عقد التوظيف و إشكالية الأمن التعاقدي
قراءة في قرار مدير الأكاديمية الجهوية للتربية و التكوين لجهة فاس مكناس
بخصوص فسخ عقد التوظيف
بقلم: ذ. صديق عزيز
على مر العقود، اعتبرت الوظيفة العمومية ومازالت تعتبر مقصد الطبقات الفقيرة بالمغرب، لتأمينها أمن و مستقبل الفرد وعبره العائلة ككل، بالرغم من شيوع خطاب رسمي يحاول النيل من هذه الأخيرة. وذلك باعتبارها، حسب رأي بعض المسؤولين خسارة اقتصادية و إحدى أهم معيقات التنمية[1]. فتوجه الإدارات العمومية اليوم للتوظيف بموجب عقود خاصة من طرف المؤسسات العمومية و الجماعات الترابية، بعد اكتمال الاليات القانونية المحددة للعملية[2]، يبرز تزايد الطلب الداخلي على عقود التوظيف كبديل للمفهوم التقليدي للموظف العمومي في إطار نظام المسار المهني.
إن مستقبل الوظيفة العمومية بالمغرب يكتنفه الكثير من الغموض و ضبابية الأفق، فمباريات التوظيف بالتعاقد المنظمة من طرف الأكاديميات الجهوية للتربية و التكوين، أظهرت معالم موظف الغد الذي ترك وحيدا في مواجهة أشخاص القانون العام المتسلحة بامتيازات السلطة العامة من خلال عقود لم يحسم في طبيعتها القانونية وكذا في خضوعها لمقتضيات القانون العام أو الخاص لحد الان. إذ على مر التاريخ لم يستطع فقهاء القانون الإداري استيعاب قدرة تحول الإدارة العمومية إلى ما يشبه المقاولة بتوظيفها لأعوان متعاقدين خاضعين للقانون الخاص[3]
ولعل خير مثال على هشاشة عقود التوظيف، فسخ بعضها من طرف الأكاديميات الجهوية للتربية و التكوين. لذلك طفت على سطح النقاش العمومي مجددا مدى قانونية عملية الفسخ هذه(الفقرة الأولى) و حدود الأمن التعاقدي في هذا النوع من عقود التوظيف(الفقرة الثانية).
أولا: مدى مشروعية قرار فسخ عقد التوظيف
تناقلت الصحف الورقية و المواقع الالكترونية الإخبارية، قرار فسخ عقد توظيف أستاذ متعاقد للتعليم الثانوي تخصص الرياضيات. والظاهر من القراءة الأولية لهذا القرار، كونه اتخذ من طرف واحد يتمثل في مدير أكاديمية جهة فاس ـ مكناس. وتأسس قرار فسخ العقد بناء على مراسلتي المديرية الاقليمية، و كذا على تقرير مفتش التعليم الثانوي لمادة الرياضيات.
و الثابت من خلال هذا القرار، أن تقرير مفتش المادة و إرسالية مديرة المؤسسة التعليمية كسببين لفسخ عقد توظيف الأستاذ المتعاقد، أسسا تعليلات ذلك على أدائه المهني. حيث وصف هذا الأخير بكونه لا يتوفر على المؤهلات المهنية الكفيلة بتدريس مادة علمية كالرياضيات بسلك التعليم الثانوي.
ولعل ما يستشف من خلال قراءة أسباب الفسخ، أنها تنطلق من إشكالية صعوبة تديس مادة الرياضيات بسلك التعليم الثانوي. مما يفيد أن المشكل تربوي، لكن هل يمكم الحكم على تمكن الأستاذ من كفايات التدريس بأبعادها المختلفة المعرفية و المهارية و الوجدانية…. انطلاقا من مدة زمنية محدودة في 4 أو 5 أشهر زاول فيها هذا الأستاذ مهنة التدريس؟ هل هي مدة زمنية كافية للحكم عليه، سيما و أن الأستاذ المرسم تعطى له سنة دراسية كاملة يشتغل فيها كمتدرب في انتظار ترسيمه بعد زيارات متتالية للـتأطير و المصاحبة للمفتش و مدير المؤسسة، و اجتياز امتحان الكفاءة التربوية؟ إضافة إلى أن الأستاذ دائم الاجتهاد في استخدام طرق و منهجيات التدريس الحديثة، فهل نريد جعله مثالا حيا للموظف المحترز الخائف من الخطأ، و الذي لا يقدم على اتخاذ أية مبادرات خشية الوقوع في متاهات المتابعة التأديبية. ثمة هناك قول مأثور مفاده أن الموظف الذي لا يخطىء هو ذاك الذي لا يعمل[4]، وينطبق ذلك على الأستاذ المتعاقد، المتحمس و حديث العهد بمهنة التدريس.
إن تحديد مكامن الخلل في قرار فسخ عقد التوظيف موضوع هذه القراءة، يصطدم بتحديد الطبيعة القانونية لهذا الأخير قصد ترتيب اثاره بشكل دقيق[5]. ” …فالقواعد القانونية التي تحكم أعمال و نشاطات أشخاص القانون العام، منها ما تحكمه قواعد القانون الإداري و تطبق عليه. و من بينها ما يخضع فقط إلى قواعد القانون العام التي تنظم العلاقات ما بين الأشخاص الطبيعيين و المعنويين و أن هناك عدة معايير للتمييز بين ما يدخل في نطاق تطبيق القانون الإداري أو العام فإذا كان العمل له علاقة بممارسة الاختصاص الناتجة في السلطة العمومية فإن القانون الواجب التطبيق هو القانون الإداري و الاختصاص للمحكمة الإدارية.
أما إذا كان نشاط الإدارة لا علاقة له بالاختصاصات الناتجة عن السلطة العمومية، فإن جميع أعمالها تكون مدنية و تسري عليها القواعد القانونية العادية و الاختصاص لا يسند للمحاكم الإدارية… الفقه و الاجتهاد القضائي قد تدخلا لملأ هذا الفراغ للتمييز بين العقد الإداري و العقود الخاصة التي تبرمها الإدارة مع الأغيار. و من المبادئ الثابتة في العقود الإدارية أن الإدارة تعمد إلى فرض شروط تختلف عن الشروط المطبقة ما بين المتقاعدين العاديين وهذه الشروط الاستثنائية تأخذ أساسا من السلطة العامة التي تتوفر عليها الإدارة من أجل ممارسة مهمتها الإدارية. أما العقود الخاصة التي تبرمها الإدارة فإنها تتميز بالتكافؤ بين أطراف العقد، وذلك لأن تلك العقود ليس لها أي ارتباط بالسلطة العامة التي تتوفر عليها الإدارة في الإطار المحدد لمهامها الإدارية.”[6]
وعند الحديث عن طبيعة العلاقة الرابطة بين طرفي العقد، لا بد من التأكيد على أنه ساد في الماضي اتجاه فقهي اعتبر علاقة الموظف بالإدارة رابطة تعاقدية، ثم أصبحت علاقة نظامية. لكن الفقه و القضاء الفرنسيين اعتبرا أساس هذه العلاقة رابطة تعاقدية أساسها إيجاب من قبل الموظف، وقبول من جانب الإدارة كركنين أساسيين من أركان العقد. ثم ظهر اتجاه اخر عارض هذا الاجتهاد، واعتبر علاقة الموظف بالإدارة علاقة قانونية، مادام يستمد حقوقه وواجباته من النصوص القانونية للوظيفة العمومية التي تحدد كذلك مركزه القانوني. وقد اعتبر ذ. سليمان الطماوي أن قبول الموظف ما هو إلا مجرد خضوع لأحكام الوظيفة بحقوقها و التزاماتها[7]. ففي قرار لمجلس الدولة الجزائري صادر بتاريخ 18/3/2004 ملف رقم 009920 في قضية تشغيل البلدية لعامل بصفة مؤقتة معون متعاقد، اعتبر عقد العمل الذي يربط بين الطرفين عقد عمل محدد المدة، و بأن طبيعة عقد التشغيل لا بد أن تذكر كتابيا في عقد التشغيل بمعرفة الطرف المتعاقد[8].
فمادام الأستاذ المتعاقد يتمتع بمجموعة من الحقوق المخولة للموظف الرسمي على غرار الأجرة، التعويضات العائلية، و الرخص…لماذا تم فسخ عقده بهذه السهولة بالرغم من اعتبار الفسخ إجراء ذا طابع احتياطي يمنح للدائن كوسيلة للضغط، وكذا لضمان حقوقه[9]؟ ولماذا لم يستفد من الضمانات التأديبية المنصوص عليها في النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية ؟ وإن كنا أمام عقد من عقود القانون الخاص لماذا لم تحترم مقتضيات فسخ العقد العامة[10] منها و الخاصة[11]؟ أليس ذلك إخلالا صريحا بمبدأ المساواة بين أصحاب المراكز القانونية المتماثلة؟. و في هذا الإطار قضت المحكمة الإدارية العليا بمصر في الطعن رقم 2378 بتاريخ 12/5/1999 بإلغاء قرار رفض منح ترخيص لبائع متجول رغم استيفائه لشروط الترخيص ومنحها لأشخاص اخرين يزاولون نفس المهنة ولهم وضعية مماثلة له.[12]
يرى الباحث في القضاء الإداري ذ.نبيل البوزيدي الادريسي أن ” الغموض هو السمة البارزة في علاقة الموظف المتعاقد مع الادارة، غموض يتجلى في عدة مستويات أولها القانون المطبق في هذه العلاقة اساسه في بعض بنود العقد مقتضيات الوظيفة العمومية في قالب خاص اقرب منه لقانون الشغل، ثم الجهة المختصة في فض النزاعات الناشئة عن هذه العلاقة بين القضاء العادي أو القضاء الاداري، إضافة الى نوعية العلاقة التي تربط الطرفين بين علاقة تعاقدية أو نظامية. فرغم المكتسبات الاقتصادية التي ستوفرها الادارة من التعاقد من خلال التخفيف بالدرجة الأولى من كتلة الأجور، اضافة لإمكانية تنزيل الجهوية المتقدمة من خلال إعطاء الوحدات اللاممركزة إمكانيات و اختصاصات اكبر في مجال التوظيف إلا ان اللاستقرار النفسي و الاجتماعي للموظف المتعاقد في ظل غموض القوانين المطبقة في المجال سيكون له الأثر السلبي في المردودية و الإنتاجية داخل الادارة.” [13]
ثانيا: حدود الأمن التعاقدي في عقود التوظيف
إن صور الطبيعة القانونية للموظف اتسمت دائما بعدم الوضوح، فاجتهادات المجلس الدولة الفرنسي طورت نظرية عقد التوظيف المختلف عن العقود المدنية. يرى ذ ايف فاكون في تقرير قدم أمام الجمعية الوطنية الفرنسية بأن الوظيفة العمومية ليست مهنة كباقي المهن مادام أنها تجسد المصالح العامة العليا. ذلك أن العلاقة التي تربط الإدارة بالموظف ليست إلا عقدا رضائيا نوقشت شروطه و حيثياته بين طرفيه بشكل يلائم وضعية الموظف.[14]
إن قرار فسخ عقد التوظيف بشكل انفرادي من طرف الأكاديمية يسائل حدود الأمن التعاقدي[15] في هذا النوع من عقود التوظيف. ومدى احترام مرتكزات وأسس الأمن و العدالة التعاقديتين، خاصة منها حسن النية أثناء تنفيذ العقد، و احترام الأطراف للمراكز القانونية الناشئة عن العقد. فالفسخ الأحادي الجانب للعقد ضرب لمبدأ استقرار الالتزامات التعاقدية المماثلة للقانون في قوتها الثبوتية و التنفيذية. فقد نص الفصل 230 من قانون الالتزامات و العقود على أن :” الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها، ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون”.
وتظهر فعالية العقد في الإبقاء عليه، لاسيما إذا كان في فسخه ضرر للمصالح المشروعة للمتعاقدين. حيث يثار هنا المس باستقرار المركز القانوني للأطراف المتعاقدة خاصة الطرف الضعيف. فما تم بالإرادة لا يمكن أن ينتفي إلا بالإرادة.[16] و في هذا الإطار نشير إلى صعوبة الدفع بعدم تنفيذ العقد من طرف الطرف الضعيف في العقد في مجال العقود الإدارية، وقد أكد حكم للمحكمة الإدارية لمراكش عدد 115 بتاريخ 24/5/2000 ” أن الدفع بعدم التنفيذ المتعارف عليه في القانون الخاص لا يمكن تطبيقه في مجال العقود الإدارية، و بالتالي فليس للمتعاقد مع الإدارة مبدئيا باعتباره معاونا في تنفيذ خدمة عامة و في تسيير مرفق عام ان يتمسك به”.[17]
إن أسباب الفسخ المشار إليها في صلب قرار مدير الأكاديمية لا تعدو أن تكون في مجملها ذات طبيعة تربوية صرفة كان بالإمكان معالجتها بشكل تربوي بعيدا عن إنهاء العلاقة التعاقدية بهذا الشكل[18]. فقد جاء في قرار للمجلس الأعلى محكمة النقض حاليا عدد 7 بتاريخ 14/01/2001 ” … أنه كان على المحكمة أن تجري بحثا في القضية للتأكد من مدى احترام كل من الطرفين المتعاقدين لبنود العقد و أحكامه. و ألا تقتصر على الاستناد إلى تقرير لجنة المراقبة الذي يعتبر من صنع الإدارة و لا يشكل دليلا كافيا على إخلال المتعهد بالتزاماته إزاء الإدارة.”[19] ثم لماذا لم يتم إنذار المعني بالأمر قبل اللجوء لقرار الفسخ. فقد اعتبر مجلس الدولة الفرنسي الإنذار الموجه إلى المتعاقد مع الإدارة قبل أن تلجأ إلى فرض عقوبة عليه إجراء تحضيريا و ليس قرارا إداريا.[20] ثم هل يمكن الاستناد إلى تقرير المفتش كسبب وجيه لفسخ العقد؟ مادام أنه يدخل في إطار الإرشاد و التوجيه اللذين يمارسهما هذا الأخير كمشرف تربوي، و ليس كمبرر لإحداث أي أثر قانوني في مركز المتعاقد، طالما أن الإدارة تملك وسائل و إجراءات تأديبية بديلة.
ولعل ما يجعلنا نتساءل عن أهمية الأمن التعاقدي و سبل الارتقاء به إلى قاعدة قانونية منصوص عليها في التشريعات الوطنية و الدولية، اتجاه الإدارة ممثلة في الأكاديميات الجهوية للتربية و التكوين إلى تضمين بنود العقد الذي تبرمه مع الأساتذة المتعاقدين بعض الشروط التي تتسم بالتعسف و الحيف. و من أمثلة هذه الشروط ما ارتبط بفسخ العقد و إنهائه، من خلال ما جاء في البند 13 من العقد و الذي نص على أنه يمكن لمدير الأكاديمية فسخ هذا العقد كتابة بعد انصرام أجل 30 يوما يحتسب من تاريخ التوصل المتعاقد بالإشعار الذي لا يحق له المطالبة بأي تعويض. كما يمكن أن يفسخ مدير الأكاديمية العقد دون إخطار أو إشعار و لا تعويض في حالات حددها البند بشكل حصري من بينها ما يلي:
إذا أقدم المتعاقد(ة) على تصرفات ماسة بالأخلاق العامة أو بالسلامة الجسدية أو النفسية للتلميذات والتلاميذ أو مع زملائه أو مع رؤسائه؛
إذا لم يلتحق بعمله خلال 5 أيام من تاريخ الإعلان عن التعيين أو إعادة التعيين أو التكليف.
إذا ثبت تسجيل اسمه بسجلات التأديب المركزي.
إذا ثبت أنه (ها) يمارس نشاطا آخر يدر عليه (ها)دخلا كيفما كانت طبيعته.
إذا ارتكب المتعاقد أحد الأفعال المشينة داخل فضاء المؤسسة التعليمية أو بالحجرة الدراسية نذكر على سبيل المثال :
الاعتداء بالضرب والسب والقذف الفادح في حق زملائه داخل فضاء المؤسسة،
رفض إنجاز المهام الموكولة إليه من لدن إدارة المؤسسة عمدا وبدون مبرر،
القيام بكل ما من شأنه أن يعرقل سير المؤسسة التي يشتغل بها،
التغيب بدون إذن مبرر بوثيقة رسمية لأكثر من 5 أيام أو 10 أنصاف يوم خلال السنة الدراسية.
و في حالة رغبة الأستاذ المتعاقد فسخ العقد الذي يربطه بالأكاديمية، يلزمه انتظار نهاية السنة الدراسية بعد إخطار مدير الأكاديمية كتابة في أجل لا يقل عن 30 يوما. وقد ألزم المتعاقد بضرورة تبليغ طلب الفسخ كتابة عكس تخيير الإدارة بين إمكانية فسخها العقد بوسائل تبليغ متعددة و لو برسالة عبر البريد الالكتروني للمعني بالأمر و الكل يعلم معيقات التبليغ الالكتروني خاصة في العالم القروي. و بالتالي فالبند 13 من عقد التوظيف يدفعنا للتساؤل عن جدوى توجه المشرع المغربي للتأسيس النظري لمقومات الأمن التعاقدي، في مختلف أبعاده الاجتماعية والاقتصادية.
إن أحكام و قرارات القاضي الإداري تجسد الطابع غير المتساوي للعلاقات القانونية بين الإدارة و المخاطبين بقراراتها و أعمالها. حيث يميل هذا الأخير لحماية الإدارة أكثر من سعيه لحماية حقوق وحريات الأفراد[21]. فقد قضت إدارية الدار البيضاء في حكم لها عدد 264 بتاريخ 3/5/2003 “و حيث إنه إذا كان الفقه و القضاء الإداريين قد استقرا على أنه للإدارة الحق دائما في إنهاء عقودها حتى ولو لم يرتكب المتعاقد أي إخلال أو خطأ من جانبه و أن للإدارة سلطتها في إنهاء العقد متى قدرت أن ذلك تقتضيه المصلحة العامة و يبقى للطرف الاخر الحق في التعويضات إن كان لها وجود فإن ذلك رهين بوجود ظروف تستدعي هذا الإنهاء و أن يكون رائد الإدارة في الالتجاء إليه هو تحقيق المصلحة العامة المقصودة”.[22] كما أن القاضي الإداري و دائما في إطار ضمان الأمن التعاقدي مطالب بالبحث عن مدى ملاءمة الفسخ كعقوبة للخطأ المنسوب إلى المتعاقد[23]. و بالتالي يبقى الاعتماد على التوظيف بالتعاقد وفق النمودج الأمريكي الذي يأخد بنظام الوظيفة بعيدا عن نظام المسار المهني الذي يعتمده المغرب ضرورة ملحة، و قد نصت المادة 6 مكرر من النظام الأساسي للوظيفة العمومية على ذلك[24]. كما ينبغي التفكير بشكل جدي في تبني نموذج بعض الأنظمة القانونية و القضائية المقارنة حيث تخضع كل تصرفات و أعمال الإدارة للقانون الخاص و للقضاء العادي.
اعتبر بعض الباحثين في القضاء الإداري الفرنسي أن عقد التوظيف يبخس الوظيفة العمومية باعتباره في منزلة أقل من الوظيفة العمومية « sous-fonction publique » حيث تظهر فيه الدولة بمظهر المشغل السيء. كما يؤكد الأستاذ بوعزاوي بوجمعة أن القضاء الإداري المغربي مازال ينقصه الكثير حتى يحقق الأمن القضائي للمتقاضين، بسبب وجود مناطق الظل في اجتهادات محاكمنا الإدارية. و مادامت هذه الأخيرة -كحامية لامتيازات الإدارة- تطبق قواعد القانون العام، و الذي هو بطبيعته قانون أشخاص غير متساوين. الشيء الذي يجعل الأمن القضائي الإداري في المحك[25].
إن المشرع المغربي مازال في حاجة ماسة لتمحيص و تجويد النصوص القانونية، وكمثال على ذلك ما رافق المادة 8 من القانون 41.90 المحدثة بموجبه المحاكم الإدارية[26]، من جدال و سجال بالبرلمان. حيث عارضت الحكومة التعديلات التي تقدمت بها المعارضة البرلمانية بخصوص اختصاص المحاكم الإدارية بالنظر ابتدائيا في جميع المنازعات التي تكون الإدارة طرفا فيها. وذلك لتفادي الاشكالات التي ستواجهها الإدارة حينما تتصرف كشخص خاص يجري تصرفات قانونية كإبرام العقود، وهذا ما حصل في قضية فسخ عقد التوظيف من طرف مدير الأكاديمية.
ينبغي توفير البنية الملائمة متعددة الأبعاد لتحصين عقود التوظيف في فضاء الوظيفة العمومية بالمغرب. ولعل المنطلق الرئيسي يتمثل في ملاءمة عقود التوظيف مع المتغيرات السوسيو اقتصادية، في إطار مقومات الأمن التعاقدي حتى تحقق المساواة الفعلية بين الأستاذ المرسم و الأستاذ الموظف بموجب عقد.
.[1] “واعتبر رئيس الحكومة أن “الوظيفة العمومية تعتبر ثقلا على الدولة، لأنها تنظم الإنتاج، وغير منتجة، في حين أن العمل في القطاع الخاص يعتبر عملا منتجا، إذ يصبح الفرد يوفر دخلا للدولة عوض أن يكون ثقلا عليها”، مواصلا بأنه عندما تولى منصب رئيس الحكومة كانت الفكرة السائدة لدى القطاعات الحكومية “هي أنه يجب ألا نكون حتى تكون الوظيفة جاهزة، وهكذا أصبحنا أعداء للتكوين، لكنني رفضت هذا الوضع، وقلت إنه لا يمكن إيقاف التكوين، لأننا بإيقافه نقتل أنفسنا”….. مقال صحفي منشور بموقع هسبريس الالكتروني على الرابط: https://www.hespress.com/societe/284768.html
[2] نذكر من بينها الفصل 6 مكرر من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية (24 فبراير 1958) على أنه:” يمكن للإدارات العمومية عند الاقتضاء أن تشغل أعوانا بموجب عقود، وفق الشروط و الكيفيات المحددة بموجب مرسوم. لا ينتج عن هذا التشغيل، في أي حال من الأحوال حق الترسيم في أطر الإدارة. وكذا المرسوم رقم 770.15.2 الصادر بتاريخ 9 غشت 2016 و المحدد لشروط و كيفيات التشغيل بموجب عقود بالإدارات العمومية.
[3] ” « …Les fonctionnaires qui ne font que des actes de gestion ou fonctionnaires de gestion sont dans la même situation que les agents privés; ils sont liés à l’administration par un véritable contrat (…) Mais on s’est aperçu que le critérium de distinction, même tel qu’avait tenté de le préciser M. Berthélemy, était très vague, qu’à proprement parler il n’y avait pas une des activités administratives qui n’avait été à une certaine époque exercée par des particuliers et qu’on ne pût concevoir encore comme pouvant être exercée par des particuliers». DUGUIT (Léon), Les transformations du droit public, Paris : A. Colin, coll. Bibliothèque du mouvement social contemporain, 1912, p. 4
[4] د فاروق خلف الطبيعة القانونية لعلاقة الموظف بالإدارة مقال منشور بمجلة العلوم القانونية معهد العلوم القانونية و الإدارية بالمركز الجامعي بالوادي الجزائر عدد 2 سنة 2 يناير 2011 ص 84
[5] لمزيد من التفاصيل راجع مقالنا تحت عنوان” قراءة في عملية التوظيف بموجب عقود من طرف الأكاديميات ” منشور بالمجلة القانونية الإلكترونية.
[6] حكم المحكمة الإدارية للدار البيضاء عدد 243 بتاريخ 23/9/1996 د. أحمد بوعشيق الدليل العملي للاجتهاد القضائي في المادة الإدارية الجزء 2 منشورات REMALD ص 418.
[7] د فاروق خلف الطبيعة القانونية لعلاقة الموظف بالإدارة مقال منشور بمجلة العلوم القانونية معهد العلوم القانونية و الإدارية بالمركز الجامعي بالوادي الجزائر عدد 2 سنة 2 يناير 2011 ص 94
[8] نفس المرجع أعلاه ص 98.
ذ. عبد الحق الصافي دروس في القانون المدني مصادر الالتزامات الطبعة الثانية 2014 ص 133[9]
[10] ينص الفصل 260 من قانون الالتزامات و العقود:” إذا اتفق المتعاقدان على أن العقد يفسخ عند عدم وفاء أحدهما بالتزاماته وقع الفسخ بقوة القانون، بمجرد عدم الوفاء.”
[11] نصت المادة المادة 33 من مدونة الشغل على مايلي: “ينتهي عقد الشغل المحدد المدة بحلول الأجل المحدد للعقد، أو بانتهاء الشغل الذي كان محلا له. يستوجب قيام أحد الطرفين بإنهاء عقد الشغل محدد المدة، قبل حلول أجله، تعويضا للطرف الآخر، ما لم يكن الإنهاء مبررا، بصدور خطآ جسيم عن الطرف الآخر، أو ناشئا عن قوة قاهرة. يعادل التعويض المشار إليه في الفقرة الثانية أعلاه، مبلغ الأجور المستحقة عن الفترة المتراوحة ما بين تاريخ إنهاء العقد والأجل المحدد له.”
[12] د نادية بونعاس التحقيق في المنازعة الإدارية في الجزائر تونس ومصر مقال منشور بمجلة العلوم القانونية و السياسية منشورات جامعة لخضر بالوادي الجزائر العدد 9 يونيو 2017 ص 156.
[13] لمزيد من التفاصيل يرجى الاطلاع على رسالة الماستر الخاصة بالباحث نبيل البوزيدي الادريسي في القضاء الإداري تحت عنوان:” :”مبدأ المساواة في ولوج الوظيفة العمومية” نوقشت بكلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية بسلا ، السنة الجامعية 2013-2014.
[14] Haitam Saqr les droits et libertés du fonctionnaire dans les jurisprudences du conseil d’état Libanais et conseil d’état Français thèse de doctorat soutenue le 5 novembre faculté de droit et des sciences sociales université de Poitiers. P 21.
[15] يقصد بالأمن التعاقدي:” توقع المخاطر التعاقدية وتلافيها، وذلك باتباع إجراءات محددة عند التعاقد، لاسيما بشأن ما يتعلق بالتنفيذ والمسؤولية العقدية.” . ذ عبد المجيد غميجة عرض مقدم في اللقاء الدولي حول “الأمن التعاقدي وتحديات التنمية” المنظم من قبل الهيئة الوطنية للموثقين الصخيرات 18 و 19 أبريل 2014.
[16] ذ عبد المجيد غميجة عرض مقدم في اللقاء الدولي حول “الأمن التعاقدي وتحديات التنمية” المنظم من قبل الهيئة الوطنية للموثقين الصخيرات 18 و 19 أبريل 2014.
[17] ذ. أحمد بوعشيق الدليل العملي للاجتهاد القضائي في المادة الإدارية الجزء الثاني منشورات مجلة REMALD ص 379.
[18] “رسالة الفسخ يجب أن تكون معللة أي تتضمن أسبابا مبررة” قرار المجلس الأعلى عدد 350 صادر بتاريخ 28/3/2007 منشور بمجلة المحاكم المغربية عدد 115 يوليوز غشت 2008
[19] ذ. أحمد بوعشيق الدليل العملي للاجتهاد القضائي في المادة الإدارية الجزء الثاني منشورات مجلة REMALD ص 406 و 407.
[20] ذ المكي السراجي الطبيعة القانونية للإنذار تعليق على حكم المحكمة الإدارية للرباط عدد 436 بتاريخ 26/10/2015 منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية عدد 134/135 ماي غشت 2017 ص 430.
[21] ذ بوعزاوي بوجمعة الأمن القضائي الإداري مقال منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية عدد 134/135 ماي غشت 2017 ص 120
[22] حكم إدارية الدار البيضاء عدد 264 بتاريخ 5/5/2003 الشركة المغربية للأعمال ضد وزير التجهيز منشور ب ذ. أحمد بوعشيق الدليل العملي للاجتهاد القضائي في المادة الإدارية الجزء الثاني منشورات مجلة REMALD ص 479.
[23]” …وحيث إن عقوبة الفسخ التي لجأت إليها الإدارة كجزاء لسوء الصيانة وعدم احترام بنود العقد لا تتلاءم مع الأخطاء المنسوبة إلى المتعاقد معها.” حكم إدارية الدار البيضاء عدد 243 بتاريخ 23/9/1996 منشور ب ذ. أحمد بوعشيق الدليل العملي للاجتهاد القضائي في المادة الإدارية الجزء الثاني منشورات مجلة REMALD ص 424.
[24] لمزيد من التفاصيل يرجى الاطلاع رسالة الماستر الخاصة بالباحث نبيل البوزيدي الادريسي في القضاء الإداري تحت عنوان:” :”مبدأ المساواة في ولوج الوظيفة العمومية” نوقشت بكلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية بسلا ، السنة الجامعية 2013-2014.
[25] ذ بوعزاوي بوجمعة الأمن القضائي الإداري مقال منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية عدد 134/135 ماي غشت 2017 ص 121 و 122.
[26] تنص المادة 8 من قانون احداث المحاكم الإدارية على أنه: ” تختص المحاكم الإدارية مع مراعاة أحكام المادتين 9 و11 من هذا القانون، بالبت ابتدائيا في طلبات إلغاء قرارات السلطات الإدارية بسبب تجاوز السلطة وفي النزاعات المتعلقة بالعقود الإدارية ودعاوي التعويض عن الأضرار التي تسببها أعمال ونشاطات أشخاص القانون العام، ما عدا الأضرار التي تسببها في الطريق العام مركبات أيا كان نوعها يملكها شخص من أشخاص القانون العام.
وتختص المحاكم الإدارية كذلك بالنظر في النزاعات الناشئة عن تطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالمعاشات ومنح الوفاة المستحقة للعاملين في مرافق الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العامة وموظفي إدارة مجلس النواب وعن تطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالانتخابات والضرائب ونزع الملكية لأجل المنفعة العامة، وبالبت في الدعاوي المتعلقة بتحصيل الديون المستحقة للخزينة العامة والنزاعات المتعلقة بالوضعية الفردية للموظفين والعاملين في مرافق الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العامة، وذلك كله وفق الشروط المنصوص عليها في هذا القانون.
وتختص المحاكم الإدارية أيضا بفحص شرعية القرارات الإدارية وفق الشروط المنصوص عليها في المادة 44 من هذا القانون.”
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً