القضاء اللبناني وظاهرة الحدود
(محاضرة ألقيت في نقابة المحامين في طرابلس لبنان في 17.1.04)
إن اختصار المسافات وتجاوز الحدود كان لا بد له من أن ينعكس على التعامل القضائي الدولي، فلا يكون القضاء مجرد سلطة في الدولة يعبر عن سيادة ، وإنما يناط به دور أكثر بعدا وتحررا : أن يتحول القضاء من مجرد الالتزام في تحديده لصلاحيته أو تنفيذ الأحكام بمجرد معايير إقليمية مرسومة مسبقا إلى الالتزام بما يقضي به من خارج الحدود.
كما يجد ذلك القضاء نفسه، في عملية اختياره للقانون الواجب التطبيق وملزما دائما باعمال القوانين التي هي من خارج الحدود.
فهدف القضاءلم يعد هو التعبير والحرص على السيادة والعمل على تحقيق الانسجام والتناسق بين المحاكم في الداخل وحسب حفاظا على وحدة الدولة وإنما أن يكون هذا القضاء هو القضاء الطبيعي للفصل في النزاع كما وتطبيق القانون الطبيعي على العلاقة دون تجاهل لضرورة إقامة التناسق مع المحاكم في الخارج كما في الداخل تحقيقا لفكرة التعاون القضائي الدولي . فمن التنسيق الداخلي بين الأقضية والقوانين إلى التنسيق الدولي بين الأقضية والقوانين. فالدولة عندما تصيغ قواعد الصلاحية القضائية لم يعد هدفها الأساسي مجرد تأكيد سيادتها تجاه الدول الأخرى[1].
كما أنها عندما تضع قواعدها في حل النزاع إنما يكون من أهدافها الأساسية المحافظة على البعد الدولي للعلاقة القانونية المطروحة، فهنالك دائما انعكاس من الخارج على الداخل، بل أن هذا الانعكاس قد يصل إلى حد تخلي قاضي النزاع عن توسل تلك الأداة الفنية المعتمدة في الإرشاد إلى القانون الذي يحكم النزاع وذلك من خلال اعمال قواعد مادية مباشرة عندما تكون هي القانون الطبيعي لتلك العلاقة.
والسؤال الذي نطرحه في هذا الإطار هو الآتي:
هل أن القضاء اللبناني هو في هذا السياق؟
إن ظاهرة الحدود كانت دائما ولا تزال في جوهر العمل القضائي أن من ناحية تحديد الاختصاص الدولي لذلك القضاء أو من الناحية الاختصاص التشريعي الدولي الذي يعمله ذلك القضاء، مع ما في ذلك من تلازم بين الاختصاصيين: فاختصاص القضاء اللبناني في فصل النزاع يستتبع بالضرورة إخضاع العلاقة النزاعية إلى الأسلوب النهج الذي يعتمده القضاء اللبناني لحل ذلك النزاع. بل أن
القضاء اللبناني كثيرا ما يتعامل مع قضاء آخر لا يرتبط بأي حدود، الذي هو التحكيم فالمحكم خلافا للقضاء لا ينتمي إلى دولة ولا يلتزم مسبقا بقوانين دولة أو بقواعد نزاع لدولة.
أن البحث في القضاء اللبناني وظاهرة الحدود يمكن تناوله من زاويتين:
الزاوية الأولى : موسعة تتعرض للمسألة من ناحيتين:
الناحية الأولى : القضاء اللبناني وتجاوز الحدود، وهو ما يفترض دراسة مسألتين : القضاء اللبناني والقضاء خارج الحدود. والقضاء اللبناني والقواعد القانونية خارج الحدود.
الناحية الثانية : القضاء اللبناني والقضاء بلا حدود، وهو ما يفترض دراسة مسألتين:
القضاء اللبناني وحضوره في التحكيم، والقضاء اللبناني والتوسع في مجالات التحكيم.
الزاوية الثانية : ضيقة تقتصر على التعرض إلى الناحية الأولى من الطرح السابق،وهو ما نفضل انتهاجه وذلك للأسباب الآتية:
1- أن التحكيم هو قضاء إرادة وليس قضاء دولة.
2- إن الحدود ترتبط بالدولة وليس بالتحكيم والمطلوب هو معالجة مدى ارتباط القضاء اللبناني بتلك الظاهرة من زاويتين: الاختصاص القضائي والاختصاص التشريعي الذي يتصل أما بالدولة واما انه عبر الدول. اما التحكيم فهو يلتزم الإرادة ,فهي في مصدره وفي آثاره, وبما يراه مناسبا من القواعد القانونية. فقد نصت المادة 813 من قانون أصول المحكمات المدنية على ما يأتي: يفصل المحكم في النزاع وفقا للقواعد القانونية التي اختارها الخصوم وإلا فوفقا للقواعد التي يراها مناسبة وهو يعتد في جميع هذه الأحوال بالأعراف التجارية.
3- أن ما يطلب من القضاء في مسائل التحكيم هو أما مساعدة المحكم في الإجراءات التحكيمية… من ذلك تمديد مهلة التحكيم بناء على طلب أحد الخصوم أو الهيئة التحكيمية ( المادة 773أ. م م ) أو في النظر في عوى تزوير مستند عرض على المحكم ( المادة 784 أ. م. م.( أو الحكم على من يتخلف من الشهود والحضور أمام المحكم بالجزاءات المقررة قانونا والأمر بالأنابات القضائية (المادة 779 أ. م. م.) كما أن القضاء يساهم في تعيين المحكم ( المادة 772 أ. م. م. ) أما الرقابة على القرارات التحكيمية عندما يتوسل أحد فرقاء النزاع التحكيمي أمامه بإحدى الطرق الطعن بالقرار التحكيمي المنصوص عليها في القانون وأما إعطاء الصيغة التنفيذية عندما يكون التحكيم داخليا ( المادة 793 وما يليها أ. م. م) وأما الاعتراف بالقرار التحكيمي عندما يصدر في الخارج أو في تحكيم دولي وتنفيذه ( المادة 814 وما يليها واتفاقية نيويورك سنة 1958 التي انضم إليها لبنان بالقانون رقم 629 تاريخ 23 نيسان 1997) .
لذلك سندرس في قسمين:
– القضاء اللبناني والقضاء خارج الحدود ( قسم أول) .
– القضاء اللبناني والقواعد القانونية خارج الحدود ( قسم ثان) .
قسم أول: القضاء اللبناني والقضاء خارج الحدود.
إن القضاء اللبناني في علاقته بالأقضية الأجنبية تحكمه قاعدة أساسية : التناسق بين الأقضية وفي ذلك نزعة عالمية تتجاوز إقليمية الاختصاص القضائي لينفتح على الأقضية فيما وراء الإقليم والحدود إلا أن هذا التناسق وهذه النزعةلم يصلا إلى مداهما.
1- أن التنسيق المشار إليه يبرز بصور مختلفة:
أ- المرونة في المعايير المعتمدة في تحديد الاختصاص الدولي للمحاكم اللبنانية. فمعظم القواعد المنظمة لذلك الاختصاص تحركها قاعدة الإرادة.فالاختصاص الدولي للمحاكم اللبنانية يخضع مبدئيا للأحكام المتعلقة بالاختصاص الداخلي دون تمييز بين لبناني وأجنبي ( المادة 74 من قانون أصول المحكمات المدينة) والقاعدة في الاختصاص الداخلي أنه ليس ملزما. فهو لا يتعلق بالنظام العام إلا في الحالات التي ورد فيها نص على ذلك، ثم أن ضوابط اختصاص المحاكم اللبنانية في النظر في العلاقات التي تتجاوز الحدود هي ضوابط موضوعية ترتكز إلى وجود ارتباط ما بين العلاقة النزاعية وبين النظام القانوني اللبناني.
هذا الارتباط الموضوعي قد يكون على أساس الجنسية اللبنانية للمتقاضين و هو في مسألتين: الأحوال الشخصية ،إذا كان أصحاب العلاقة من اللبنانيين ( المادة 75 أ م. م. ) والنزاعات الناشئة عن عقد الزواج في بلد أجنبي بين لبنانيين أو بين لبناني وأجنبي بالشكل المدني المقرر في قانون ذلك البلد ( المادة 79 أ. م. م) وذلك نظرا للخصوصية التي تتمتع بها هذه المسائل في المجتمع اللبناني كمجتمع ديني متنوع وضرورة إبقاء الارتباط بين أطراف العلاقات وإقليم هذه الدولة وواجبها في أداء العدالة لمواطنيها في هذه المسائل[2]. وقد يكون ذلك الارتباط الموضوعي على أساس وجود أحد عناصر النزاع على الإقليم اللبناني حتى في مسائل الأحوال الشخصية سواء أكان المدعى عليه لبنانيا أو أجنبيا ليس له محل إقامة حقيقي أو مختار أو سكن في لبنان، ومن ذلك أن يكون الموضوع هو تسليم الصغير إلى من له حق ضمه إليه متى كان الصغير موجودا في لبنان أو كان من كان له حق ضمه إليه مقيما في لبنان المادة 78 فقرة 3أ . م. م. ) وفي الحالتين لا عبرة لجنسية أطراف العلاقة. أو إذا تعلقت الدعوى بنسب القاصر أو بالولاية عليه أو بالوصاية أو بالولاية على مال شخص مطلوب الحجز عليه أو مساعدته قضائيا وكان القاصر أو المطلوب حجره أو مساعدته قضائيا في لبنان ( المادة 78 فقرة 4 أ . م. م ) أو إذا كانت الدعوى معارضة عقد زواج يراد إبرامه في لبنان المادة 78 فقرة 5 أ. م. م ) وقد يكون ذلك الارتباط الموضوعي لوجود أحد عناصر المنازعة في لبنان ولكن خارج إطار الأحوال الشخصية, من ذلك وجود المال في لبنان أو إبرام العقد فيه أو شرط تنفيذ أحد الالتزامات الرئيسية الناشئة عنه في لبنان ( المادة 78 فقرة 1 أ. م. م. ) كما أعطى قانون أصول المحاكمات المدنية للمحاكم اللبنانية نوعين من الاختصاص الإضافي للقضاء اللبناني، الأول يتعلق بإعطاء ذلك القضاء الاختصاص إذا كان موضوع الطلب تدبيرا مؤقتا أو احتياطيا يتم في لبنان ( المادة 78 فقرة 2أ. م. م.
والثاني يتعلق بالاختصاص الاحتياطي للمحاكم اللبنانية وذلك في القضايا المتعلقة بأحد اللبنانيين أو بمصالح كائنة في لبنان إذا لم تكن هنالك محاكم أخرى مختصة (المادة 76 أ.م.م) وذلك تحقيقا للعدالة ولضرورة أحقاق الحق عند عدم وجود قضاء مختص.
الأخذ بالاعتبار بفكرة الانفتاح القضائي بأن القضاء اللبناني ليس وحده الذي يعيش فوق أرض البسيطة[3] يفترض بأن يأخذ ذلك القضاء بالحسبان الأفكار السائدة في القانون المقارن مثل فكرة الفعالية والقدرة على كفالة آثار الحكم الصادر عن هذا القضاء كما يعتمد على المعايير التي يتضح منها أن ثمة ارتباطا بين المنازعة والإقليم اللبناني مما يبرر اختصاص ذلك القضاء في المقابل، لا اختصاص للقضاء اللبناني عندما تفتقد العلاقة النزاعية ذلك الارتباط فلا يكون القضاء اللبناني هو القضاء الطبيعي للفصل في العلاقة. إلا أن ما يقتضي الإشارة إليه هو أنه يقتضي الوصول بهذا الانفتاح إلى نهاياته، بالانطلاق من الفكرة الآتية:
أن لا يكون الاختصاص للقضاء اللبناني ألا إذا كان هذا القضاء هو القضاء الملائم والطبيعي للنظر في العلاقة. وبالمفهوم العكسي: ألا يقتضي أن يرفع القضاء اللبناني يده عن النزاع في كل مرة لا يجد فيها أنه هو القضاء الملائم والطبيعي للعلاقة؟ فكما أن على القضاء اللبناني، وفق أحكام المادة 369 من قانون أصول المحاكمات المدنية، أن يفصل في النزاع وفق الأحكام القانونية التي تطبق عليه، فإنه يقتضي كذلك أن لا ينظر القضاء اللبناني في ذلك النزاع ألا اذا كان هو القضاء الطبيعي لذلك النزاع، وإلا لأهدر الهدف الذي توخاه المشترع من النص المشار إليه.
ب- المرونة في تعامل القضاء اللبناني مع الأحكام الأجنبية التي يطلب إعطاءها الصيغة التنفيذية في الداخل، إذ يكفي لإعطاء الحكم الأجنبي قوة النفاذ في لبنان أن يكون ذلك الحكم قد صدر عن قضاء مختص بحسب قانون البلد الذي صدر فيه دون أن يكون لقواعد الاختصاص الواردة في التشريع اللبناني حتى المتعلقة بالقانون الدولي الخاص شأن في ذلك.
بل يعطي ذلك الحكم الصيغة التنفيذية، ولو كانت المحاكم اللبنانية هي مختصة أيضا طالما إنه لم يدل بوجود دعوى سابقة لا تزال عالقة أمام تلك المحاكم ويشترط أن يكون الحكم الأجنبي قد اكتسب في دولته قوة القضية المحكوم بها والقوة التنفيذية، وأن يكون المحكوم عليه قد أبلغ الدعوى وتأمنت له حقوق الدفاع وأن يكون صادرا باسم دولة تسمح قوانينها بتنفيذ الأحكام اللبنانية على أراضيها وأن لا يحتوي الحكم الأجنبي على ما يخالف النظام العالم (المادة 1014 أ. م. م. ) والمقصود بالنظام العام في معرض الصيغة التنفيذية هو النظام العام الدولي وليس الداخلي وهو ما نصت عليه المادة 817 فقرتها الخامسة من قانون أصول المحاكمات المدنية بالنسبة لقبول استئناف القرار الذي يمنح الاعتراف أو الصيغة التنفيذية للقرار التحكيمي الدولي أو الصادر في الخارج . فإذا كانت (المادة 1014 أ. م. م.) لم تذكر في متنها صراحة لمنح الحكم الأجنبي الصيغة التنفيذية في لبنان سوى أن يكون مخالفا للنظام العام دون تحديد لصفته، فإن طبيعة العلاقة، وهي دولية خاصة، تفرض إخضاعها للأحكام التي ترعى بنيه هذه العلاقة وهي القانون الدولي الخاص الذي يبحث في مخالفة النظام العالم الدولي لاستبعاد القانون الأجنبي أليس مجرد المخالفة للنظام العام الداخلي، وإلا لما أمكن تطبيق أي قانون أجنبي، ولما أمكن إعطاء أي حكم أجنبي قوة النفاذ على الأراضي اللبنانية نظرا للاختلاف في التشريع وفي المفاهيم القانونية بين الدول.
إن النظام العام الدولي هو أكثر انفتاحا وذلك لجهتين:
الأولى : مستمدة من القاعدة الآتية:
إنه ليس كل ما يخالف النظام العام الداخلي يخالف النظام العام الدولي[4].
الثانية : النظرة المخففة في القضاء اللبناني لفكرة النظام العام الدولي نفسه، وهو ما يبرز بصورة واضحة في الأحكام الأجنبية التي فصلت في مسألة الأحوال الشخصية عندما لا يكون اختصاص القضاء اللبناني فيها هو اختصاص نوعي. وهو لن يكون كذلك إلا في الحالات التي تتعلق بلبنانيين أبرموا زواجا أمام المراجع الدينية في لبنان أو في مسائل توزيع التركات عندما يكون المورث مسلما[5].
كذلك تبرز هذه النظرة المرنة في منح القضاء اللبناني للصيغة التنفيذية للأحكام الأجنبية غير المعللة عندما لا توجب قوانينها التعليل مع أن التعليل هو شرط من شروط صحة الأحكام اللبنانية ( المادة 537 أ. م. م)[6] أو في حالة تتعلق بحقوق مكتسبة في الخارج[7] أو بنود الذهب عندما تتناول أيفاء دوليا[8] .
وقد قضت إحدى المحاكم اللبنانية بأن القرار التحكيمي الذي حكم بفائدة يبلغ معدلها حوالي 75 % لا يخالف النظام العام اللبناني. جاء في القرار:
” إن كيفية احتساب الفوائد وتحديد معدل الفائدة لا يتعلق بالنظام العام، فمعدلات الفوائد متروك أمر تحديدها لقانون العرض والطلب ولحركة الأسواق المالية الحرة التي تسهم في تحديد تلك المعدلات دون أن تفرض القوانين والتشريعات حدا أقصى لها.
والقانون اللبناني خاصة في مجال التجارة، لم يضع حدا أقصى لمعدلات الفائدة[9]فالمسألة تتعلق بنظر المحكمة بمصلحة الفرقاء وليس بمصلحة عليا للمجتمع الداخلي أو الدولي مع أن التجاوز في معدل الفائدة يشكل جرما حزائيا نص عليه قانون العقوبات[10].
ج- الإنابة القضائية. ففي مقابل إقرار المشترع اللبناني للقضاء اللبناني بحق استنابة محكمة دولة أجنبية لاتخاذ إجراءات إثبات يقتضيها نظر الدعوى ( المادة 140 أ. م. م. ) أو لاستجواب خصم في الدعوى ( المادة 225 أ. م. م) فإن القضاء اللبناني ، تكريسا لفكرة التعاون القضاء الدولي يقبل الإنابات القضائية الصادرة عن قضاء أجنبي [11].
د- اعتراف القضاء اللبناني بالأحكام القضائية الأجنبية في مادة الإفلاس وهو ما يعبر عنه بالإفلاس أو الإعسار عبر الحدود[12]. وذلك فيما لو توافرت في تلك الأحكام وكأي حكم آخر شروط الصيغة التنفيذية، التي سبقت الإشارة إليها، فرقابة القضاء اللبناني على الحكم الأجنبي القاضي بالإفلاس هي رقابة خارجية دون أن يكون له حق بإعادة النظر في الأساس (المادة 1015أ. م.م. ) ويترتب على ذلك إعطاء ذلك الحكم كافة مفاعيله في لبنان وذلك ابتداء من تاريخ صدور القرار بمنح ذلك الحكم تلك الصيغة، من ذلك : الاعتراف بقوة القضية المحكمة للحكم الأجنبي ومنحه قوة النفاذ على الاقليم اللبناني وما يستتبع ذلك من كف يد المدين المفلس في الخارج وتوقف الملاحقات الفردية وتعطيل إجراءات التنفيذ التي كانت قائمة وحصر تلك الملاحقات بوكيل التفليسه وذلك في الحدود التي يقررها القانون الأجنبي ،أي قانون المحكمة التي قضت بالإفلاس ، كما لا تكون من صلاحية القضاء اللبناني إعلان إفلاس آخر. فالحكم الأجنبي الذي منح الصيغة التنفيذية تكون له قوة القضية المحكمة وهو ما تكرس بقرارات مستمرة[13].
غير أن الصيغة التنفيذية لا تمنح لذلك الحكم فيما لو كانت هنالك دعوى بذات النزاع كانت لا تزال عالقة أمام القضاء اللبناني قدمت بتاريخ سابق للدعوى التي اقترنت بالحكم الأجنبي القاضي بالإفلاس( المادة 1016 أ. م.م. ) في المقابل أن الصيغة التنفيذية لا تكون مطلوبة عند وجود معاهدة دولية تنص على ذلك[14].
بل إن بعض الحكام الأجنبية لا تحتاج إلى صيغة تنفيذية. نصت المادة 1012 أ. م. م. على ما يأتي :
“تنتج الأحكام الأجنبية المتعلقة بالأهلية وبالأحوال الشخصية والقرارات الصادرة عن القضاء الرجائي مفاعليها حكما في لبنان دون اقترانها بالصيغة التنفيذية شرط أن لا تكون موضوع نزاع”.
