إشكالية عدم القبول المترتب على تقديم وثائق غير مترجمة
أصدرت محكمة البويرة في قسمها المدني حكما مؤرخا في 05/02/2018 رقم الجدول 2193/17 رقم الفهرس 315/18 تضمن قضاء متميزا واجتهادا قضائيا مجلبا للانتباه عالج إشكالية طبيعة الإجراء الذي يفرض ترجمة الوثائق المقدمة في الدعاوى القضائية و المحررة باللغة الأجنبية .
قانون الإجراءات المدنية و الإدارية الصادر بتاريخ 25/02/2008 تضمن نصا يفرض ترجمة أي وثيقة محررة باللغة الأجنبية ( في الغالب باللغة الفرنسية) إلى اللغة العربية في كل الخصومات و هي المادة 8 الفقرة 2 و هذا نصها : “يجب أن تقدم الوثائق و المستندات باللغة العربية أو مصحوبة بترجمة رسمية إلى هذه اللغة ، تحت طائلة عدم القبول “.
بعد مدة من دخول هذا القانون حيز التنفيذ ظهر نوع من التردد عند القضاة في كيفية التصرف مع هذا النص. الإشكال الذي كان مطروحا هو معرفة ما إذا كان الإجراء الذي نصت عليه المادة 8 الفقرة 2 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية هو إجراء جوهري أي أن القاضي ملزم بتطبيقه و بإثارته من تلقاء نفسه أو أنه إجراء شكلي فقط يمكن استبعاده إذا لم تتوفر فيه شروط بطلان هذا النوع من الإجراء.
استقر الرأي بعد نوع من التردد على أن إجراء ترجمة الوثائق المحررة باللغة الأجنبية إلى العربية و المحتج بها أمام القضاء هو إجراء جوهري و من النظام العام أي إجراء لزومي فعدم تقديم ترجمة لوثيقة محررة باللغة الأجنبية يترتب عليه البطلان و بالنتيجة يجب على القاضي استبعاد مثل هذه الوثيقة من النقاش و إذا كانت هي أساس الدعوى فيجب عدم قبول الدعوى.
ميزة الحكم المؤرخ في 05/02/2018 الصادر عن محكمة البويرة أنه نهج طريق مغاير من أنه رفض التصريح بعدم القبول رغم أن المدعي قدم وثائق محررة باللغة الفرنسية و غير مترجمة.
أسباب الحكم
جاء في تسبيب الحكم المؤرخ في 05/02/2018 ما يلي : ” حيث أن المدعى عليها تدفع في مذكرتها الجوابية المقدمة بجلسة 15/01/2018 أن المدعى قدم وثائق و هي محررة باللغة الأجنبية مما يجعل من ذلك خرق للقواعد الشكلية المنصوص عليها في المادة 8 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية ملتمسة رفض الدعوى شكلا ،غير أن دفعها هذا مردود عليه،بدليل أنه تبين للمحكمة أن أحكام المادة 8 الفقرة 2 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية لم ترتب جزاء بطلان أو رفض الدعوى شكلا في حالة تقديم الوثائق باللغة الأجنبية طالما أن لا بطلان بدون نص عملا بالمادة 60 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية خاصة و أن المادة 8 الفقرة 2 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية تتعلق بعدم قبول الوثيقة الغير المحررة باللغة الوطنية شكلا لا برفض أو عدم قبول الدعوى. حيث من جهة أخرى فقد تبين أيضا للمحكمة أن المدعى عليها لم تقدم ما يثبت الضرر الذي لحق بها جراء ما تدفع به من أجل المطالبة ببطلان أو عدم قبول دعوى الحال شكلا عملا بالمادة 60 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية ، و ما دام أن شروط الدفع ببطلان دعوى الحال غير متوفرة ، الأمر الذي يجعل من دفع المدعى عليها هذا غير مبرر و يتعين حينها على المحكمة رفضه “.
حسب رأي المحكمة فإن الدفع بعدم القبول بسبب تقديم وثائق محررة باللغة الأجنبية و الغير المترجمة هو دفع غير مؤسس لسببين : °1) لا يوجد نص صريح يرتب جزاء البطلان في حالة تقديم وثائق باللغة الأجنبية غير مترجمة و ذلك تطبيق لأحكام المادة 60 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية °2) المدعى عليها التي أثارت هذا الدفع لم تثبت الضرر الذي لحقه جراء عدم ترجمة الوثائق المقدمة.
من الناحية المبدئية و من وجهة نظر فائدة ترجمة الوثائق المحررة باللغة الفرنسية و الصادرة عن هيئات و مؤسسات رسمية جزائرية و بالنظر كذلك إلى الأعباء و المصاريف التي يتكبدها المتقاضي لتنفيذ هذا الإجراء فإن موقف المحكمة الرافض لإضفاء عدم القبول التلقائي عن عدم احترام هذا الإجراء قد يجد له المرء ما يبرره .
و لكن من وجهة نظر القانون فإن تفسير المحكمة للمادة 8 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية هو تفسير خاطئ. حكم المحكمة يحيلنا إلى التعمق في نظام بطلان الإجراءات في التشريع الجزائري و تحديد نطاق هذا البطلان. سنعرض ببعض من التفاصيل هذا النظام المعقد نوعا ما و على أساسه سنغلق على حكم المحكمة المؤرخ في 25/02/2008.
1- موقف التشريع من بطلان الإجراءات
لا يمكن تصور قواعد تخضع لها أعمال الإجراءات دون تدعيمها بقواعد جزاء مخالفتها. فجزاء قاعدة ما هو مقياس فعاليتها. فكل التشريعات بدون استثناء أقرت أنظمة للبطلان قد تختلف من بلد لأخر ، ولكن أغلبية التشريعات تميز بين الإجراء الجوهري الذي يترتب على مخالفته البطلان، والإجراء الشكلي المحض الذي يترك للقاضي تقدير جزاء مخالفته.
فالقانون الفرنسي مثلا يميز بين العيب في الشكل والعيب في الموضوع. فإذا تعلق الأمر بعيب في الشكل، فلا يبطل الإجراء إلا إذا نص على ذلك القانون صراحة. وإذا لم يراعي في تحرير أو تبليغ العقد القواعد الجوهرية، أي أن يكون العقد معيبا في موضوعه، فالجزاء هو البطلان.
1-1 – قانون الإجراءات المدنية القديم الصادر في 1966
نظرا لندرة وعدم دقة المواد التي خصصها قانون الإجراءات المدنية القديم لنظام البطلان، فإن هذا النظام الذي كان صعب التطبيق كان يرتكز أساسا على مفهوم “النظام العام” الذي أقرته المادة 462 التي هذا نصها: ” لا يجوز الدفع بالبطلان أو بعدم صحة الإجراءات من خصم يكون قد أودع مذكرته في الموضوع وكذلك الشأن بالنسبة لعدم الإيداع أو عدم تقديم الكفالة المنصوص عنها في المادة 460؛ وإذا طرأ البطلان أو عدم صحة الإجراءات بعد تقديم المذكرات في الموضوع، فلا يجوز إبداء الدفع به إلا قبل أية مناقشة في موضوع الإجراء الذي تناوله البطلان؛ وخلافا لما هو منصوص عليه في الفقرتين السابقتين يجوز إبداء الدفع الخاص بقواعد الاختصاص النوعي في أي وقت؛ وإذا كان البطلان أو عدم صحة الإجراءات المدفوع به ليس من النظام العام، فيجوز للقاضي أن يمنح أجلا للخصوم لتصحيحه، ويرجع أثر هذا التصحيح إلى تاريخ الإجراء المطعون فيه بالبطلان أو بعدم الصحة “.
الفراغ الذي كان يعاني منه قانون الإجراءات المدنية القديم جعل القضاء يتدخل بشكل واسع لتكريس قواعد التمييز بين البطلان لعيب في الشكل والبطلان لعيب في الموضوع. وعدم تطرق هذا القانون إلى الحالات التي يكون فيها الإجراء باطلا والحالات التي يجوز فيها للقاضي تقدير ما إذا كان يجب إقرار البطلان أم لا، نتج عنه تردد في الحلول القضائية.
2-1- قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجديد
ساير محررو قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجديد الصادر في 2008 تطور القضاء في مسألة شروط بطلان أعمال الإجراءات وطبيعتها، وتطرقوا لها في المواد من 60 إلى 66. النظام الجديد الذي أقره المشرع يميز بوضوح بين البطلان من حيث الشكل والبطلان من حيث الموضوع.
التمييز بين البطلان من حيث الشكل والبطلان من حيث الموضوع له آثار معتبرة على مستوى نطاق البطلان ونظامه القانوني.
2- نطاق بطلان الأعمال الإجرائية
أسباب بطلان الأعمال الإجرائية تخضع لنظام مختلف حسبما كان العيب المحتج به هو عيب في الشكل أو عيب في الموضوع. ففي الحالة الأولى، فإن المادة 60 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية تقر قاعدة “لا بطلان بدون نص”، فيما أن هذه القاعدة تستبعد عندما يتعلق الأمر بالبطلان من حيث الموضوع.
1-2 -أسباب البطلان لعيب في الشكل
طبقا للمادة 60 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية: “لا يقرر بطلان الأعمال الإجرائية شكلا إلا إذا نص القانون صراحة على ذلك”. ويمكن الإشارة على سبيل المثال بالنسبة لشكل الأعمال الإجرائية لأحكام المواد 15، 18، 407، 540، و 565 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية المتعلقة بعريضة افتتاح الدعوى، والتكليف بالحضور، ومحضر التبليغ الرسمي، وعريضة الاستئناف، وعريضة الطعن بالنقض.
يفترض في مثل هذا النظام أن كل إجراء يجب أن يكون متبوعا بنص صريح يقر بطلانه في حالة عدم احترام أشكاله،و إلا اعتبر البطلان كبطلان في الشكل فقط. ولكن الملاحظ أنه كثيرا ما ينص القانون على إجراء معين دون الإشارة إلى جزاء خرق الأشكال المقررة لهذا الإجراء، وذلك رغم أن البطلان يفرض نفسه بالنظر إلى طبيعة الإجراء المنصوص عليه، الذي قد يكون بدون شك إجراء جوهري بل حتى من النظام العام. قانون الإجراءات المدنية والإدارية لم يتطرق إلى هذه الإشكالية، فهل يعني ذلك أن قاعدة المادة 60 التي تقر أنه لا بطلان بدون نص تطبق حتى على حالات خرق أشكال تحرير أو تبليغ الأعمال التي تعتبر تقليديا كأنها أشكال جوهرية ؟
في ظل قانون الإجراءات المدنية القديم، وبشأن أسباب البطلان لعيب في الشكل، فإن قضاء المحكمة العليا لم يرتب البطلان إلا إذا كان الشكل المقرر جوهريا، وكانت مخالفته مضرة بحقوق الدفاع. اعتبرت المحكمة العليا مثلا أن نسيان إشارة تاريخ الجلسة هو عيب شكلي غير جوهري لا يترتب عليه بطلان الحكم (المحكمة العليا، الغرفة المدنية، قرار بتاريخ 12/07/1967، المنشور بمجلة العدالة ، سنة 1966 – 1967 ، صفحة 421 ) ، وأن عدم ذكر اسم الشركة بالتدقيق في القرار لا يؤثر على هذا الأخير ( المحكمة العليا، الغرفة المدنية ، قرار بتاريخ 01/08/1981، قرار رقم 21313، المنشور بنشرة القضاة لسنة 1982 ، صفحة 121)، وإغفال تحديد تاريخ النطق بالقرار لا يمس بحقوق الدفاع ومن ثمة لا يترتب عليه البطلان (المحكمة العليا، الغرفة المدنية، 12/05/1982، قرار رقم 24771، المنشور بنشرة القضاة لسنة 1982، صفحة 155) ، كما أن عدم تبليغ المذكرات للخصم في آجالها هو إجراء غير جوهري وغير مضر بالطرف الٱخر ( المحكمة العليا،غرفة القانون الخاص.، 13/12/1967، المنشور بنشرة القضاة لسنة 1968، عدد 1، صفحة 41.)
رغم أن المحكمة العليا حاولت توضيح مفهوم “الإجراء الجوهري”، فإن هذا المفهوم بقي مبهما. أما محررو قانون الإجراءات المدنية والإدارية فإنهم أغفلوا هم كذلك هذا الجانب من الإجراءات، إذ من جهة لم يقدموا تعريفا دقيقا للإجراء الجوهري أو للإجراء من النظام العام، ومن جهة أخرى لم يتطرقوا إلى آثار مخالفة الأشكال الجوهرية في تحرير وتبليغ الأعمال الإجرائية. لذلك فإن القواعد التي كرستها المحكمة العليا تبقى قائمة. وإما الفقه فإنه يعرف الإجراء الجوهري بأنه ذلك الإجراء الذي يعطي للسند أو للعمل الإجرائي طبيعته وميزاته ووجوده القانوني.
2-2 – أسباب البطلان لعيب متصل بالموضوع
حالات بطلان العقود غير القضائية والإجراءات من حيث موضوعها حددت على سبيل الحصر في المادة 64 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية، وهذه الحالات هي :
– انعدام الأهلية في الخصوم.ويتعلق الأمر هنا بانعدام أهلية التقاضي.قد يقع هنا خلط بين الدفع بالبطلان لانعدام الأهلية والدفع بعدم القبول لنفس السبب.
– انعدام الأهلية أو التفويض لممثل الشخص الطبيعي أو المعنوي.
المادة 64 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية تنص أن الحالتين المذكورتين سلفا محددتين على سبيل الحصر، فهل يعني ذلك أن المشرع منع الحكم بالبطلان خارج هتين الحالتين؟ النص الصريح للمادة 64 يوحي بذلك، ولكن ما هو مآل مثلا العقد غير القضائي الذي حرره شخص غير المحضر القضائي أو حرره محضر قضائي خارج دائرة اختصاصه؟ هل أن هذا العقد يعتبر عقدا باطلا لعيب في الموضوع، أم أنه عقدا باطلا لعيب في الشكل فقط كونه لا يدخل في الحالتين المنصوص عليهما في المادة 64؟ نفس السؤال يطرح بالنسبة للقواعد التي تحكم ﺁجال طرق الطعن كعدم قبول الاستئناف لفوات أجل رفعه. لا شك أن كلا الاجرائين مشوبان بالبطلان لعيب في الموضوع، ولكن المشرع فضل إدراج هتين الحالتين لا في خانة الدفع بالبطلان ولكن في خانة الدفع بعدم القبول (م.67 ق.إ.م..إ). في الواقع فإن التمييز بين الدفع بالبطلان و الدفع بعدم القبول ليس له أي أثر عملي كون النظامين القانونيين متشابهين. ويشكل كذلك في نظرنا بطلانا من حيث الموضوع كل مخالفة للمبادئ الأساسية للتقاضي لا سيما مبدأ الوجاهية وحق الدفاع.
في ظل قانون الإجراءات المدنية القديم استقر قضاء المحكمة العليا على أنه يشكل عيب في الموضوع كل مخالفة للأشكال الجوهرية، أو كذلك إذا تعلق الأمر بخرق إجراءات اعتبرها المشرع من النظام العام، واشترط فقط أن لا تكون هذه الإجراءات قد وضعت خصيصا لمصلحة الخصوم (المحكمة العليا،الغرفة المدنية، 08/03/1978، قرار رقم 12228، المنشور بنشرة القضاة لسنة 125،صفحة 125 ). ولكن النصوص الجديدة لقانون الإجراءات المدنية والإدارية لا سيما المادة 60 التي أقرت قاعدة لا بطلان بدون نص، والمادة 64 التي حددت حصريا حالات البطلان تجعلنا نتساءل عن جدوى توسيع حالات البطلان خارج إطار المادة 64.
3- نظام البطلان
1-3- شروط البطلان
إذا كان سبب البطلان يرتكز على عيب في الشكل، يجب على من يتمسك به أن يثبت الضرر الذي لحقه ( المادة 60 من ق.إ.م..إ.) (وهذا الشرط غير ملزم إذا تعلق الأمر بالعيوب من حيث الموضوع. ولكن كلا النوعين من البطلان يشتركان في كونهما لا يقضى بهما إذا زال سبب البطلان بإجراء لاحق أثناء سير الخصومة ( المادة 66 من ق.إ.م..إ).
1-1-3- قاعدة لا بطلان بدون ضرر
لم يتضمن قانون الإجراءات المدنية القديم نصا صريحا بخصوص قاعدة “لا بطلان بدون ضرر”، واكتفت المادة 462 بالنص على أنه: “إذا كان البطلان أو عدم صحة الإجراءات المدفوع به ليس من النظام العام فيجوز للقاضي أن يمنح أجلا للخصوم لتصحيحه ويرجع أثر هذا التصحيح إلى تاريخ الإجراء المطعون فيه بالبطلان أو بعدم الصحة “. ولكن ورغم الفراغ القانوني، فإن المحكمة العليا كرست قاعدة” لا بطلان بدون ضرر”، إذ قضت في عدة قرارات أنه إذا لحق إجراء من الإجراءات ضررا للخصم أو لحقوق الدفاع، فإنه يبطل حتى وإن كان العيب المتصل بهذا الإجراء هو عيب في الشكل فقط ( المحكمة العليا، الغرفة المدنية، قرار بتاريخ 16/03/193، قرار رقم 27427، منشور بمجلة الاجتهاد القضائي ،سنة 36 صفحة 36 ). وطبعا فإن تقدير الضرر من عدمه يرجع للقاضي ( المحكمة العليا ،الغرفة المدنية، قرار بتاريخ 09/06/1982، قرار رقم 24887، منشور بنشرة القضاة،سنة 1982،صفحة 158)
قانون الإجراءات المدنية والإدارية كرس في هذا المجال قضاء المحكمة العليا إذ أن المادة 60 أقرت صراحة مبدأ” لا بطلان بدون ضرر”إذ نصت أنه” لا يقرر بطلان الأعمال الإجرائية شكلا، إلا إذا نص القانون صراحة على ذلك وعلى من يتمسك به أن يثبت الضرر الذي لحقه “.
1-1-1-3- القاعدة تطبق على العيوب في الشكل
حتى يقبل الدفع ببطلان الأعمال الإجرائية شكلا، يجب على من يتمسك به أن يثبت الضرر الذي سببه له العمل الإجرائي المطعون فيه. هل يجب إثبات الضرر إذا كان الإجراء المشوب بالبطلان هو إجراء جوهري أو من النظام العام؟ المادة 60 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية تشير إلى الأعمال الإجرائية شكلا دون تمييز، ومن ثمة فإنه يجب إثبات الضرر لقبول الدفع بالبطلان في الشكل، حتى إذا كان الإجراء الذي تم خرقه هو إجراء جوهري أو من النظام العام.وجود الضرر من عدمه يدخل في السلطة التقديرية للقاضي.
أخذت المحكمة العليا بنظرية تكافؤ البيانات théorie des équipollents في مجال بطلان الإجراءات لعيب في الشكل، وتبعا لذلك فإنها رفضت البطلان المؤسس على إغفال بيان من البيانات المنصوص عليها قانونا إذا أمكن استنتاج هذا البيان من البيانات الأخرى التي يتضمنها السند (المحكمة العليا ،غرفة القانون الخاص.،قرار بتاريخ 06/02/1969، منشور بنشرة القضاة ، سنة 1969،عدد 3،صفحة 23. ). ولكن إذا أوقع هذا الخرق مساسا بحقوق الدفاع، فإن المحكمة العليا أقرت بطلان الإجراء (المحكمة العليا، الغرفة المدنية، قرار بتاريخ 16/03/1983، قرار رقم 27427، منشور بمجلة الاجتهاد القضائي ،سنة 1986،صفحة 36).
نص قانون الإجراءات المدنية والإدارية صراحة عن قاعدة تكافؤ البيانات في الباب المتعلق بالأحكام إذ نصت المادة 283 أنه: “لا يترتب على إغفال أو عدم صحة أحد البيانات المقررة لصحة الحكم بطلانه، إذا ثبت من وثائق ملف القضية أو من سجل الجلسات أنه تم فعلا مراعاة القواعد القانونية”.
تطبيقات المادة 60 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية التي تستلزم إثبات الضرر لإبطال الأعمال الإجرائية شكلا سيجعل اللجوء إلى نظرية تكافؤ البيانات عديم الفائدة في أغلب الحالات.
2-1-1-3- القاعدة لا تطبق على العيوب المتصلة بالموضوع
الدفع ببطلان عقد غير قضائي أو إجراء بسبب عيب في الموضوع، يكون مقبولا دون اشتراط وقوع ضررا للخصم.
3-1-1-3 – صعوبات التمييز بين العيب من حيث الشكل والعيب من حيث الموضوع
التمييز بين العيب من حيث الشكل والعيب من حيث الموضوع، لا سيما على مستوى توفر شرط الضرر من عدمه، قد يثير إشكالات عديدة. وبالفعل إنه من الصعب التمييز بين البطلان من حيث الشكل والبطلان من حيث الموضوع، ومن ثمة فمن السهل الانتقال من بطلان إلى آخر، وإعادة تكييف عيب من حيث الموضوع إلى عيب من حيث الشكل. وإمكانية إعادة التكييف هذه قد يشجع الجهات القضائية إلى الميل بصفة مفرطة نحو تكييف عيوب في الموضوع على أنها عيوب في الشكل تستلزم قيام الضرر لتصبح باطلة، وذلك بغرض تجنب أسباب البطلان.
4-1-1-3 موقف القضاء من بطلان الإجراءات
إن قضاء المحكمة العليا حول مسألة التمييز بين أسباب البطلان لعيب في الموضوع ولعيب في الشكل يواكب ويتماشى مع النصوص الجديدة لقانون الإجراءات المدنية والإدارية من حيث أنه من جهة، ميز بين العيب في الشكل والعيب في الموضوع، ومن جهة أخرى ألزم توفر شرط الضرر لإقرار البطلان لعيب في الشكل.
وقد استقر قضاء المحكمة العليا على ترتيب البطلان على كل إجراء يشوبه عيب في الموضوع. فالأعمال التي يباشرها فاقد الأهلية هي أعمال باطلة وحتى الأعمال السابقة لقرار الحجر تبطل إذا أعيبت بالتدليس أو سوء النية ( المحكمة العليا، غرفة القانون الخاص، 29قرار بتاريخ/11/1967، نشرة القضاة، سنة 1968،عدد 1صفحة 36 ؛ الغرفة التجارية و البحرية، قرار بتاريخ 12/03/1983، قرار رقم 23713، منشور بمجلة الاجتهاد القضائي، سنة 1986.، صفحة165). ونفس الجزاء يترتب على الأعمال باسم الموكل دون توكيل (المحكمة العليا، الغرفة الجنائية، 12/07/1966، نشرة العدالة،سنة 1966 – 1967،صفحة 327. ) وأما مخالفة المواعيد المحددة قانونا فيترتب عليها السقوط ( المحكمة العليا، غرفة القانون الخاص، 05/10/1966، مجلة العدالة،سنة 1966 – 1967،صفحة 384).
واعتبرت المحكمة العليا من المسائل الجوهرية، بعض الإجراءات رغم أن قانون الإجراءات المدنية القديم لم يرتب صراحة على مخالفتها البطلان. فسند تبليغ حكم يكون باطلا إن لم يكن هذا السند مرفقا بنسخة من الحكم، ومن ثمة لا يسرى به أجل الاستئناف ( المحكمة العليا،الغرفة المدنية،قرار بتاريخ 14/04/1982، قرار رقم 27437، نشرة القضاة،سنة 1982،صفحة 18). ويجب أن يرفع الاستئناف ضد من كانوا خصوما في الدرجة الأولى ( المحكمة العليا،الغرفة المدنية، قرار بتاريخ 30/03/1983، قرار رقم 30958، مجلة الاجتهاد القضائي ،سنة 1986، صفحة 21. ) مع أن عريضة الاستئناف المرسلة إلى رئيس المجلس القضائي على شكل رسالة تكون مقبولة إذا كان قد تم إيداعها بأمانة الضبط وتضمنت البيانات المقررة قانونا ولو بصورة موجزة ( المحكمة العليا،الغرفة المدنية، قرار بتاريخ 24/05/1982، قرار رقم 29159، مجلة الاجتهاد القضائي ،سنة 1986،صفحة 133. )ويجب في كل القرارات، تحت طائلة البطلان، النص على أن المستشار المقرر قد تلا تقريره الشفهي ( المحكمة العليا،الغرفة التجارية و البحرية، قرار بتاريخ 20/11/1982، قرار رقم 26387، مجلة الاجتهاد القضائي،سنة 1986،صفحة 158. )كما أن طلب اعتراض الغير الخارج عن الخصومة يكون باطلا إذا كان غير مصحوبا بإيداع الكفالة المنصوص عليها في المادة 192 من قانون الإجراءات المدنية القديم ( المحكمة العليا،الغرفة المدنية ،قرار بتاريخ 09/06/1982، قرار رقم 24573، نشرة القضاة، سنة 1982،صفحة 147).
2-1-3- تصحيح الإجراءات
إذا تم تصحيح الإجراء المشوب بالبطلان، ولم يبقى أي ضرر قائم بعد التصحيح، فإنه لا يقضي بالبطلان، وعندئذ فإن أثر هذا التصحيح يسري من تاريخ الإجراء المشوب بالبطلان (م. 62 ق.إ.م.إ.).
نصت المادة 66 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية أنه لا يقضي ببطلان إجراء من الإجراءات القابلة للتصحيح، إذا زال سبب ذلك أثناء سير الخصومة. وقد يتعلق الأمر مثلا بتمثيل فاقد الأهلية.
يمكن تصحيح الإجراء المشوب بالبطلان إلى غاية صدور الحكم. ولكن هل يجوز تصحيح إجراء أثناء الاستئناف، مثلا تصحيح عريضة افتتاح دعوى مشوبة بالبطلان رغم صدور الحكم ولم يطرأ أي تصحيح في الدرجة الأولى؟ قانون الإجراءات المدنية والإدارية لم يعطي حلا للمسألة، ولكن قضاء المحكمة العليا يوحي بأن الإجراء الباطل أو الغير الصحيح يمكن تصحيحه لا فقط إلى وقت صدور الحكم، بل حتى على مستوى الاستئناف. ففي أحد قراراتها فإن المحكمة العليا ساندت قضاء مجلس قضائي تطرق لموضوع الدعوى رغم بطلان التكليف بالحضور مسببة قضائها على أن بطلان التكليف بالحضور لم يؤثر على الحكم المستأنف ( المحكمة العليا،غرفة القانون الخاص، قرار بتاريخ 25/9/1968، نشرة القضاة ، سنة 1969،عدد 1،صفحة 41. )
3 -2- إجراءات الدفع بالبطلان وأثاره
يخضع الدفع بالبطلان للقواعد العامة المطبقة على الدفوع، ولكن وباعتبار أن أعمال الإجراءات تباشر وتبلغ طوال سير الخصومة، فإن الدفع بالبطلان يخضع لبعض القواعد الخاصة تتسم بالمرونة.
1-2-3- متى يجوز الدفع بالبطلان؟
كما كان عليه الحال سابقا، يجب التمسك بالبطلان لعيب في الشكل بسرعة، وإلا اعتبر الخصم كأنه تنازل عن إثارته. وحسب نص المادة 61 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية: “يمكن إثارة الدفع ببطلان الأعمال الإجرائية شكلا خلال القيام بها، ولا يعتد بهذا الدفع إذا قدم من تمسك به دفاعا في الموضوع لاحقا للعمل الإجرائي المشوب بالبطلان دون إثارته”. ولتفادي العوارض المتكررة، فإن المادة 50 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية تنص على أنه: “يجب إثارة الدفوع الشكلية في آن واحد قبل إبداء أي دفاع في الموضوع، أو دفع بعدم القبول، وذلك تحت طائلة عدم القبول”. وبشأن العيوب المتصلة بعقود التبليغ الرسمي فإن المادة 407 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية تنص على أنه: “إذا لم يتضمن محضر التبليغ الرسمي البيانات المشار إليها أعلاه،يجوز للمطلوب تبليغه الدفع ببطلانه قبل إثارته لأي دفع أو دفاع”.
قلنا أن المادة 64 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية حددت على سبيل الحصر حالات بطلان العقود غير القضائية والإجراءات من حيث موضوعها، وهذه الحالات هي انعدام الأهلية في الخصوم وانعدام الأهلية أو التفويض لممثل الشخص الطبيعي أو المعنوي. في هذه الحالات فإنه يجوز إثارة البطلان لا فقط في أية حالة كانت عليها الدعوى، ولكن كذلك تلقائيا من طرف القاضي. فطبقا للمادة 65 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية: “يثير القاضي تلقائيا انعدام الأهلية، ويجوز له أن يثير تلقائيا انعدام التفويض لممثل الشخص الطبيعي أو المعنوي “.
2-2-3- ممن يقدم الدفع بالبطلان؟
لا يجوز التمسك ببطلان الأعمال الإجرائية شكلا إلا لمن تقرر البطلان لصالحه ( المادة 63 من ق.إ.م.إ). ويجب علاوة على ذلك على من يتمسك بهذا البطلان أن يثبت الضرر الذي لحقه (المادة 60 من ق.إ.م.إ) ( المحكمة العليا،الغرفة التجارية و البحرية، قرار بتاريخ 07/02/2007، ملف رقم 391372، مجلة المحكمة العليا، سنة 2007،عدد 1،صفحة 351).وإذا كان عدم صحة العقد القضائي أو الإجراء مؤسس على بطلان من حيث الموضوع، ويخص انعدام الأهلية أو انعدام الأهلية أو التفويض لممثل الشخص الطبيعي أو المعنوي، فإنه يجوز لأي طرف إثارة البطلان بل يمكن للقاضي حتى إثارته تلقائيا( المادة 64 و 65 من ق.إ.م.إ).
3-2-3 – ﺁثار البطلان
مبدئيا فإن ﺁثار البطلان تقتصر على العمل الإجرائي المطعون فيه، ولكن قد يمتد البطلان ليشمل كل الإجراءات المنجزة على أساس العقد الذي أبطل. وأحيانا قد يكون الجزاء الذي يترتب على البطلان أكثر خطورة إذ يؤدي إلى سقوط الحق ذاته. فإذا أبطل عقد الاستئناف مثلا، فإن أجل الاستئناف يكون غالبا قد انقضى. وبطلان التكليف بالحضور قد يترتب عليه تقادم الدعوى وكذا سقوط الحق.
على ضوء ما سبق عرضه فلا شك أن الحكم محل هذا التعليق المؤرخ في 05/02/2018 لم يميز بين العيب في الشكل و العيب في الموضوع.فإذا كان العيب في الشكل يخضع فعلا كما رأينا لأحكام المادة 60 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية التي تقر قاعدتي لا بطلان بدون نص ولا بطلان بدون ضرر فإن العيب في الموضوع لا يخضع لهذين الشرطين سيما إن تعلق الأمر بعدم القبول. عدم احترام الإجراء المنصوص عليه في المادة 8-2 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية الذي يفرض بنص صريح تقديم ترجمة للوثائق المحررة باللغة الأجنبية يترتب عليه لا البطلان و لكن عدم القبول و من ثمة لا داعي للبحث عما إذا كان خرق هذا الإجراء قد سبب ضررا للخصم أم لا.إضفاء طابع عدم القبول على عدم احترام هذا الإجراء يعني أن المشرع اعتبره لا فقط كإجراء جوهري و لكن كإجراء من النظام العام يجوز للقاضي إثارته من تلقاء نفسه.
و مع ذلك و بالنظر إلى طبيعة إجراء إلزامية ترجمة الوثائق المحررة باللغة الأجنبية الذي يختلف مثلا عن عدم القبول المترتب عن انعدام الأهلية أو عن فوات آجال طرق الطعن فإنه لا مانع في نظرنا أن يتخذ القاص موقفا مرنا في معالجة المسألة فيمكنه مثلا عوضا من أن يقضي آليا بعدم القبول منح أجل للطرف المعني بتقديم ترجمة للوثائق التي قدمها و المحررة باللغة الأجنبية أي تطبيق أحكام المادة 62 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية . و لكن الحل الأمثل للتخفيف من الآثار السلبية المترتبة عن إجراء ترجمة الوثائق المقدمة أمام القضاء هو تدخل المشرع لتعديل أحكام المادة 8-2 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية و ذلك بإعطاء القاضي سلطة كاملة في تقدير نوع الجزاء المترتب عن عدم الترجمة لا سيما منحه سلطة تطبيق المادة 62 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية.
الأستاذ براهيمي محمد
محامي لدى المجلس
حي سي لحلو ، البويرة،الجزائر
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً