دراسة وبحث قانوني قيم عن ظاهرة عدم فعلية القواعد القانونية في القانون الوضعي الجزائري
Kais Cherif ,
يتعلق موضوع الأطروحة بـ “ظاهرة عدم فعلية القواعد القانونية في القانون الوضعي الجزائري”. و يكتسي هذا الموضوع أهمية بالغة في الحياة القانونية للدولة و للمجتمع، لما للقاعدة القانونية من دور جوهري في هذا المجال. فالقاعدة القانونية باعتبارها تنظم سلوك الأفراد في المجتمع، فهي تؤثر على الكيان العام لهذا الأخير سلبا و إيجابا حسب طبيعة التفاعل الموجود بينهما. على هذا الأساس، يقاس مدى ملائمة القانون للمجتمع تبعا لاستجابة الأول لمتطلبات و لطموح الثاني، مما يدفع بفقهاء القانون إلى دراسة فكرة فعلية قواعد هذا الأخير في الواقع العملي.
إن الحديث عن فعلية القاعدة القانونية قد يجرنا إلى فكرة فعاليتها و واقعيتها، ثم نجاعتها. فالفعالية تدل على النجاح و الايجابية، كما ترمز إلى مدلول المردودية بالمفهوم الاقتصادي. أما الواقعية، فهي تدل على التطابق بين الجانب النظري للقاعدة القانونية و الميدان الذي تجسد فيه. و بصفة عامة، ينظر الفقه إلى مسألة فعلية القاعدة القانونية من خلال كيفية استقبالها من قبل المخاطبين بأحكامها، الإدارة باعتبارها شخص من أشخاص القانون، ثم كسلطة عامة، من جهة، و أفراد المجتمع من جهة أخرى.
فكلما كانت القاعدة القانونية مقبولة من قبل المخاطبين بأحكامها، كلما كانت فعلية و جسدت أحكامها بصورة سليمة في الواقع العملي. بينما لما تكون هذه القاعدة غير موافقة و غير مطابقة للواقع الاجتماعي و للمصالح الفردية و الجماعية لكياناته، تفقد فعليتها و تتعرض لمعارضة قوى هذا المجتمع، إدارة و أفرادا و جماعات. بذلك تؤثر طبيعة هذه القاعدة و محتواها على مدى فعليتها(أولا)، ثم تتدخل الآليات و الأدوات المسخرة من قبل الدولة باعتبارها صاحبة السلطة العامة، لتؤثر في كيفية تنفيذها و تجسيدها حسب المعطيات المتوفرة و المحيطة بها(ثانيا).
أولا: عدم فعلية القاعدة القانونية المرتبطة بطبيعتها:
ينظر الفقه إلى القاعدة القانونية من عدة جوانب، سواء من حيث محتواها المادي، أو من حيث طبيعة الجهة التي وضعتها(الجانب العضوي)، أو من حيث الغاية منها…الخ. و يعد الجانب المرتبط بالوظيفة المنوطة بها أهم زاوية تحلل من خلالها هذه القاعدة القانونية. إن القانون، عكس ما يذهب إلية البعض لا يعكس دوما الواقع الاجتماعي في مختلف جوانب حياته، بل كثيرا ما يطلب منه إعادة هيكلة السلوكات الاجتماعية و إعادة ترتيب المصالح و الأولويات و غيرها من القيم الاجتماعية. فيطلب من القانون إعداد تصورات جديدة لسلوكات يجب إرساؤها في المجتمع، كما يسعى إلى قمع و منع تصرفات اعتاد الأفراد عليها. فلم يعد القانون يعكس ما هو موجود في الميدان الاجتماعي، بل ينشئ و يخلق ما هو غير موجود و ما قد يكون بعيدا عن هذا الواقع الاجتماعي.
* يتسم القانون المعاصر بالطابع الدولاني لمصدره بحيث تنتجه الدولة في أغلب الحالات و الأوضاع، إذ أدى التطور الذي عرفه المجتمع في مختلف المجالات إلى استبعاد الأنماط القديمة لإنتاج القانون، و المتمثلة في الأعراف و التقاليد، و استبدالها بآلية التشريع الوضعي الصادر عن الحكومة. لقد أدى الطابع المعقد و المركب للنشاطات الحكومية التي تتولاها السلطات العامة في الدولة، إلى تكييف القاعدة القانونية من حيث محتواها و من حيث شكلها و من حيث دورها، لكي تتمكن من تسخيرها لتحقيق مختلف البرامج المسطرة و تجسيد الأهداف المرسومة. على هذا الأساس، تعد القاعدة القانونية وسيلة للحكم و آلة لتجسيد و لتحقيق الوظيفة الحكومية. فسواء النصوص التشريعية أو النصوص التنفيذية، تكاد تحتكر الحكومة، و منه الإدارة وظيفة التشريع و صنع القواعد القانونية. فالإدارة هي التي تبادر بالقوانين في أغلب الحالات، و هي التي تشرف على إعدادها و متابعتها في مختلف المراحل التي تمر بها، كما تتولى مهمة تنفيذها و تجسيدها في الميدان. و يلعب الجهاز التنفيذي ( على رأسه مؤسسة ريس الجمهورية) في هذا الصدد الدور الفعال و الأساسي، إذ لا تصدر أية نصوص قانونية دون موافقته. فيتولى الجهاز التنفيذي برمجة هذه النصوص وفقا لأولويات البرنامج الحكومي الرئاسي بجوانبه المختلفة، الأيديولوجية منها و الاقتصادية و الاجتماعية و غيرها، كما تقوم بتغيير المنظومة القانونية الموجودة وفقا للتوجهات الجديدة.
و بالإضافة إلى كونها أداة و وسيلة للحكم و لممارسة الوظيفة الحكومية، تعد القاعدة القانونية وسيلة ضبط تستعملها الإدارة لتأطير مختلف أقطاب الحياة العامة بصفة شاملة، و الحياة الاقتصادية بصفة خاصة. و لقد أدى انسحاب الدولة من التدخل المباشر في المجال الاقتصادي، و خوصصة الكثير من القطاعات الاقتصادية إلى انتشار القواعد القانونية الضبطية خاصة تلك التي تنبع من الهيئات الإدارية المستقلة و مختلف التنظيمات المهنية المتشعبة التي تعد سلطات إدارية و تتمتع باختصاص وضع التنظيمات في المجالات المرتبطة بنشاطاتها(كمجلس النقد و القرض، و سلطة الضبط للبريد و المواصلات، و لجنة تنظيم و مراقبة عمليات البورصة). و يتسم الضبط بكونه يستعمل أدوات مختلفة عن تلك التي كانت مستعملة سابقا بحيث يتميز بالمهنية و التخصص و الواقعية، مما يجعله يشكل قانونا يتسم بالقانونوية الذاتية.
و لقواعد قانون الضبط تأثيرين متناقضين على المنظومة القانونية الدولانية. فمن جهة أدى انتشارها إلى إضفاء المرونة و السرعة و النجاعة في معالجة القضايا المطروحة على القانون، و من جهة أخرى، أدت كثرة انتشارها و اللجوء المفرط إلى إنشاء الهيئات الإدارية المستقلة إلى التضارب في الحلول و التناقض مع ما هو معمول به في المجالات الأخرى لدى القواعد التقليدية. كما قد يؤدي التضارب بين المصالح الاقتصادية بين مختلف الأقطاب المتنافسة في المجال الاقتصادي إلى التجميد المتبادل للقواعد المطروحة من قبل الجهات المخولة ذلك، خاصة و أن قوى السوق المتناقضة المصالح قادرة على التأثير السلبي على ذلك.
* ينجر عن كون القانون المعاصر من صنع الجهاز التنفيذي وفقا لبرامج الحكومة و لمخططاتها، ابتعاده و انفصاله عن الواقع الاجتماعي، بحيث كثيرا ما تؤدي الظروف الداخلية و الظروف الخارجية، خاصة الدولية منها، إلى اضطرار الحكومة إلى اعتماد حلول و ترتيبات بعيدة كل البعد عن هذا الواقع.
فأمام القواعد الاجتماعية النابعة عن هذا الواقع و المتطابقة مع متطلباته، تتدخل القواعد الدولانية بمختلف درجاتها و أنواعها و التي تضعها الحكومة و تفرضها على المجتمع، آخذة بعين الاعتبار ضرورات برامجها و مخططاتها دون إيلاء الأهمية اللازمة لهذا الواقع. و أمام المكانة التي تحتلها القواعد الاجتماعية في الميدان، التي تتأقلم بسرعة و بسهولة مع أوضاع المجتمع، تتعارك و تتضارب مع القواعد الدولانية التي عادة ما تتسم بالجمود و الثبات، مما يؤثر سلبا على فعلية القانون.