2- إن هذه النزعة العالمية للقضاء الوطني لا يزال يعترضها بعض العقبات من خلال عودة ذلك القضاء في حالات معينة إلى الإقليمية المجردة.
فمن القرارات النادرة في موضوع الدفع بالإحالة لسبق الإدعاء الدولي أو بالتلازم رفضت المحكمة الابتدائية في بيروت غرفتها الثالثة في حكمها تاريخ 11 تموز سنة 1996 الدولة اللبنانية ضد شركة روماك فرانس[15] كل دفع بإحالة الدعوى إلى محكمة أجنبية لسبق الادعاء أو للتلازم الدوليين . فإقامة الدعوى أولا أمام محكمة أجنبية أو وجود دعوى تحتوي على طلبات متلازمة أمام تلك المحكمة لا يشكل سببا يخول المحكمة الوطنية إحالة الدعوى إلى القضاء الأجنبي لقيام ذات النزاع أمام ذلك القضاء أو للتلازم بين الدعويين وذلك خلافا للوضعية في الاختصاص الداخلي ( المواد 52، 54 ، 55 أ. م. م. ) وقد استندت الغرفة الابتدائية في بناء حكمها إلى واقع النصوص القانونية التي تحكم المسألة . فالنصوص القانونية التي تحكم نظرية الدعوى والاختصاص تحدد صلاحية القضاء الوطني عند توافر شروط يعينها النص كما تعين الحالات التي يعود فيها لمحكمة وطنية أن ترفع يدها عن الدعوى لمصلحة محكمة وطنية أخرى بالإحالة إليها لسبق الادعاء أو للتلازم، فلا يعود لذلك القضاء أن يعلن عدم اختصاصه حيث يكون ملزما بموجب النص بإعلان ذلك الاختصاص الذي ترسمه له التشريعات الوطنية كما لا يملك ذلك القضاء أن يتنازل عن ذلك الاختصاص تحت أي نوع من الحجج. فعند وجود النص على القضاء الالتزام به. كذلك فإن الاعتراف بسبق الادعاء الدولي أو بالتلازم معناه الاعتراف بعدالة القضاء الأجنبي على حساب القضاء الوطني، كما أن في ذلك تنازل من القضاء عن اختصاصه مع أنه هو المختص أصلا للفصل في النزاع تطبيقا للنصوص القانونية التي تحكم هذا الاختصاص، فحيث يكون القضاء الوطني مختصا حسب النص، لا يملك هذا القضاء أن يعلن عدم اختصاصه دون نص.
ثم كيف يمكن حل النزاع بين الأقضية، القضاء الوطني والقضاء الأجنبي عندما ترفع كل محكمة يدها عن فصل النزاع بحجة سبق الادعاء؟.
قرار المحكمة الابتدائية قد إنبرم لهذه الجهة: فالاستئناف الذي تقدمت به شركة روماك قرانس لم يتناول هذه المسألة [16] وإنه لمن المصادفة أن تكون المحاكم الشرعية[17] قد سبقت الغرفة الابتدائية المدنية في إقرار المبدأ، ومن المصادفة أيضا أن الاستئناف الذي تناول الحكم الشرعي لم يتناول هذه المسألة كذلك [18].
إن الحجج التي ارتكز إليها الدفع بسبق الادعاء أو بالتلازم الدوليين وهي التقليل من حالات الغش نحو الاختصاص والإقلال من حالات ما أسمي بالتنازع بين الحكام وخاصة إقامة التناسق بين الأقضية[19] إن هذه الحجج لم تقنع هذه المحاكم فالمادتان 54و 56 من قانون أصول المحاكمات المدينة بنصهما على الدفع بسبق الادعاء إنما وردتا في الفصل المختص بالدفاع والدفوع الإجرائية والدفع بعدم القبول ولا يمكن التوسع في تفسير تلك النصوص لتشمل الاختصاص الدولي لسبب بسيط هو أن ما أشارت إليه المادة 74 محاكمات مدنية من تعميم يتناول وحسب مسائل الاختصاص وليس المسائل المتعلقة بإجراءات الدعوى والدفوع الدفاع .فتلك المسائل تبقى منحصرة في القانون الداخلي دون تجاوز فالبرغم من موقف فقهي مخالف فقد بقيت النظرة إلى المسألة هي النظرة الإقليمية إلى قواعد الاختصاص فكانت “العزلة القانونية”[20] في زمن الحدود وقوانين عبر الدول والأقاليم وهو ما يحرك النقاش مجددا حول مسألة مركزية هي في مدى دور القضاء في إٌقامة الملاءمة بين واقع العصر وواقع القانون أم أن ذلك هو دور المشترع؟ وذلك في الوقت الذي لا يزال فيه القضاء الفرنسي يستقبل هذه النظرية فبعد أن كانت محكمة التمييز الفرنسية ترفض رفع يدها عن الدعوى والأخذ بالدفع بالإحالة لسبق الادعاء الدولي وبعبارات صريحة وخاصة في قرارها تاريخ الأولى من كانون الأول سنة[21] 1996 عادت نفس المحكمة عن ذلك الموقف وبقرارات مستمرة[22] والموقف هو نفسه بالنسبة للدفع بالتلازم الدولية أولا بصورة ضمنية وحذر[23] وبصراحة وانفتاح بعد ذلك[24].
بل أن الدفع بسبق الادعاء الدولي قد تكرس أيضا باتفاقيات دولية ، ومن ذلك اتفاقية بروكسل تاريخ 27 أيلول سنة 1968 التي أبرمت بين الدول الأعضاء في المجموعة الاقتصادية الأوروبية C.E.E المطبقة في المواد المدنية والتجارية ( المادة 21 منها) ما عدا ما استثنته تلك الاتفاقية صراحة من أحكامها[25].
قسم ثان: القضاء اللبناني والقواعد القانونية خارج الحدود.
القضاء اللبناني في تعامله مع تلك القواعد إنما تحكمه قاعدة أساسية : المرونة في تطبيق القضاء اللبناني لغير قوانينه ( حالة أولى) أو قواعد هي من مصدر دولي (حالة ثانية) أو ذات بعد عالمي ( حالة ثالثة) .
1- في الحالة الأولى : نصت المادة 142 من قانون أصول المحاكمات المدنية على ما يأتي: لا يطلب الدليل على وجود القانون اللبناني. أما إثبات مضمون القضاء الأجنبي فيطلب ممن يتمسك به ما لم يكن القاضي عالما به. وهو ما يرتكز على بعدين قانونيين في دور القضاء اللبناني إزاء تطبيق القانون الأجنبي الأول، إن المسألة في القانون الأجنبي ليست مسألة تطبيقه فقواعد النزاع اللبنانية كأية قاعدة نزاع في أية دولة، تشير إلى تطبيق قانون معين على علاقة دولية خاصة تتجاوز الحدود ولكن أن تعيين تلك القواعد هوية ذلك القانون[26] وقد أكدت ذلك التطبيق في التحكيم الداخلي المادة 766 فقرتها الثالثة. فالفرقاء حسب ذلك النص يمكنهم الاتفاق على أن يكون الحل وفق أحكام قانون أجنبي أو عرف أجنبي ” الثاني أن القاضي اللبناني من حقه التثبت من ذلك القانون وتطبيقه تلقائيا إذا كان عالما به، ولكن بعد طرح ذلك القانون للنقاش تأمينا لوجاهية المحاكمة ( المادة 3737 فقرة 2 و 3 أ. م. م. ) كما أن تفسير القضاء اللبناني للقانون الأجنبي فهو كما يفسر في دولته ، وأن محكمة التمييز التزاما بطبيعة هذا القانون فهو أجنبي ترفض مراقبة محاكم الأساس في تفسيرها لذلك القانون، فهو قانون مجتمع آخر لا يحق للمحكمة العليا التدخل في تطبيقه. ولعل هذه المرونة في التعامل مع القانون الأجنبي من مختلف النواحي المشار إليها وبهدف تحقيقها كانت هي الدافع لذلك القضاء بأن يصنف ذلك القانون في خانة وفئة الوقائع أو أن يعتبره بمثابة الواقع أو أن المسألة هي خليط بين الواقع والقانون مع ما يستتبع ذلك من حرية في الإثبات ما عدا الإقرار واليمين وطرقه و ورفض المحكمة العليا ممارسة رقابتها على تطبيق ذلك القانون[27].
بل أن المرونة و الانفتاح على القانون الأجنبي هو ما حمل محكمة التمييز الجزائية غرفتها السابعة على أن تعترف بالعفو الأميري الذي شمل الجرم الذي يلاحق المدعي عليه بسببه في لبنان وقد ارتكب في الخارج.
ففي قرارها رقم 140 سنة 1998 دعوى رياش حنا قضت المحكمة العليا بما يأتي:
إذا صدر حكم نهائي في الكويت شمله عفو أميري فيما بعد، فإنه لا يجوز ملاحقة المدعي عليه مجددا أمام القضاء اللبناني عملا بالمادة 27 من قانون العقوبات، حتى وإن كان الحكم الكويتي الصادر بحق المدعى عليه غيابيا، إذا أن المادة 27 لم تفرق بين الحكم الوجاهي والحكم الغيابي مما يستدعي تفسير عبارة حكم نهائي بمعناها المطلق[28].
ولكن السؤال الذي يبقى مطروحا هو الآتي: هل توصل القضاء اللبناني إلى إعمال قوانين النظام العام الأجنبي عندما لا تشير قواعد النزاع بتطبيقها تواصلا مع ذلك الانفتاح؟
إن القضاء اللبناني كما رفض إحالة الدعوى لسبق الادعاء والتلازم الدوليين، كذلك يستخلص من بعض القرارات النادرة في الموضوع وبشكل يقيم توازنا في نظرة القضاء اللبناني إلى تنسيق الأقضية كما تنسيق الأنظمة عدم التزام ذلك القضاء تطبيق أي قانون أجنبي، مهما كانت طبيعته أو خاصته من خارج قواعد النزاع، وذلك خلافا لنزعة تشريعية وقضائية وفقهية في الموضوع تهدف إلى تأمين التناسق والتعاون بين الأنظمة كمرادف يقابل تأمين التناسق والتعاون بين الأقضية[29]. هو ما أكدته محكمة استئناف لبنان الشمالي المدنية ، قرارها رقم 249 تاريخ 27 آذار سنة 1957 بعبارات صريحة فبنظرها:
إن معاملة تحويل فرنكات من أفريقيا الى فرنسا لأجل دفعها في لبنان بالعملة اللبنانية ممنوعة في القوانين الفرنسية ولكنها غير ممنوعة في القوانين اللبنانية حيث أن معاملات القطع حرة لا تصدم بالانتظام العام. وإنه يوجد نوعان من الانتظام العام: الأول هو الانتظام العام الداخلي والآخر الانتظام العام الدولي: وقواعد الانتظام العام الداخلي تلزم فقط مواطني الدولة والتي تطبق هذه القواعد أما الانتظام العام الدولي فإن قواعده تلزم الجميع ويعتبر ضد الانتظام العام الدولي مثلا بيع العبيد والاتجار بالرقيق. أما عملية تهريب العملة فإنها لا تدخل ضمن الانتظام العام الدولي وبالتالي لا يمكن اعتبارها باطلة إلا في الدولة التي تتضرر منها وذلك وفقا لبعض الآراء في العلم والاجتهاد. إلا أنه يمكن القول أن القوانين التي تمنع تحويل العملة تتعلق بالقوانين السياسية وأن هذه القوانين تطبق حتما في محل صدورها فقط ولا يمكن بالتالي أن تكون نافذة في الخارج كما وأنه لا يمكن أن يعتد بعدم مشروعية العقد لمخالفة هذه القوانين للتذرع بالآداب العامة التي تلزم معنويا سائر الدول بمعاملاتها مع بعضها البعض[30] .
2- في الحالة الثانية: تعامل القضاء للبناني مع القواعد الدولية: نصت المادة الثانية من قانون أصول المحاكمات المدنية على ما يأتي : على المحاكم أن تتقيد بمبدأ تسلسل القواعد عند تعارض أحكام المعاهدات الدولية مع أحكام القانون العادي ، تتقدم في مجال التطبيق الأولى على الثانية وقد أرسى القضاء اللبناني القواعد التي تحكم تطبيق المعاهدات الدولية التي أشار إليها النص المذكور في سمو المعاهدة على القانون العادي أعمالا لنص المادة الثانية من قانون أصول المحاكمات المدنية .وهو بفرعيه العدلي والإداري يتخذ موقفا موحدا في مسألة تفسير تلك المعاهدات بخلاف القضاء الفرنسي الذي كان منقسما حتى وقت قصير بين عدلي وإداري ، وكذلك بين عدلي مدني وعدلي جزائي، حول ما إذا كان يحق للقضاء ابتداء الخوض في مسألة سمو المعاهدة أو القانون وفي مسألة تفسير المعاهدة، وهي من مصدر دولي وما إذا كان في ذلك تعرضا لمبدأ الفصل بين السلطات.
ففي المسألة الأولى كان يقتضي انتظار قرار محكمة التمييز الفرنسية تاريخ 24 أيار 1975 قضية جاك فاير[31] .
وقرار مجلس الدولة الفرنسي تاريخ 20 تشرين الأول سنة 1989 قضية نيكولو[32] – لترجيح المعاهدة على القانون العادي وليس على الدستور[33]- رغم أن المادة 55 من الدستور الفرنسي قد نصت على أن المعاهدات والاتفاقات الدولية المبرمة أصولا أو الموافق عليها لها سلطة أعلى من القوانين. وقد تبع هذان القراران قرارات أخرى[34] .
و في مسألة الثنائية لا يزال موقف الغرفة الجنائية لدى محكمة التمييز الفرنسية هو في استمرار رفض الخوض في تفسير المعاهدات الدولية فالمسألة هي من الاختصاص المطلق والحصري للحكومة وكان يقتضي انتظار قرار مجلس الدولة الفرنسي في 28 حزيران 1990 لكي يتعرض المجلس على غرار الغرفة التمييزية المدنية لذلك التفسير .
محكمة التمييز المدنية اللبنانية في هذا الاطار حددت مبدأين : المبدأ الأول هو أنه إذا كان النزاع يتعلق بمصالح خاصة فيعود للمحكمة القضائية أن تتولى بنفسها تفسير بنود المعاهدات الدولية المنطبقة على النزاع وهو بنظرها أمر مسلم به.
المبدأ الثاني هو التفسير الحكومي المنفرد (التعميم-قرار وزاري) للمعاهدة لا يلزم المحاكم القضائية إلا إذا كان موضوع قرار صادر عن السلطة التنفيذية بالصفة نفسها التي تصدر بها المعاهدات أي إذا نشر بمرسوم.
الاتجاه هو نفسه لدى مجلس شورى الدولة في لبنان بل أن ما جاء في قراراته كان أكثر وضوحا فالقضاء اللبناني بنظر المجلس يعود له أن يفسر بنود الاتفاق الدولي ويراقب كيفية تطبيقه كما يفسر ويراقب تطبيق القوانين اللبنانية العادية[35] وذلك أن نطاق الحقوق المشار إليها منفصل عن نطاق العلاقات بين الدولتين المتعاقدتين بحيث أن موضوع المراجعة الحاضرة لن ينال تلك العلاقات الدولية بل يقتصر على بحث موجبات الدولة اللبنانية في الحقل الداخلي تجاه المواطنين اللبنانيين الأمر الذي يدخل بدون شك ضمن سلطة هذا المجلس[36] .
3- في الحالة الثالثة- تعامل القضاء اللبناني مع القواعد ذات البعد العالمي- لم يتوان القضاء اللبناني عن الالتزام بأعمال القواعد العالمية التطبيق التي فرضتها قواعد التجارة الدولية كقواعد مادية مباشرة, الأسلوب الموضوعي المباشر لحل النزاعات الدولية الخاصة[37]
وقد اعتاد الفقه على تسمية تلك القواعد العالمية أما بالقواعد عبر الدولية Transnational[38]وأما القانون الذي لا ينتمي إلى وطن anational [39]وأما القانون فوق الدولتي extraetatique [40] و اما القانون التجاري بين الشعوب lex mercatoria [41]وهو المصطلح الغالب الاستعمال[42].
ومن أبرز قواعد هذا القانون عادات وأعراف التجارة الدولية السائدة في المجتمع الدولي للتجارة والتي أحالت إليها اتفاقيات دولية متعددة تحت أشكال مختلفة كما سبق وتبين وهنالك أيضا العقود النموذجية الخطية والشروط العامة والتي تتضمن الأحكام العامة الأساسية لنوع معين من العقود وتكون شائعة في التعامل، ونذكر من ذلك العقود النموذجية التي وضعتها اللجنة الأوروبية لبيع الحبوب والشروط العامة التي وضعتها اللجنة الاقتصادية لبيع المصانع والحمضيات والحديد والصلب والعقد النموذجي المعروف باسم FIDIC ، الذي وضعه الاتحاد الدولي للمهندسين الاستشاريين، وكذلك المصطلحات التجارية الدولية المعروفة بال ICNOTERMS والقواعد المستخرجة من القرارات التحكيمية وأعمال المحكمين والمبادئ العامة المشتركة، بل أن البعض يختصر القانون التجاري للشعوب بالمبادئ العامة في التجارة الدولية محاولا وضع قائمة بهذه المبادئ بأهميات مختلفة أو يحاول تجميعها وعرضها تحت عناوين مختلفة .ويمكن إجمال الخصائص المميزة لهذه القواعد بمختلف مظاهرها بأنها قواعد هي بمعظمها قواعد عفوية SPONTANEE تلقائية تنشأ في وسط مهني أو تجاري معين فهي لا تأتي عن طريق شكلي أو رسمي كما هو معهود في القوانين الوضعية، كما أن تطبيق تلك القواعد لا يحتاج إلى تدخل السلطة أو القوة العامة وأن ما يكفل التلقائية،ليست نشأة تلك القواعد وحسب وإنما أيضا استجابة الأطراف المتعاملة و ملاءمتها للمشكلات التي تنشأ في الأوساط التجارية الدولية، ثم أن هذه القواعد إلى أنها دولية، فهي أيضا عالمية موحدة في أغلبها, من ذلك قاعدة بند الذهب في الاتفاقات الدولية وقاعدة أهلية الدولة وأشخاص القانون العام باللجوء التي التحكيم في عقود التجارة الدولية ومختلف القواعد الموضوعية التي تخضع لها مؤسسة التحكيم، كاستقلالية البند التحكيمي، وصلاحية المحكم في تحديد اختصاصه ومدى ولايته COMPETENCE-COMPETENCE كما أن تلك القواعد، انطلاقا من تلقائيتها ودولانيتها ، هي قواعد سهلة واقعية وملائمة في مقابل قواعد النزاع التي يعتمدها القاضي الوطني عند بحثه عن القانون الواجب التطبيق على العلاقة الدولية الخاصة، فهي قواعد إقليمية مجهولة النتائج وتعتمد في تحقيقها آلية صعبة ومعقدة تثير الكثير من الاختلافات الفقهية والقضائية حول المسألة الواحدة كما تتجاهل خصوصية العلاقات الخاصة ذات الطابع الدولي.
بعض هذه القواعد ، كرسها المشترع اللبناني بنصوص صريحة من ذلك نصه في المادة 315 من قانون التجارة البرية على القواعد الخاصة الموحدة للأوراق التجارية ونصه في المواد 307 وما يليها على القواعد المختصة بالعمليات المصرفية والاعتماد المستندي والتكريس التشريعي الأوضح لتلك القواعد هو في قوانين التجارة البحرية والجوية.
