في قانون المعاملات الإلكترونية الأردني ما يلي:
1- السجل الإلكتروني:
هو القيد، أو العقد، أو رسالة المعلومات التي يتم إنشاؤها، أو إرسالها، أو تسلمها، أو تخزينها بوسائل الكترونية.
2- المعاملات الإلكترونية:
هي المعاملات التي تنفذ بوسائل إلكترونية.
3- والوسائل الإلكترونية:
هي وسائل كهربائية، أو مغناطيسية، أو ضوئية، أو إلكترو مغناطيسية، أو أي وسائل مشابهة في تبادل المعلومات وتخزينها.
4- وتبادل البيانات الإلكترونية:
يعني نقل المعلومات إلكترونياً من شخص إلى آخر باستخدام نظم معالجة المعلومات، والمعلومات تشمل البيانات، والنصوص، والصور، والأشكال، والأصوات، والرموز، وقواعد البيانات، وبرامج الحاسوب وما شابه ذلك.
5- رسالة المعلومات:
تعني المعلومات التي يتم إنشاؤها، أو إرسالها، أو تسلمها، أو تخزينها بوسائل إلكترونية، أو بوسائل مشابهة بما في ذلك تبادل البيانات الإلكترونية، أو البريد الإلكتروني، أو البرق، أو التلكس، أو النسخ الرقمي.
ثانيا– تحديد مفهوم التوقيع الإلكتروني.
التوقيع الإلكتروني: هو البيانات التي تتخذ هيئة حروف أو أرقام أو رموز أو إشارات أو غيرها وتكون مدرجة بشكل إلكتروني، أو رقمي، أو ضوئي، أو أي وسيلة أخرى مماثلة في رسالة معلومات، أو مضافة عليها أو مرتبطة بها، ولها طابع يسمح بتحديد هوية الشخص الذي وقعها ويميزه عن غيره من اجل توقيعه، وبغرض الموافقة على مضمونه.
وعلى هذا يفترض أن التوقيع قد وضع من قبل الموقع؛ للتدليل على موافقته على مضمون المحرر، أو السجل، أو أنه قد وضعه الشخص المحدد في شهادة التصديق الرقمي، وبحسب الغرض المحدد فيها، كما يفترض أن السجل لم يطرأ عليه تغيير منذ وضع التوقيع الإلكتروني عليه.
وتتعدد صور التوقيع الإلكتروني وتتطور مع الزمن، ومنها:
أ– التوقيع الكودي أو السري: ويكون باستخدام مجموعة من الأرقام أو الحروف أو كليهما يختارها صاحب التوقيع؛ لتحديد شخصيته، ولا تكون معلومة إلا منه هو فقط، ومن يبلغه بها، وغالبا ما يرتبط هذا التوقيع بالبطاقات البلاستيكية والممغنطة وغيرها من البطاقات الحديثة المزودة بذاكرة إلكترونية، وينتشر استعمال هذه الطريقة من التوقيع في عمليات المصارف، والدفع الإلكتروني بصفة عامة.
ب– التوقيع البيومتري: ويعتمد هذا التوقيع على الصفات الخاصة بالإنسان، كبصة اليد، أو العين، أو الصوت، بعد أن تخزن المعلومات الخاصة بذلك بطريقة مشفرة في ذاكرة الحاسب الآلي؛ لتتم المطابقة بعد ذلك بين صفات المستخدم، والصفات المخزنة.
ج- التوقيع الرقمي: وتتم الكتابة الرقمية للتوقيع ولمحتوى المعاملة عن طريق التشفير الذي يتم باستخدام مفاتيح سرية، وطرق حسابية معقدة.
ثالثا – التأصيل الفقهي والشرعي للسجل والتوقيع الإلكتروني.
اختلف الفقهاء في حصر طرق الإثبات، وإطلاقها إلى فريقين:
الأول – ذهب جماهير الفقهاء ومنهم الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة[5] إلى أن طرق الإثبات محصورة في عدد معين مع اختلافهم في العدد، وهي الطرق التي ورد فيها نص شرعي صراحة، أو دلالة، فلا يقبل غيرها في إثبات الدعوى، ولا يجوز للقاضي أن يحكم إلا بناء عليها، والذي دفعهم لذلك التحوط في حفظ الحقوق، وعدم فتح الباب أمام الظلمة من الحكام؛ للتسلط على أموال الناس، وحقوقهم بطرق واهية ضعيفة لا أساس لها من الشرع.
قال ابن نجيم الحنفي:
“الحجة: بينة عادلة، أو إقرار، أو نكول عن يمين، أو يمين، أو قسامة، أو علم القاضي بعد توليته، أو قرينة قاطعة”.
وقال ابن رشد المالكي:
“القضاء يكون بأربع: الشهادة، واليمين، والنّكول، والإقرار”.
والثاني – يرى أن طرق الإثبات ليست محصورة في عدد معين، بل تشمل كل ما يثبت به الحق؛ وعلى هذا الأصل للخصوم أن يقدموا الوسائل التي تثبت الحق، وتقنع المحكمة، وللقاضي أن يقبل من الأدلة ما ثبت منها لديه بعد وزن البينات المقدمة في الدعوى، وعلى هذا الأصل يتخرج السجل أو المحرر الإلكتروني، وكذلك التوقيع الإلكتروني، كوسيلة معاصرة في إثبات الحقوق لدى القضاء.
قال ابن فرحون المالكي:
“البينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره، وسمى النبي – صلى الله عليه وسلم – الشهود بينة؛ لوقوع البيان بقولهم، وارتفاع الإشكال بشهادتهم”.
وقال الشيرازي الشافعي:
“ويقع البيان بالقول، ومفهوم القول، والفعل، والإقرار، والإشارة والكتابة، والقياس”.
وقال ابن القيم:
“البينة في كلام الله، ورسوله، وكلام الصحابة اسم لكل ما يبين الحق، فهي أعم من البينة في اصطلاح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين، أو الشاهد واليمين، ولا حجر في الاصطلاح ما لم يتضمن حمل كلام الله، ورسوله عليه، فيقع بذلك الغلط في فهم النصوص، وحملها على غير مراد المتكلم منها”
حجية السجل والتوقيع الإلكتروني:
تبين لنا دقة وصحة ما ذهب إليه المحققون من الفقهاء، كابن تيمية، وابن فرحون، وابن القيم، أن البينة تشمل كل ما يثبت الحق ويبينه؛ وهذا أمر مؤصل في أدلة كثيرة من القرآن والسنة نص عليها هذا الفريق في كتبهم المتخصصة في القضاء، والسياسة الشرعية، وبناء على ذلك نستطيع القول إن الفقه الإسلامي يستوعب كل ما يتوصل إليه علماء العصر من تقنية في مجال إثبات الحقوق، ومنع الجرائم ما دامت البينة قاطعة في إثبات الحقوق التي لا تثبت إلا بأدلة قطعية، أو ظنية في الحقوق التي تثبت بأدلة ظنية، أما الأدلة التي تفيد الشك والوهم والتردد شرعاً وعقلاً وواقعاً، فلا يبنى عليها حكم أو قرار.
إذا ثبت هذا: فإن المحرر الإلكتروني، والتوقيع الإلكتروني، يأخذ حكم البينات الخطية بنوعيها الرسمي، والعادي، كل وفق موضوعه وجهة اختصاصه، ويعطي الفقه الإسلامي السلطة التقديرية المقيدة بالمصلحة والعدل إلى القضاء، وفيما يلي بيان ذلك:
أ- الكتابة دليل من أدلة الإثبات، سواء أكانت عادية، أم إلكترونية، رسمية، أم عرفية.
ب- السندات الرسمية هي التي ينظمها الموظفون الذين من اختصاصهم تنظيمها طبقاً للأوضاع القانونية، ويحكم بها دون أن يكلف مبرزها إثبات ما نص عليه فيها، ويعمل بها ما لم يثبت تزويرها، أي حجة قاطعة فيما نظمت لأجله، ولا تقبل الطعن إلا بالتزوير، وهذا يشمل الوثائق التي تصدر عن الحكومات الإلكترونية.
ج- السند العادي: هو الذي يشتمل على توقيع من صدر عنه، أو على خاتمه، أو بصمة إصبعه، وليست له صفة السند الرسمي، ومن احتج عليه بسند عادي وكان لا يريد أن يعترف به وجب عليه أن ينكر صراحة ما هو منسوب إليه من خط، أو توقيع، أو خاتم، أو بصمة أصبع وإلا فهو حجة عليه بما فيه.
د- تكون للرسائل قوة الإسناد العادية من حيث الإثبات، ما لم يثبت موقعها أنه لم يرسلها ولم يكلف أحداً بإرسالها، وتكون للبرقيات هذه القوة أيضًا إذا كان أصلها المودع في دائرة البريد موقعاً عليه من مرسلها، وتكون لرسائل الفاكس، والتلكس، والبريد الإلكتروني قوة السندات العادية في الإثبات، وتكون رسائل التلكس بالرقم السري المتفق عليه بين المرسل والمرسل إليه حجة على كل منهما، وتكون لمخرجات الحاسوب المصدقة، أو الموقعة قوة الإسناد العادية من حيث الإثبات، ما لم يثبت من نسبت إليه انه لم يستخرجها أو لم يكلف أحدا باستخراجها.
ويشترط في المستند الإلكتروني الذي يثبت التغرير؛ ليأخذ الأحكام السابقة ما يلي:
1- إمكانية القراءة، أي أن تكون الرسالة معبرة عن محتواها.
2- القدرة على الاحتفاظ بالمعلومات؛ لإمكان الرجوع إليها عند الحاجة.
3- عدم القابلية للتعديل، أي عدم قابلية المحرر الإلكتروني للتعديل والتغيير، ويهدف هذا الشرط إلى إضفاء عنصر الثقة والأمان على المحرر الإلكتروني حتى يمكن الاعتماد عليه ومنحه الحجة الشرعية والقضائية.
وإذا استوفت المستندات الإلكترونية الشروط السابقة أصبحت حجة، كالدليل الكتابي الذي يتمتع بالحجية في الإثبات.
الفرع الرابع: نكول المدعى عليه، ويمين المدعية.
يكلف المدعي بالتغرير بإثبات دعواه، إذا أنكر المدعى عليه التغرير في النكاح؛ لأن جانب المدعي ضعيف؛ لأنها يدعي خلاف الظاهر، فكانت الحجة القوية واجبة عليه؛ ليتقوى بها جانبه الضعيف، والحجة القوية هي البينة، وجانب المدعى عليه قوي؛ لأن الأصل عدم التغرير فاكتفي منه بالحجة الضعيفة، وهي اليمين وهذا أصل يستند إلى أدلة كثيرة نذكر منها:
1- ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 282].
2- ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135].
3- جاء رجل من حضرموت، ورجل من كندة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم – فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي، فقال الكندي: هي أرضي، وفي يدي ليس له فيها حق، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- للحضرمي: “ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه، قال: يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء، قال: ليس لك منه إلا ذلك، قال: فانطلق الرجل؛ ليحلف له، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما أدبر لئن حلف على مالك؛ ليأكله ظلما ليلقينّ الله وهو عنه معرض. “.
إذا ثبت هذا: فإن قطع الخصومة حق للمدعي على المدعى عليه، فلو حلف المدعى عليه؛ لانقطعت الخصومة فإذا نكل، فقد ذهب الحنفية ومن معهم إلى القضاء بالنكول، وذهب الشافعية وقول للمالكية، إلى القضاء بالنكول ويمين طالب الدعوى أي المدعي، وذهب الحنابلة والظاهرية إلى عدم القضاء بالنكول.
جاء في كتاب الهداية:
“وإذا نكل المدعى عليه عن اليمين قضى عليه بالنكول، وألزمه ما أدعي عليه، وقال الشافعي-رحمه الله -: لا يقضى به، بل يرد اليمين على المدعي فإذا حلف يقضى به؛ لأن النكول يحتمل التورع عن اليمين الكاذبة، والترفع عن الصادقة، واشتباه الحال، فلا ينتصب حجة مع الاحتمال، ويمين المدعي دليل الظهور، فيصار إليه ولنا أن النكول دل على كونه باذلا، أو مقرا إذ لولا ذلك؛ لأقدم على اليمين إقامة للواجب ودفعًا للضرر عن نفسه، فترجح هذا الجانب، ولا وجه لرد اليمين على المدعي”.
وقال النووي:
“إذا أنكر المدعى عليه، واستحلف، فنكل عن اليمين لم يقض عليه بالنكول بل ترد على المدعي، فإن حلف قضى له”.
وقال ابن القيم:
“وإن نكل عن اليمين فمن قضى عليه بالنكول قال: النكول إقرار أو بذل وهذا جيد إذا كان المدعى عليه هو الذي يعرف الحق دون المدعي، قال عثمان لابن عمر تحلف أنك بعته، وما به عيب تعلمه، فلما لم يحلف قضى عليه، وأما الأكثرون فيقولون إذا نكل ترد اليمين على المدعي، فيكون نكول الناكل دليلا، ويمين المدعي دليلا ثانيا، فصار الحكم بدليلين”.
والراجح في نظري القضاء بالنكول واليمين معًا؛ لتحقيق غلبة الظن بالنكول واليمين معا.
يؤيد ذلك ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إذا ادعت المرأة طلاق زوجها، فجاءت على ذلك بشاهد عدل استحلف زوجها، فإن حلف بطلت شهادة الشاهد، وإن نكل، فنكوله بمنزلة شاهد آخر، وجاز طلاقه”
اترك تعليقاً