و من بين العوامل التي تؤدي إلى فقدان الفعلية، كون القانون الدولاني قانونا إرادويا بحيث يرسم الأهداف المتوخاة منه و النتائج المرجوة بغض النظر عن توفر الظروف الاجتماعية الضرورية لها. لذلك كثيرا ما يكون القانون الإرادوي متقدما عن المجتمع، بحيث يطلب منه القيام بدور القاطرة لدفعه و لجره. و في هذا المجال، يتسم القانون الجزائري بالطابع الإرادوي سواء في المرحلة الأولى عند نيل الاستقلال عند رسم الخطة اللازمة لبناء مجتمع اشتراكي، أو في المرحلة التالية بمناسبة الإصلاحات الاقتصادية ابتدءا من 1989 مع اعتناق اللبرالية، خاصة مع طلب الانظمام إلى المنظمة العالمية للتجارة، الذي استلزم الشروع في إصلاحات جذرية في المنظومة القانونية دون توفر الظروف الواقعية الملائمة لها.
أما في المجال الاجتماعي، لقد عدل قانون الأسرة لإرضاء منظمات حقوق الإنسان خاصة في مجال الولاية في الزواج و كذا التلقيح الاصطناعي.
كذالك ينجر عن القواعد القانونية الدولانية اكتسائها للطابع التقني و الفني لما للتطور التكنولوجي من تأثير على القانون شكلا و موضوعا. لكن أمام التخلف الذي يتميز به المجتمع الجزائري في المجالين الاجتماعي و الاقتصادي، لا يلتقي القانون المتطور بهذا المجتمع المتخلف. فبينما بقي المجتمع في اهتماماته التقليدية و القديمة، يستدعي القانون الجديد مستوى عالي من التطور الفكري و الثقافي و تجاوز للنمط البدائي للسلوك الاجتماعي و للنشاط الاقتصادي. لقد أدى هذا الاختلاف إلى حدوث انكاسارات بين القانون و المجتمع، مما جعل من بعض القواعد القانونية خالية من أية فعلية منذ تصورها و صنعها نظرا لإنعدام الظروف المواتية لها. و نذكر على سبيل المثال:
قانون 89/02/المؤرخ في 07/2/1989 المتعلق بحماية المستهلك.
قانون 83/03/المؤرخ في 05/02/1983 يتعلق بحماية البيئة.
مرسوم تشريعي 93/10/ مؤرخ في 23/5/1993 يتعلق ببورصة القيم المنقولة.
مرسوم تشريعي 93/12/مؤرخ في 05/10/1993 يتعلق بترقية الاستثمار، فيما يخص المناطق الحرة عوض بالأمر رقم 03/02/مؤرخ في 19/7/2003 يتعلق بالمناطق الحرة، الذي ألغي في 2006.
تتسم هذه النصوص المذكورة على سبيل المثال بعدم فعلية أصلية بحيث منذ اللحظة الأولى لوضعها لم تكن الظروف اللازمة لها متوفرة مما جعل منها قوانين ذات طابع زخرفي و رمزي.
إلى جانب هذه الكتلة من النصوص العديمة الفعلية، توجد نصوص أخرى متناقضة مع المصالح الاجتماعية و المالية و الاقتصادية للمجتمع. لقد تصدى لها المجتمع منذ لحظة صدورها نظرا لعدم توافقها مع توجهاته. منها على سبيل المثال:
قرار الحكومة المتضمن الاقتطاع الإجباري لأجور العمال الصادر في 1996.
الانتخابات المحلية المنظمة في 2002 التي عورضت في منطقة القبائل منذ الوهلة الأولى فتم إلغاؤها في 2005 و نظمت انتخابات محلية جزئية جديدة في 24/11/2005.
قرارات وزير التربية الوطنية الصادرة في 1993 و المتعلقة بنظام التقييم والانتقال و إعادة التوجيه في الجامعة.
مبلغ حقوق التسجيل في الجامعة الذي رفع في 2001 من 200دج إلى 500/750 دج.
لقد جمدت هذه النصوص القانونية بسبب معارضة المخاطبين بأحكامها بحيث اعتبروا بأنها لا تتوافق مع مصالحهم، فاضطرت الحكومة إلى سحبها و تغييرها بعد اشتداد معارضة المجتمع لها
ثانيا:عدم فعلية القاعدة القانونية المرتبطة بآليات تنفيذها:
لقد سبق و أن أشرنا إلى الدور الفعال الذي تلعبه الإدارة في صنع و وضع القانون. فنظرا للمركز القانوني الذي تحتله هذه الأخيرة وسط المؤسسات الأخرى باعتبارها الجهاز التنفيذي للدولة، فإنها تتكفل بعملية السهر على احترام القانون و على تنفيذه و تطبيقه. لكن من جانب آخر، كثيرا ما تستغل الإدارة هذا المركز المتميز وتمنح نفسها سلطة تجاوز القانون و مخالفته.
* تنص مختلف النصوص الأساسية على تكليف الإدارة بالسهر على تطبيق و تنفيذ القانون. فباعتبارها الجهاز التنفيذي للدولة، تقوم الإدارة باتخاذ جميع الترتيبات و الإجراءات المناسبة لوضع القانون حيز التنفيذ و التطبيق بالشكل الأحسن.
لقد تطور مجال تدخل الإدارة في هذا النطاق بحيث انتقل من التقييد إلى الإطلاق و ذلك حسب تطور كل من مجال القانون و مجال اللائحة. فبعد ما كان مجال اللائحة مقيدا بالقانون محل التنفيذ الذي يعد مجاله مطلقا و مفتوحا، أضحى بعد صدور الدستور الفرنسي لسنة 1958 مفتوحا و مطلقا بحيث تم تقييد مجال القانون و حصره. و لقد اعتنق المؤسس الجزائري هذا المبدأ خاصة في الدساتير الأخيرة (1976، و 1989، و 1996، ) بحيث يقتصر القانون على وضع القواعد العامة و المبادئ العامة للمجالات الأساسية للدولة و للمجتمع، بينما يعود كلما هو غير مخصص له لمجال اللائحة أو التنظيم الذي يتولى تأطيره كما يضع التفاصيل و يسد النقائص و الثغرات عند قيامه بتنفيذه و تجسيده في الميدان.
و من الناحية المبدئية، تعتبر الإدارة مكلفة بالسهر على احترام القانون و تطبيقه. لكن تمتع هذه الأخيرة بالسلطة العامة يجعلها في مركز أسمى من الأشخاص الآخرين المخاطبين بأحكام القانون، بل أسمى من القانون ذاته في بعض الحالات. فتتمتع بالسلطة التقديرية و بامتياز الأولوية و كذا بامتياز التنفيذ المباشر. و أمام هذه السلطات لا يوجد سوى القضاء الذي يمكنه إلغاء أي تصرف تتجاوز فيه الإدارة سلطاتها و تخرق فيه القانون.
و في مجال تنفيذ القانون، تلتزم الإدارة باتخاذ جميع الترتيبات و الإجراءات الكفيلة لذلك. فتتخذ هذه الترتيبات في أجل معقول و في حدود احترام نص و روح القانون محل التنفيذ. فنظرا لاكتفاء القانون بوضع المبادئ و القواعد العامة، يتولى التنظيم وضع التفاصيل الضرورية لوضعه محل التنفيذ، سواء نص على ضرورة صدور التنظيم أم لم ينص على ذلك، و هو ما ذهب إليه مجلس الدولة الجزائري في قراره المؤرخ في 20/5/2003.
و في حالة غياب التنظيم الضروري لتنفيذ القانون الجديد، يبقى التنظيم القديم ساري المفعول إلى غاية صدوره، و هو ما عمل به النظام الجزائري في مجال علاقات العمل الفردية( مرسوم 82/302)، و المراسيم الصادرة في مجال حماية البيئة و المنفذة للقانون القديم الصادر في 1983، و كذا القرار الوزاري المنظم للانتقال في الدراسات العليا الصادر في 24/01/1981.
و رغم تمتع الإدارة بالسلطة التقديرية في اختيار الوقت المناسب لها لإصدار اللائحة أو التنظيم، إلا و أن القضاء الفرنسي و القضاء الجزائري قيدا الإدارة بالأجل المعقول لوضع هذا التنظيم. و رغم هذا التحديد، تعرف عدة قوانين في التجربة القانونية الجزائرية تأخرا صارخا في صدور النصوص التنفيذية لها، منها قانون حماية البيئة، و القانون المنظم للمحاكم الإدارية. بينما تجسد بعض النصوص الأخرى بسرعة فائقة كقوانين الانتخابات، و قوانين المالية، بل حدث و أن صدرت النصوص التنفيذية قبل النصوص التشريعية كما هو الشأن في القانون المتعلق بتبييض الأموال الذي صدر في 06/02/2006 بينما صدر المرسوم التنفيذي في 07/04/2002، كذالك المرسوم التنفيذي المنشئ للهيكلة الجديدة للتعليم العالي الصادر في 2004 في حين لم يصدر التشريع بعد(2006).
* لدى قيامها بتطبيق و تنفيذ القانون تلتزم الإدارة بأحكام القانون و تمتنع عن مخالفته عملا بمبدأ الشرعية. لكن رغم ذلك، كثيرا ما تتعدى عليه بصورة عمدية سواء في الظروف العادية أو في الظروف الاستثنائية.
فعملا بمبدأ الشرعية، تلتزم الإدارة باحترام القانون و بعدم مخالفة أحكامه سواء من زاوية التدرج القانوني أو من حيث محتواها خاصة ما يتعلق بحقوق و حريات الأفراد. أما إذا خالفت هذا المبدأ، فتتعرض قراراتها إلى تصدي القضاء و مراقبة السلطة الرئاسية، إذ تقوم مسؤوليتها الإدارية، كما يجوز لكل متضرر من جراء تصرفاتها طلب التعويض. انطلاقا من هذا الطرح تخضع الإدارة للقانون لدى ممارستها لنشاطاتها من الناحية الشكلية و من الناحية الموضوعية.
لكن رغم ذلك حدث و أن تجاوزت الإدارة للقانون لدى قيامها بنشره و الشروع في تنفيذه، مستغلة في ذلك مركزها المتفوق، بحيث هي التي تضع النواة الأولى له و هي التي تقوم بتنفيذه.
تقوم الإدارة باستغلال النقائص و الثغرات الموجودة في النص محل التنفيذ باعتباره يتسم بالعمومية و الشمولية فتوجهه نحو تحقيق مصالحها الظرفية. و يؤدي مثل هذا الوضع إلى تقوية السلطة التقديرية للإدارة في اتخاذ الترتيبات التي تريدها، خاصة لما يخولها القانون ذلك.و تمتد المخالفة في هذا المجال حتى إلى التصرف بكل حرية في مدى جدوى إصدار النصوص التنفيذية من عدمها. كما تستغل الإدارة نقص انسجام المنظومة القانونية لتضع القواعد الملائمة لها و لمصالحها. و يعد مشكل انتخاب رئيس المجلس الشعبي البلدي أشهر مثال على ذلك بحيث طرح في سنة 2002 و في سنة 2005 بمناسبة الانتخابات المحلية الجزئية التي أجريت في 24/10/2005 في بعض ولايات الوطن، و ذلك لانعدام الانسجام بين القانون الجديد للانتخابات و قانون البلدية. كذلك مثال المركز القانوني لمحافظ بنك الجزائر باعتباره رئيسا للجنة المصرفية، الذي يطرح مشكل التضارب بين فكرة العهدة و فكرة التعيين.
و في جانب آخر، كثيرا ما تتعمد الإدارة إلى خرق القانون دون مبرر يذكر سوى كون القانون لا يخدم مصالحها، فتخلق شرعية موازية للشرعية الأصلية و نذكر على سبيل المثال:
– التأخير العمدي في توزيع الإعتمادات المالية بمناسبة تنفيذ قوانين المالية طوال فترة التسعينيات.
– مخالفة الدستور و اعتداء الإدارة على مجال القانون بمناسبة صدور قرار رئيس الحكومة بالاقتطاع الإجباري لأجور العمال في فيفري 1996.
– تعليق حكم الدستور و مخالفة القانون في مجال قانون ضبط الميزانية و ذلك منذ 1976 إلى غاية الوقت الحاضر. كما حدث و أن عينت حكومة جديدة في ماي 2006 و لم تعرض برنامجها السياسي على البرلمان وفقا لأحكام الدستور بمبرر عدم تغير البرنامج السابق الذي صادق عليه البرلمان من ذي قبل.
– تعديل توزيع الاعتمادات المالية التي يقرها قانون المالية بواسطة تقنية التحويلات التي تتم بواسطة المراسيم الرئاسية.
– تجميد اعتماد النقابات و الأحزاب السياسية الجديدة من قبل الحكومة رغم توفر الشروط القانونية في ملفات نقابة الكنابست و ملفات أحزاب عديدة منها الاتحاد من أجل الديمقراطية.
أما في الظروف الاستثنائية، فقد يحدث و أن تلجأ الحكومة إلى اتخاذ الإجراءات الإستثنلئية لمواجهة ظروف طارئة كما حدث في الجزائر في سنة 1991 و منذ سنة 1992 إلى غاية الوقت الحاضر2006. لقد عوضت الشرعية العادية بشرعية استثنائية…
الخاتمة:
تعتبر دراسة ظاهرة عدم فعلية القانون في النظم المقارنة عامة، و في النظام الجزائري خاصة، من المواضيع الشائكة و الواسعة في آن واحد، إذ يمكن حصر كل القضايا المرتبطة بها بصورة مطلقة و شاملة. و تتعلق مشكلة عدم فعلية القواعد القانونية بعناصر خارجية عن بنية المنظومة القانونية الداخلية، بحيث تؤثر فيها التفاعلات الاجتماعية المتشعبة و المتغيرة، كما تتعلق بعناصر داخلية لهذه المنظومة، من زاوية هيكلتها الشكلية، و من طبيعة الآليات المسخرة و المستعملة عند تصور كل قاعدة قانونية، و عند وضعها حيز التطبيق و التنفيذ. على هذا الأساس، نميز بين نوعين من عدم الفعلية التي تمس القواعد القانونية في النظم المقارنة و كذلك في النظام القانوني الجزائري.
فمن جهة، نجد النوع الأول من عدم الفعلية، و المتمثل في “عدم الفعلية البنياوية” و التي تتعلق بتلك القواعد القانونية التي لا تتوافق مع الواقع الاجتماعي، و التي تستبق الأوضاع و الأحوال مما يبعدها عن الواقع العملي الذي يجب أن تجسد فيه.
أما النوع الثاني من عدم الفعلية، فيتمثل في “عدم الفعلية التقنية”، و تتعلق بالتفاعلات التقنية ذات الطابع الإجرائي التي تحدثها الإدارة عند توليها تطبيق و تنفيذ القانون إن معالجة مشكل عدم الفعلية ليس بالأمر السهل و البسيط، بل يستدعي كل عنصر من عناصر هذه الظاهرة مقاربة خاصة به. فإذا كانت الأخطاء و التجاوزات التقنية و كذا التناقضات التي تعشش في المنظومة القانونية الوطنية ممكنة المعالجة و التصحيح، فإن حل مشكل عدم الانسجام و التطابق بين الواقع الاجتماعي و محتوى القواعد القانونية أصعب بكثير أن لم نقل شبه مستحيل، خاصة لما يكون هدف الجهة الواضعة للنص لا يتجاوز الجانب الزخرفي.
لكن لما تكون عدم الفعلية متعمدة من قبل الإدارة، فلا يمكن حلها بواسطة حل إجرائي أو منهجي، بحيث تتصرف هذه الأخيرة في القانون محل التطبيق باعتبارها صاحبة السلطة العامة، و بكونها الجهة المكلفة بتنفيذه، فتصور نفسها كهيئة صاحبة الامتياز المشتق من السلطة التقديرية المخولة لها، و كذا امتياز الأولوية الذي لا يتمتع به أي جهاز آخر. و في سبيل حل إشكالية تهاون الحكومة في تنفيذ القوانين الصادرة عن البرلمان، و كذا وضع حد لاستخفافها بالدستور و للطابع الإجباري للقانون باعتبارها مخاطبة بأحكامه، يمكن اللجوء إلى وضع آلية قانونية لمسائلة الإدارة عن مسألة عدم تنفيذها للقانون. و في هذا المجال، يمكن إجبار الإدارة على تقديم بيان سنوي يتناول تقييم درجة تجسيد النصوص القانونية و مدى ترجمتها فعليا في الميدان، بدءا من الدستور باعتباره القانون الأساسي للدولة، ثم القانون، ثم التنظيم.
أما معالجة إشكالية التعارض و التناقض بين النصوص القانونية في المنظومة القانونية الوطنية، و كذا نقص جودة هذه النصوص من حيث الشكل، فإننا نرى بضرورة تفعيل دور مجلس الدولة و تدعيمه.
إن ظاهرة عدم فعلية القواعد القانونية ظاهرة اجتماعية، و سياسية، و قانونية، لذلك لا يمكن لعنصر واحد من هذه العناصر المتشعبة أن يحصرها سواء من حيث تحديدها و تحليلها، أو من حيث حلها و معالجتها. فيجب أن تتوفر العديد من العوامل و العناصر التي تنتمي إلى كل هذه الجوانب من أجل تكريس القانون في الميدان، إذ لا يوجد فعلية و عدم فعلية القواعد القانونية بصورة مجردة و مطلقة، بل تحدد بصورة قياسية مع العناصر المتشعبة المشار إليها آنفا.
اترك تعليقاً