قواعد أخرى كرسها القضاء اللبناني منها الاعتراف بصحة بند الذهب في الإيفاء الدولي وإقرار ذلك القضاء بالأعراف التجارية الدولية، وقد أكدت محكمة التمييز اللبنانية منذ أواسط القرن الماضي على الأعراف الدولية كمصدر مستقل يفرض نفسه دون حاجة إلى وسيط فقد قضت الغرفة الأولى لتلك المحكمة بقرار مبدئي صادر في 4 نيسان 1968 وبعبارات ومصطلحات متطورة على أن العقد الناشئ عن فتح اعتماد مصرفي هو عقد مبني على أعراف التجارة الدولية التي ترعى كيفية إنشائه وآثاره وهذه الأعراف تقرها جميع المحاكم عبر العالم دون حاجة لها بأن تردها إلى تشريعاتها الداخلية أو أن تستنبط بالضرورة من هذه التشريعات ما يبررها إذا أنه يتكون من الأعراف بحد ذاتها قانون غير مكتوب يفترض بالقاضي إنه يعلم به العلم الذي له بسائر القوانين مما لا يجوز معه محاسبته على الاحتجاج بها وسؤاله عن المصدر الذي من خلاله علم به، وقد وضعت المحكمة العليا بذلك حدا لنقاش كان محتدما حول تمتع ذلك العرف عبر الدول بقوة الإلزام وما إذا كان قد ارتقى إلى رتبة القانون الواجب التطبيق دون نص.
وقائع القضية هي الآتية: إنه في عقد فتح اعتماد مستندي مبرم في 17 حزيران سنة 1961 بين تاجر لبناني واحد المصارف اللبنانية اشترط التاجر فيه بأن يعين بذاته المراكب التي يجب على البائع أن يشحن عليها البضاعة، وقد أبلغ المصرف هذا الشرط إلى عميله في الاسنكدرون إلا أنه خلافا لهذا الاشتراط جرت شحنتان من البضاعة على مركب اختاره البائع وليس التاجر المتعاقد الذي كان يحتج دائما على ذلك أمام المصرف والذي كان يبلغ عميله في الاسكندرون ذلك الاحتجاج ولدى وصول شحنة ثالثة بنفس الأسلوب السابق رفض التاجر المتعاقد استلام البضاعة بحجة وصولها على مركب لم يختاره حسب منطق عقد فتح الاعتماد. ومع ذلك قيد المصرف ثمن تلك البضاعة على التاجر في الحساب الجاري بين الطرفين، مما حمل هذا الأخير على التقدم بالدعوى طالبا شطب هذا القيد على اعتبار أنه لم يكن ملزما باستلام البضاعة وبأن يتحمل ثمنها ما دام المصرف الذي وردته مستندات البضاعة تأمينا له على حقوقه الناشئة عن فتح الاعتماد قد قبلها متجاوزا في ذلك تعليمات التاجر المتعاقد والمتعلقة بالشحن على مركب من اختياره.
وقد أدلى المصرف بداية واستئنافا بما يهم المسألة المطروحة بان التاجر لم يكن محقا برفض البضاعة مادام لم يصبه من هذا الشحن أي أذى ولا هو قد ادعى بأي ضرر من جراء ذلك، المحكمتان الابتدائية والاستئنافية ردتا ذلك الإدلاء على أساس أن أي مخالفة يرتكبها المصرف بالنسبة لشروط اعتماد مستندي تعطي الشاري حق رفض الإرسالية على مسؤولية المصرف دون حاجة إلى إنذار ودون تعليق هذا الحق على تحقيق ضرر وذلك وفقا للقواعد والأعراف الدولية التي ترعى هذا العقد وهي أعراف توجب مراعاتها أحكام المادة 371 من قانون الموجبات والعقود التي تنص على أنه يجب على القاضي أن يعتد من تلقاء نفسه بالبنود المرعية عرفا وأن كانت لم تذكر صراحة في نص العقد. وقد أكدت محكمة التمييز ما توصلت إليه محاكم الأساس في القضية استنادا إلى عبارات واضحة كرست قاعدتين:
الأولى : خاصة تتعلق بالاعتماد المستندي تحديدا وهي أن العقد الناشئ عن فتح اعتماد مستندي إنما هو عقد مبني على أعراف التجارة الدولية التي ترعى في آن واحد كيفية إنشائه وآثاره.
الثانية : عامة تتعلق بالأعراف التجارية الدولية كمصدر أساسي للقواعد المادية التي هي من مصدر مهني LEX MERCATORIA وهي :
أن هذه الأعراف التجارية الدولية وهنا بيت القصيد يجب الرجوع إليها وحدها دون حاجة إلى ردها إلى قواعد القانون الداخلي: فلهذه الأعراف القوة الإلزامية التي ترتقي إلى القانون رغم أنها ليست أعرافا داخلية وإنما تتكون عبر الدول، ورغم التشكيك الذي تناول الطبيعة الوضعية لهذه القواعد، ومدى اتصافها بخصوصية الإلزام الذاتي والتجرد والعمومية وهي خصائص أساسية للإرتقاء بالواقع إلى قانون والاستقلال عن الأنظمة القانونية الداخلية وعن نظام القانون الدولي العام، فضلا عن أن البعض ينعتها بأنها القواعد التي هي من وضع الطرف القوي في العلاقات القانونية[43].
وقد عادت محكمة استئنافية بيروت المدنية غرفتها العاشرة إلى تأكيد على ما تقدم في قرارها قم 492 تاريخ 21 آذار سنة 2001 الدولة اللبنانية بنك لبنان والمهجر عندما اعتبرت بأن المادة 809 أ. م. م. جديد ليست سوى تكريس لقاعدة مادية مباشرة تفرض نفسها في عقود التجارة الدولية التي تكون الدولة طرفا فيها وذلك شأن قواعد مادية أخرى من ذلك صحة بند الذهب في الإيفاءات الدولية، استقلال البند التحكيمي حق المحكم في الفصل في مسألة ولايته وهي قاعدة ثابتة قضاء دون نص[44].
بالإضافة إلى دور القضاء في استقطاب تلك القواعد التي تتجاوز الحدود، برز دور هام للمشترع: أن الظاهرة الأساسية التي طبعت العمل التشريعي الذي تولاه المجلس النيابي في نهايات القرن الماضي والمرحلة الراهنة هو تعدد التشريعات التي أقرها المجلس وتعدد اقتراحات ومشاريع القوانين التي تعرض عليه لدراستها والطابع الغالب لكل ذلك هو أنها بمعظمها ذات بعد عالمي. فالمشترع يضع القوانين التي يراها ضرورية ليس للحاجة لها داخل الإقليم اللبناني وحسب وإنما لكونها لازمة لجعل لبنان دولة منخرطة في منظمات عالمية أو شريكا في مجموعات دولية، فلا يكون على هامش الحياة السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية الدولية ، لتحقيق كل ذلك كان لا بد من إقرار التشريعات التي تحقق ما هو مطلوب من لبنان للدخول في الحركة العالمية والمنظمات التجارية الدولية من الباب الواسع .ومن هذه المنظمات الدولية نشير إلى منظمة التجارة العالمية التي تعنى بتنظيم التجارة بين الدول الأعضاء وتشكل منتدى للمفاوضات متعددة الأطراف[45]. وأهم مبادئها تحديد الالتزامات والتحرير التدريجي للتجارة ومبدأ عدم التمييز من خلال الشروط الأولى بالرعاية والمعاملة الوطنية للسلع الأجنبية ومبدأ الشفافية ومن المجموعات الدولية نشير إلى المجموعة الأوروبية والدول الأعضاء فيها.
وبالنسبة للمنظمة فقد حصل لبنان منذ 14 نيسان 1999 على صفة عضو مراقب فيها. وقد خلفت هذه المنظمة الاتفاق العام للتعريفات الجمركية والتجارة والمعروف بمنظمة الغات التي تأسست سنة [46]1947 وقد كان لبنان أحد أعضائها المؤسسين الثلاثة والعشرين ثم ما لبث أن انسحب منها بعد مرور ثلاث سنوات على تأسيسها.
كتب أحد المسؤولين في هذا الصدد:
إن لبنان لا يسعى أن يبقى خارج هذا النظام وهو الذي كان عضوا مؤسسا لاتفاقية الغات منذ أكثر من خمسين عاما. فليس بإمكاننا اليوم إغفال متطلبات العصر ومنها التعامل مع منظمة التجارة العالمية التي أصبحت من أهم المنظمات الدولية الاقتصادية.
ويضيف ملخصا ما هو مطلوب من لبنان للانخراط في هذه المنظمة كالآتي:
ليس من شك في أن العضوية في منظمة التجارة العالمية سوف تؤدي إلى تغيرات عديدة في لبنان سواء على المستوى القانوني أو التنظيمي أو المؤسساتي إلا أن العديد من هذه التغيرات شكل وبشكل جزءا من التوجه الاستراتيجي للدولة والذي يعتمد على خفض المعوقات الجمركية وغير الجمركية وتفعيل وتسهيل التجارة وتحديث القوانين التجارية لتواكب متطلبات العصر[47].
أما بالنسبة للمجموعة الأوروبية فقد أقر المشترع القانون رقم 474 تاريخ 17 كانون الأول 2002 بالإجازة للحكومة إبرام اتفاقية أوروبية متوسطية لتأسيس شراكة بين الجمهورية اللبنانية والمجموعة الأوروبية ودولها الأعضاء ومن أهداف هذه الشراكة كما حددتها مقدمة تلك الاتفاقية:
تقوية الروابط بين لبنان والمجموعة ودولها والأعضاء وتأسيس علاقات دائمة مبينة على المعاملة بالمثل والتضامن والمشاركة والمساعدة على التطور المشترك والحاجة إلى تعزيز عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في لبنان.
الحرية الاقتصادية التي تشكل النواة الأساسية للشراكة، وأهمية حرية التجارة بالنسبة إلى لبنان والمجموعة كما ضمنتها الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة لعام 1994 ( الغات) والاتفاقيات الأخرى المتعددة الأطراف الملحقة بالاتفاقية المنشئة لمنظمة التجارة العالمية.
وقد نصت المادة 49 من اتفاقية المشاركة على ما يأتي: ببذل الطرفان أفضل مساعيهما لتقريب التشريعات الخاصة بكل منهما من أجل تسهيل عملية تطبيق هذه الاتفاقية.
على هذا الأساس انطلقت في الآونة الأخيرة هذه الحركة التشريعية في عملية تحقيق ذلك التغيير والتقارب التشريعي وتكريس قواعد مشتركة بين الدول تحقيقا للاتفاقيات المشار إليها.
فكان أن أقر المشترع القانون رقم 75 تاريخ 3/ 4/1999 المتعلق بحماية الملكية الأدبية والفنية وذلك تطبيقا لاتفاقية الجوانب المتصلة بالتجارة من حقوق الملكية الفكرية في نيسان 1994 وهذا وقد صدر في الأول من تموز 2002 القرار رقم 16 عام 2002 وموضوعه آلية إجراء تصوير ونسخ برامج الحاسب الآلي من قبل المؤسسات التربوية والجامعية والمكتبات العامة التي لا تتوخى الربح كما أقر المشترع في نفس سياق القانون 75/ 99 القانون رقم 240 تاريخ 14 آب 2000 المتعلق ببراءات الاختراع.
إن الأسباب الموجبة للقانون 240 / 2000 المشار إليه عندما كان مشروعا وهو ما يصلح كذلك لمختلف تلك القوانين أن التطور التكنولوجي والاقتصادي الذي بدل وجه العالم لا سيما في العقد الاخير بات يحتم تحديث الأحكام التي ترعى تلك الاختراعات يضاف إلى ذلك أن مقتضيات التجارة العالمية والمعاهدات الحديثة التي ترعاها لا سيما منظمة التجارة العالمية وملحقها الخاص بالجوانب المتصلة بالتجارة من حقوق الملكية الفكرية TRIPS تفرض إدخال بعض التعديلات على قانون براءات الاختراع وخاصة أن الدولة اللبنانية قد اكتسبت مؤخرا صفة العضو المراقب[48].
بالنتيجة أن ما يتضح مما تقدم هو هذه النزعة الدينامية نحو الانفتاح والتحرر التي فرضها واقع هذا العصر وسرعة تحركه وهو ما كان يقتضي أن ينعكس بالضرورة على الواقع التشريعي والعمل القضائي في لبنان بأن يضع المشترع القوانين الضرورية واللازمة التي تتطلبها العالمية الجديدة وبأن يحسن القضاء تطبيقها.
وبالنسبة للقضاء : أن السؤال الذي نطرحه هو الآتي:
هل حان الوقت لكي يعيد القضاء النظر في المنهجية المعتمدة؟ أليس المطلوب من القضاء على ضوء ما طرأ من تطور أن يكون قضاء لا يهتم وحسب بالتقنية القانونية وإنما بتقنيات مختلفة، وتعود إلى مدرسة مختلفة؟ بأن يتعامل مع الآلة ومع الاقتصاد ومع الأهداف الجديدة التي يسعى إليها مشترع هذا القرن، فهي أهداف لم تعد منعزلة في حدود إقليم الدولة، أو بإقليمية معينة، وإنما تتجاوز كل حدود الجغرافيا ؟وهل سينعكس الخارج على الداخل بعد أن كان الانعكاس هو الداخل على الخارج، وهل سيتوانى قضاء اليوم عما أنجز قضاء الأمس؟ نشك في ذلك.
سامي بديع منصور
. دكتوراه دولة في الحقوق رئيس غرفة لدى محكمة استئناف بيروت، عضو مجلس القضاء الأعلى, أحد أساتذة القانون المدني في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية واحد أساتذة القانون الدولي الخاص في قسم الدراسات العليا في كلية الحقوق في جامعة بيروت العربية وفي معهد الدروس القضائية.
اترك تعليقاً