وفقاً للقواعد العامة يقع على عاتق المتضرر (المريض) إثبات الإخلال بالالتزام بالتبصير وهذا لا يخلو من الصعوبة التي يواجهها المريض في إثبات هذا التقصير خصوصاً بعد أن علمنا صعوبة تحديد مدى هذا الالتزام تحديداً دقيقاً باعتباره أحد مظاهر احترام إرادة المريض؛ إلا أن الفقه اختلف في هذه المسألة في اتجاهين، الأول: ويلقي عبء إثبات عدم التبصير على المريض وحده، والثاني: يلقي ذلك على عاتق الطبيب ولكل منهما ما يبرره:
الاتجاه الأول:
ذهب جانب من الفقه(1).إلى أن عبء إثبات خطأ الطبيب الناجم عن عدم التبصير يقع على عاتق المريض على اعتبار أن الالتزام بالتبصير ما هو إلا جزء من الالتزامات العامة التي يفرضها العقد الطبي وما على الطبيب إلا الالتزام بتقديم العناية المطلوبة والمطابقة للمعطيات العلمية فهو التزام ببذل عناية ومن ثم يقع على عاتق المريض إثبات عدم تبصيره وذلك باقامة الدليل على أن الطبيب قد أخلَّ بالتزامه العقدي بتزويده بالمعلومات الصحيحة والكافية عن طبيعة التدخل الطبي المزمع القيام به أو العلاجات التي يصفها له والأخطار التي يتعرض لها. وهذا ما أكدته محكمة النقض المصرية في قرار لها مقتضاه أن التزام الطبيب هو التزام ببذل عناية خاصة وأن المريض إذا أنكر على الطبيب بذل العناية الواجبة بالتنبيه والإعلام فان عبء اثبات ذلك يقع على عاتق المريض، إلا أنه إذا أثبت هذا المريض واقعة ترجح إهمال الطبيب فانه يكون بذلك قد أقام قرينة قضائية على عدم تنفيذ الطبيب لالتزامه ينتقل عبء الإثبات بمقتضاها إلى الطبيب ويتعين عليه لكي يدرأ المسؤولية عن نفسه أن يثبت قيام حالة الضرورة التي من شأنها أن تنفي عنه وصف الإهمال(2). كما تبنت محكمة النقض الفرنسية هذا الاتجاه أيضاً إذ قضت في قرار لها صدر في 1986 جاء فيه: (ان عدم إعلام المريض من قبل طبيبه بالعملية الجراحية ونتائجها يستلزم هذا من المريض إثبات ذلك لإقامة المسؤولية على الطبيب)(3). وحتى القضاء الأمريكي ألقى عبء إثبات عدم التبصير على المريض أيضاً لأنه هو الطرف المكلف بأثبات إخلال الطبيب بالتزامه بالتبصير بحقيقة حالته ومخاطر التدخل الطبي على اعتبار أن المساس بجسم المريض يستلزم تبصيره ومتى أدعى المريض أن الطبيب قد قصر في التزامه هذا يتعين عليه إثبات ذلك ومتى نجح في إثبات ما يدعيه هنا ينتقل عبء الإثبات إلى الطبيب وهكذا. وبهذا قضت محكمة ولاية (Maine) الأمريكية في عام 1977 بما يفيد هذا المعنى إذ ألزمت المريض بأثبات عدم كفاية المعلومات التي ذكرها له الطبيب وأن قبوله بالعلاج كان مستنداً إلى هذه المعلومات وأن ما لحقه من أضرار ترجع إلى قصور طبيبه في التبصير(4). وبهذا فان إثبات المريض ذلك يقيم المسؤولية على الطبيب فينتقل عبء الإثبات على الطبيب، لكن يستطيع الأخير في مثل هذه الفروض أن يدرأ عنه المسؤولية من خلال إثباته أن حجبه المعلومات استهدف بالدرجة الأولى مصلحة المريض العلاجية، أو أن الخطر كان تافهاً ومن ثم لم تكن هناك حاجة إلى الكشف عنه؛ أو ثبت أن الخطر يعد من الأمور التي تقضي علم الناس كافة بها؛ أو يثبت أن حالة المريض تدخل ضمن إطار الضرورة والتي تعفي الطبيب من التبصير أصلاً؛ كما قد يحصل أن يطلب المريض من طبيبه عدم تبصيره بحقيقة حالته وأوجه الخطر في علاجه فاذا ما أثبت الطبيب ذلك انتفت مسؤوليته. بهذا نلاحظ أن جانباً من الفقه و القضاء قد ألقى عبء إثبات عدم التبصير على المريض وحده؛ في حين أن جانباً آخر ذهب إلى إلقاء عبء إثبات القيام بالتبصير على الطبيب لا المريض وهذا هو الاتجاه الثاني.
الاتجاه الثاني:
وتبناه جانب آخر من الفقه(5). إذ جعل عبء إثبات التبصير على الطبيب وحده، فمن وجهة نظرهم يعد إلقاء عبء الإثبات في هذه المسألة على المريض أمراً غير منطقي لأنه سوف يتحمل حينئذ إثبات واقعة سلبية هي عدم إعلامه بمخاطر ونتائج العمل الطبي لذلك يعد من الأجدر إلقاء هذا العبء على الطبيب نفسه كي يثبت إما الوفاء بهذا الالتزام أو أن هناك سبباً أجنبياً منعه من ذلك كحالة الضرورة مثلاً. فبعد أن تبنت محكمة النقض الفرنسية مسألة إلقاء عبء إثبات عدم التبصير على المريض عادت وفي قرارٍ آخر لها صدر في 25/2/1997 وألقت بموجبه عبء الإثبات على الطبيب وحده، اذ جاء في فحوى القرار أن بامكان الطبيب أن يبرهن واقعة ايجابية بتبصيره للمريض بدلاً من أن يبرهن المريض واقعة سلبية تصعب عليه(6). يتضح لنا من كل ما تقدم ان الفقه، و القضاء اختلفا في تحديد الشخص الذي يقع عليه عبء إثبات عدم التبصير، فتارة ألقى ذلك على المريض، وتارة أخرى على الطبيب فكان لكل منهما ما يبرر موقفه هذا. ومن وجهة نظرنا المتواضعة لانحبذ ترجيح أحد الاتجاهين على الآخر،فالمسألة فيها شيء من التفصيل، فبعد أن تطرقنا إلى حالتي التبصير المشدد والمخفف وبينا الحالة التي يعد فيها التزام الطبيب بنتيجة والتزامه بوسيلة، من هذا المنطلق يمكننا تحديد الطرف الذي يقع عليه عبء الإثبات، فمادام ان التزام الطبيب بالتبصير في الحالات التي تقتضي التشديد هو التزام بنتيجة، فمتى اخل الطبيب بالتزامه هذا أي انه قام بالعمل الطبي المتفق عليه إلا أن النتيجة المرجوة من العقد لم تتحقق نهضت مسؤوليته وعبء الإثبات يقع على عاتق الطبيب لا المريض، أما في الأحوال التي اعتبرنا فيها التزام الطبيب بالتبصير المخفف بوسيلة (ببذل عناية) فانه يجعل على المريض الذي يدعي انه قد أصيب بضرر بسبب خطأ الطبيب عن عدم تبصيره أن يثبت هذا الخطأ أي أن يثبت الانحراف الذي وقع في سلوك هذا الطبيب عن سلوك طبيب في نفس مستواه المهني، بذلك نأمل من مشرعنا تنظيم نص قانوني بهذا الشأن يقضي بأن (يقع عبء إثبات التبصير في حالات التشديد فيه على عاتق الطبيب، ويقع عبء إثبات عدم التبصير على عاتق المريض في حالات التخفيف منه).
___________________________
– د. عبد الرشيد مأمون، المصدر السابق، ص181؛ د. عدنان ابراهيم السرحان، مسؤولية الطبيب المهنية في القانون الفرنسي، المصدر السابق، ص197؛ د. توفيق خيرالله، مسؤولية الطبيب الجراح عن خطأه المهني، المصدر السابق، ص492.
– Recueil Dalloz، 2003، sommaires، commentes، P.661.
2- صدر القرار في 26/6/1969 أشار إليه: د. مصطفى عبد الحميد عدوي، المصدر السابق، ص43.
3- Jean Penneau، Op.Cit.، P.44.
4- أشار إليه: د. مصطفى عبد الحميد عدوي، المصدر السابق، ص41.
5- د. محسن البيه، المصدر السابق، ص179؛ د. حمدي عبد الرحمن، معصومية الجسد، القاهرة، 1987، ص46؛
– S. Lelong، Ch، Santos، Op.Cit.، P.662.
6- Recueil، Dalloz، 2001، Jurisprudence، P.3476.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً