الفرق بين فساد القاضي وفساد الموظف العادي
قد أكون –من بين المهتمين بالشأن القضائي إعلامياً- أكثر من تناول حقوق القضاة الوظيفية وطالب بتحسين أوضاعهم وضمان القدر الملائم من هذه الحقوق للوظيفة القضائية. وفي بعض الأحيان أواجه تعليقاتٍ من بعض المتابعين تنتقد اهتمامي بهذا الموضوع، وتركيزي على حقوق القضاة بشكل خاص.
ومن خلال هذه التعليقات وجدت أن الكثير من الناس ليس لديهم الإلمام الكافي أو التصور التام لخطر وظيفة القضاء وأهميتها والضرر العظيم الذي يلحق بنا جميعاً حين يضعف شاغل هذه الوظيفة أو يطرأ عليه من الظروف ما يؤثر سلباً على إتقانه لمهام وظيفته. وهذه مشكلة كبرى تقتضي توعية الناس بها، لأنهم لو أدركوها تماماً لكانوا جميعاً من أشد المطالبين بتوفير كافة الضمانات اللازمة التي تكفل حياد القاضي ونزاهته وتفرغه التام وتهيئة الظروف له للقيام بمهام وظيفة القضاء الجسيمة بكل قوة وأمانة.
ومن الحقائق التي يعلمها من له اطلاع على الميدان القضائي، أن وظيفة القضاء طاردة للكفاءات لا جاذبة، وأن المجلس الأعلى للقضاء يعج بعدد كبير من طلبات التقاعد المبكر والاستقالات التي يتقدم بها بشكل مستمر مجموعة كبيرة من القضاة، حتى اضطر المجلس لرفض الكثير منها والتباطؤ في قبولها، لأنها لو قبلت جميعاً لأدى ذلك لكارثة قضائية؛ إلا أنه ليس صحيحاً الاكتفاء برفض هذه الطلبات والنظر إلى ذلك بأنه الحل الأسهل لهذه المشكلة، إذ دون النظر في الأسباب الحقيقية التي دعت إلى تقديم هذه الطلبات، ومعالجتها معالجة –ولو على مراحل– سنكون أمام معضلة لا تقل خطراً عن شغور الكثير من الوظائف القضائية، وقلة أعداد القضاة، وذلك لأن البديل سيكون بقاء عدد كبير من هؤلاء القضاة يزاولون العمل القضائي بكراهة ودون أي شعور بالرضا الوظيفي، الذي يعتبر أساساً لتحقيق الغاية من أي وظيفة.
أما من ينتقدون المطالبة بالحقوق الوظيفية للقضاة، أو يستكثرون عليهم الرواتب التي يحصلون عليها حالياً، فإن مما ينبغي عليهم إدراكه، أن خطر وظيفة القضاء يتمثل في أنها تعتبر الوظيفة الأولى عالمياً التي يمتلك شاغلها سلطةً تقديرية واسعة ورهيبة، تمكنه من التأثير في دماء الناس وأعراضهم وحقوقهم وأموالهم، ابتداءً بقضايا القتل والحدود والقصاص، إلى قضايا التعزير المتنوعة الواسعة، إلى قضايا النكاح والخلع والطلاق والفسخ، وحقوق حضانة الأولاد، والكثير الكثير من القضايا الحقوقية المالية التي تصل المبالغ فيها إلى مليارات الريالات.
والسلطة التقديرية الممنوحة للقاضي لا يمكن الحدّ منها أو تقليصها حتى ولو في حال التقنين؛ إذ يعتقد بعض الناس خطأً أن التقنين يلغي السلطة التقديرية للقاضي ويحدّ من صلاحياته، وهذه أكبر معلومة مغلوطة في أذهان الناس، إذ لا تتأثر سلطة القاضي التقديرية في حال التقنين أو عدم التقنين، لأنه في التقنين يجتهد في حدود نصوص القانون، أما في حال عدم التقنين فيجتهد في حدود نصوص الشريعة، والاجتهاد هنا وهناك له مبادؤه وقواعده وضوابطه، ومع ذلك فهي لا تؤثر على المساحة الكبيرة لسلطة القاضي.
والسلطة التقديرية للقاضي أساسها العمل العقلي، والنشاط الذهني، يقوم بها القاضي في الدعاوى والخصومات المعروضة عليه، ويقرر ثبوت وصحة الوقائع أو عدم ثبوتها، ثم يقوم بتنزيل الأحكام الشرعية أو النظامية الملائمة على تلك الوقائع.
وبهذا الاعتبار فإن من السهل تتبع حالات الفساد لدى الموظف العادي في الكثير من أنواع الوظائف العامة حتى ولو كانت بمناصب عليا؛ أما الوظيفة القضائية فإن من أشقّ الأمور وأصعبها تتبع حالات الفساد في شاغلها، والتمكن من إثبات ذلك، لأنه مهما كان خطأ القاضي جسيماً فإنه يدور في محيط الاجتهاد الذي قد يخطئ وقد يصيب.
إذاً فإن من أهم الضرورات السعيُ لإغناء القضاة، وتهيئة الظروف الملائمة لهم، وتوفير القدر اللازم والضروري من الحقوق الوظيفية للقاضي، من السكن والعلاج وأساسيات الحياة المعيشية، وذلك لنحقق قدراً كافياً من الإمكانات التي تساعد القضاء على أداء وظيفته، ولتكون تلك الوظيفة جاذبة للكفاءات لا طاردة.
وفي هذا السياق فإن من أصعب الأمور أن يكون لدى بعض القضاة حاجات مادية، ويعاني ديوناً تكبدها بسبب الظروف التي يتشابه فيها القاضي مع غيره، ولا يجد القاضي وسيلةً لقضاء مثل هذه الحاجات، فيضطر لإراقة ماء وجهه، أو لعرض حاجته على تاجر أو قريب أو بعيد، فيؤدي ذلك إلى إلحاق الانكسار والخطر بوظيفة القضاء التي يجب إحاطتها بالكثير من الضمانات والاحتياطات لتبقى مستقلةً مهيبة.
الكاتب:
د. محمد بن سعود الجذلاني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً