فض التنازع على الاختصاص
المحكمة الدستورية العليا المصرية
قضية رقم 76 لسنة 29 قضائية المحكمة الدستورية العليا “دستورية”
مبادئ الحكم: تعديلات دستورية – استفتاء – مباشرة الحقوق السياسية
نص الحكم
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم الاثنين الأول من أكتوبر سنة 2007 م، الموافق 19 من رمضان سنة 1428 هـ
برئاسة السيد المستشار/ ماهر عبد الواحد
رئيس المحكمة
والسادة المستشارين/ ماهر البحيري ومحمد علي سيف الدين وأنور رشاد العاصي وإلهام نجيب نوار وماهر سامي يوسف وسعيد مرعي عمرو
أعضاء
وحضور السيد المستشار/ رجب عبد الحكيم سليم
رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ ناصر إمام محمد حسن
أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 76 لسنة 29 قضائية “دستورية” والمحالة من محكمة القضاء الإداري بحكمها الصادر في الدعاوى أرقام 18434 و18665 و18713 لسنة 61 بجلسة 25/3/2007 م.
المقامة من
1- السيد/ … الشهير/ …
2- السيد/ …
3- السيد/ …
4- السيد/ … “متدخل”
5- السيد/ … “متدخل”
ضد
1- السيد/ رئيس الجمهورية
2- السيد/ وزير الداخلية
3- السيد/ وزير العدل
الإجراءات
بتاريخ 25 مارس سنة 2007، ورد إلى قلم كتاب هذه المحكمة ملف الدعاوى أرقام 18434 و18665 و18713 لسنة 61 قضائية تنفيذا لحكم محكمة القضاء الإداري “الدائرة الأولى” الصادر بجلستها المعقودة في التاريخ ذاته، والذي قضى بوقف هذه الدعاوى، وإحالتها إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية الفقرة الثانية من المادة 24 من القانون رقم 73 لسنة 1956 بتنظيم مباشرة الحقوق السياسية المعدل بالقانون رقم 1 لسنة 2002.
وقدم المدعى الثاني مذكرة طلب فيها الفصل في دستورية التعديلات الدستورية المزمع إجراؤها لمخالفتها نص المادة 189 من الدستور وقضاء المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 11 لسنة 13 قضائية دستورية الصادر بجلسة 8/7/2000، وحكمها الصادر بجلسة 26/6/2005 بشأن دستورية قانون الانتخابات الرئاسية، واحتياطيا تحديد الجهة القضائية المختصة بنظر دعوى وقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية رقم 78 لسنة 2007 بدعوى الناخبين للاستفتاء على التعديلات الدستورية وعدم دستورية ذلك القرار ومن ثم بطلان الاستفتاء المحدد له يوم 26/3/2006 إضافة إلى الحكم بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة 24 المحالة بها الدعوى والمادة 115 من اللائحة الداخلية لمجلس الشعب كما قدم المدعيان الثاني والثالث مذكرات صمموا فيها على طلباتهم مرددين مضمون ما جاء بمذكرة دفاع الأول.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكراتها طلبت فيها أصليا عدم قبول الدعوى واحتياطيا رفضها.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحاضر الجلسات حيث قدم المدعون مذكرات بدفاعهم وطلباتهم. وقررت المحكمة إصدار حكمها بجلسة اليوم وصرحت بتقديم مذكرات خلال أسبوعين فقدم المدعون مذكراتهم في الميعاد وبتاريخ 30/9/2007 قدم المدعى الثالث طلبا لفتح باب المرافعة التفتت عنه المحكمة.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع – على ما يتبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق – تتحصل في أن كلا من المدعين كانوا قد أقاموا – على التوالي – الدعاوى أرقام 18434 و18665 و18713 لسنة 61 قضائية، أمام محكمة القضاء الإداري، طلبا للحكم بوقف تنفيذ وإلغاء قرار رئيس الجمهورية رقم 78 لسنة 2007 بدعوة الناخبين للاستفتاء على تعديلات أربع وثلاثين مادة من مواد الدستور أقرها مجلس الشعب والذي تحدد له يوم 26/3/2007 وذلك على أسانيد حاصلها أن تلك التعديلات قد أقرها المجلس بأغلبية باطلة من الناحية الفعلية وعرضت على المواطنين بغير إعلامهم بمضمونها علما كافيا. فضلا عن أن تلك التعديلات قد جاءت ماسة بحقوق الإنسان ومهدرة لمبدأ استقلال القضاء وتنال من الحقوق السياسية للمواطنين وحرياتهم.
وقد أضاف المدعى في الدعوى الأولى طلبا جديدا بوقف تنفيذ وإلغاء القرار الصادر من اللجنة العليا للانتخابات فيما تضمنه من قصر الإشراف القضائي على اللجان العامة فقط دون اللجان الفرعية استنادا إلى نص المادة 24 من قانون مباشرة الحقوق السياسية وتدخل كل من … و… منضمين للمدعي الثاني وقبلت المحكمة تدخلهم وبعد أن قررت ضم الدعاوى الثلاث ليصدر فيها حكم واحد ارتأت محكمة القضاء الإداري أن ثمة شبهة في دستورية نص الفقرة الثانية من المادة 24 من قانون مباشرة الحقوق السياسية المعدل بالقانون رقم 1 لسنة 2002 لسبق قضاء المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية هذا النص قبل تعديله، ولما يتضمنه من إجازة تعيين رؤساء اللجان الفرعية من غير أعضاء الهيئات القضائية في غير أحوال انتخابات مجلس الشعب وحالتي الاستفتاء المنصوص عليهما في المادتين 127 و136من الدستور،
بما في ذلك من إهدار لضمانة دستورية في حالات دون أخرى، وقضت المحكمة بعدم اختصاصها ولائيا بنظر طلب وقف تنفيذ وإلغاء قرار رئيس الجمهورية رقم 78 لسنة 2007 وقبول طلب وقف تنفيذ وإلغاء قرار اللجنة العليا للانتخابات المتضمن تعيين رؤساء لجان فرعية من غير أعضاء الهيئات القضائية شكلا وبوقف الدعاوى بشأن هذا الطلب، وإحالتها إلى هذه المحكمة للفصل في دستورية الفقرة الثانية من المادة 24 من القانون رقم 73 لسنة 1956 بتنظيم مباشرة الحقوق السياسية معدلا بالقانون رقم 1 لسنة 2002.
وحيث إن طلب الحكم بعدم دستورية التعديلات الدستورية، أو التصدي لذلك، في غير محله، ذلك أنه بالإضافة إلى مجاوزته نطاق حكم الإحالة، فإن الدستور. وعلى ما استقر عليه قضاء هذه المحكمة – لا يندرج في مفهوم القوانين التي تباشر المحكمة الدستورية العليا الرقابة عليها في نطاق ولايتها المنصوص عليها في صدر المادة 29 من قانونها والتي جاءت ترديدا لما نصت عليه المادة 175 من الدستور، باعتبار أن الدستور وهو مظهر للإرادة الشعبية ونتاجها في تجمعاتها المختلفة المترامية على امتداد النطاق الإقليمي للدولة تتصدر أحكامه القواعد القانونية الأدنى مرتبة منها وتعلوها، وتكون هي الأحق بالنزول عليها احتكاما إليها وامتثالا لها وهي في ذلك تكون مغايرة للنصوص القانونية، سواء تلك التي أقرتها السلطة التشريعية أم أصدرتها السلطة التنفيذية في حدود صلاحياتها الدستورية،
ومن ثم فقد كان منطقيا أن يقصر المشرع الدستوري والمشرع العادي ولاية المحكمة الدستورية العليا في مجال مراقبة الشرعية الدستورية على النصوص التشريعية دون غيرها، وعلى ذلك فإن قالة إخضاع الدستور لرقابة هذه المحكمة تكون مجاوزة حدود ولايتها مقوضة تخومها، ومن ثم يخرج ذلك عن نطاق اختصاصها. لا يغير من ذلك ما أطلقه المدعون من أسماء على هذه التعديلات مثل “قانون تعديل الدستور”، إذ إن الأمر لا يخرج عن أن ما صدر ليس إلا تعديلا لبعض مواد الدستور وفقا للإجراءات التي نصت عليها المادة 189 من الدستور في هذا الشأن، وموافقة السلطة التشريعية عليها وفقا لأحكام هذه المادة لا تخرجها عن طبيعتها الدستورية.
وحيث إن طلب الحكم بعدم دستورية القرار الجمهوري رقم 78 لسنة 2007 بدعوة الناخبين للاستفتاء،. وبطلان الاستفتاء المحدد له يوم 26/3/2007، وعدم دستورية المادة 115 من اللائحة الداخلية لمجلس الشعب، فكلها طلبات قد جاءت مجاوزة لنطاق حكم الإحالة – وهو ما يتحدد به نطاق هذه الدعوى – ومن ثم فتضحى دعوى مباشرة غير مقبولة أمام هذه المحكمة لعدم اتباع الإجراءات المنصوص عليها في قانونها، ذلك أن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن ولايتها في الدعاوى الدستورية لا تقوم إلا باتصالها بالدعوى اتصالا مطابقا للأوضاع المقررة في المادة 29 من قانونها الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979، وذلك إما بإحالة الأوراق إليها من إحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي للفصل في المسألة الدستورية، وإما برفعها من أحد الخصوم بمناسبة دعوى موضوعية دفع فيها بعدم دستورية نص تشريعي، وقدرت محكمة الموضوع جدية الدفع ورخصت له برفع الدعوى الدستورية أمام المحكمة الدستورية العليا.
وحيث إن الفقرة الثانية من المادة 24 من القانون رقم 73 لسنة1956 بتنظيم مباشرة الحقوق السياسية بعد تعديله بالقانون رقم 1 لسنة 2002 تنص على أن “ويعين رؤساء اللجان العامة من أعضاء الهيئات القضائية، ويعين رؤساء اللجان الفرعية من أعضاء الهيئات القضائية في أحوال الانتخابات لعضوية مجلس الشعب والشورى والاستفتاء المنصوص عليه في المادتين 127 و136 من الدستور، وفي غير ذلك من أحوال الانتخابات والاستفتاء المشار إليها في المادة الأولى من هذا القانون، يعين رؤساء اللجان الفرعية من العاملين في الدولة أو قطاع الأعمال العام، وفي جميع الأحوال يكون اختيار أمناء اللجان العامة والفرعية من بين هؤلاء العاملين”.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة – وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها، ارتباطها عقلا بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي وذلك بأن يكون الفصل في المسائل الدستورية التي تدعى هذه المحكمة لحسمها لازما للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها. فلا تفصل المحكمة في غير المسائل الدستورية التي يؤثر الحكم فيها على النزاع الموضوعي، ولما كان النزاع الموضوعي في الدعاوى المحالة يدور حول الاستفتاء على التعديلات الدستورية، فإن نطاق الدعوى الماثلة يتحدد بنص الفقرة الثانية من المادة 24 المشار إليها في مجال إعماله بالنسبة لعملية الاستفتاء على التعديلات الدستورية دون غيرها من عمليات الانتخابات والاستفتاءات الأخرى.
وحيث إن حاصل النعي على النص المطعون فيه على ما ورد بحكم الإحالة ومذكرات المدعين في الدعاوى الموضوعية أن القانون رقم 1 لسنة 2002 – الذي تضمنه – باطل شكلا لعدم عرضه على مجلس الشورى باعتباره من القوانين المكملة للدستور، بالإضافة إلى عدم عرضه على قسم التشريع بمجلس الدولة، أو على المجلس الأعلى للهيئات القضائية، ومن حيث الموضوع فقد جاء مخالفا للمادتين 62 و88 من الدستور لإهداره الضمانة الدستورية المتمثلة في إشراف أعضاء من هيئة قضائية على الاستفتاء على التعديلات الدستورية – وهو الأكثر أهمية – دون غيرها من عمليات الانتخابات والاستفتاء الأخرى المنصوص عليها في المادتين 127، 136 من الدستور، وعدم الالتزام بما قضت به المحكمة الدستورية العليا في حكمها الصادر في الدعوى رقم 11 لسنة 13 قضائية دستورية الصادر في 8/7/2000 والذي قضى بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة 24 قبل تعديلها، وهو التزام دستوري، الأمر الذي يعد التفافا حول هذا الحكم واعتداء على اختصاص المحكمة الدستورية العليا بما يتضمنه ذلك من مخالفة لمبدأ سيادة القانون، ومساسا باستقلال القضاء، فضلا عن مخالفته لمبدأ المساواة.
وحيث إن القول بعدم عرض مشروع قانون تعديل المادة 24 المطعون عليها على مجلس الشورى، غير صحيح، ذلك أن الثابت من مضبطة مجلس الشورى بجلسته المعقودة بتاريخ 31/12/2001 أن هذا المجلس قد ناقش ذلك المشروع بالفعل بعد أن أحاله إليه السيد رئيس مجلس الشعب، وفقا للدستور. ومن ناحية أخرى فإن رقابة المحكمة الدستورية العليا مناطها قيام التعارض بين نص قانوني وحكم في الدستور ولا شأن لها بالتناقض بين نصين قانونين، ومن ثم فإن القول بعدم عرض مشروع القانون على قسم التشريع بمجلس الدولة بالمخالفة لنص المادة 63 من قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972 يخرج عن اختصاص هذه المحكمة، أما قالة عدم عرضه على المجلس الأعلى للهيئات القضائية فهي مردودة بأن ما يتضمنه النص لا يتعلق بتنظيم شأن من شئون الهيئات القضائية التي يقوم عليها المجلس المذكور حتى يلزم عرضه عليه وفقا للمادة 173 من الدستور.
وحيث إن رقابة المحكمة الدستورية العليا للنصوص التشريعية المطعون عليها وعلى ما جرى به قضاؤها – هي رقابة شاملة تستهدف بها المحكمة بحث دستوريتها عن طريق ردها إلى أحكام الدستور جميعا تغليبا لتلك الأحكام على ما دونها وتوكيدا لسموها على ما عداها لتظل الكلمة العليا للدستور باعتباره القانون الأساسي الأعلى الذي يرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم فيحدد للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية صلاحياتها، واضعا الحدود التي تقيد أنشطتها، وتحول دون تدخل كل منها في أعمال الأخرى، مقررا الحقوق والحريات العامة مرتبا ضماناتها ذلك أن وثيقة الدستور تتوخى أن تحدد لأشكال من العلائق السياسية والاجتماعية والاقتصادية مقوماتها، ولحقوق المواطنين وحرياتهم تلك الدائرة التي لا يجوز اقتحامها، فلا يمكن أن تكون النصوص الدستورية – وتلك غاياتها – مجرد نصوص تصدر لقيم مثالية ترنو الأجيال إليها،
وإنما هي قواعد ملزمة لا يجوز تهميشها أو تجريدها من آثارها، ويجب أن يعلو الدستور ولا يعلى عليه وأن يسمو ولا يسمى عليه. والرقابة القضائية التي تباشرها هذه المحكمة في شأن الشرعية الدستورية لا تستقيم موطئا لإبطال نصوص قانونية يحتمل مضمونها تأويلا يجنبها الوقوع في هاوية المخالفة الدستورية، إذ يتعين دوما تفسير النصوص المطعون عليها بما يوائم بين مضمونها وأحكام الدستور جميعا، بحيث لا يكون وصمها بعدم الدستورية إلا عند تعذر ذلك التفسير وتلك المواءمة، وفي هذه الحالة تكون الرقابة بإنزال حكم الدستور في شأن تلك النصوص المعروضة لقيام شبهة قوية في مخالفتها لقواعده بدءا بالأحكام الواردة بالنصوص ذات الصلة المباشرة وانتهاء بتلك التي تقرر المبادئ العامة التي وضعت لتحقق مصالح الجماعة وتصون مقوماتها، وتكفل إنماء قيمها الاجتماعية والاقتصادية.
وحيث إن الأصل في النصوص الدستورية أنها تعمل في إطار وحدة عضوية تجعل من أحكامها نسيجا متآلفا متماسكا، بما مؤداه أن يكون لكل نص منها مضمون محدد يستقل به عن غيره من النصوص استقلالا لا يعزلها عن بعضها البعض، وإنما يقيم منها في مجموعها ذلك البنيان الذي يعكس ما ارتأته الإرادة الشعبية أقوم لدعم مصالحها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يجوز بالتالي أن تفسر النصوص الدستورية بما يبتعد بها عن الغاية النهائية المقصودة منها، ولا أن ينظر إليها بوصفها هائمة في الفراغ أو باعتبارها قيما مثالية منفصلة عن محيطها الاجتماعي.
وحيث إنه لا وجه للقول بأن الحكم الصادر من هذه المحكمة في الدعوى رقم 11 لسنة 13 قضائية دستورية بتاريخ 8/7/2000 له حجية تحول دون الخروج على قضائه في الدعوى الماثلة، ذلك أنه ولئن كان ذلك الحكم قد صدر بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة 24 من القانون رقم 73 لسنة 1956 بتنظيم مباشرة الحقوق السياسية قبل تعديلها بالقانون رقم 13 لسنة 2000 ثم بالقانون رقم 1 لسنة 2002 ومن ثم فهو يتعلق بنص مختلف عن ذلك المطروح في الدعوى الماثلة فضلا عن أن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الحجية المطلقة للأحكام الصادرة في الدعاوى الدستورية لا يفارق نطاقها النصوص التشريعية التي كانت مثارا للمنازعة حول دستوريتها، وفصلت فيها المحكمة فصلا حاسما بقضائها. أما غيرها مما لم يكن مطروحا عليها ولم تفصل فيه فعلا فلا تمتد إليه تلك الحجية، إذ كان ذلك، وكان ذلك الحكم قد صدر بعدم دستورية الفقرة المشار إليها – قبل تعديلها – في مجال إعمالها بالنسبة لانتخابات مجلس الشعب – إذ ليس للمحكمة أن تفصل في غير المسائل التي تثيرها الخصومة الدستورية وبقدر اتصالها بالنزاع الموضوعي والذي كان متعلقا بطعن من أحد المرشحين في انتخابات ذلك المجلس – ومن ثم فإن نطاق تلك الدعوى الذي دارت حوله مدونات حكمها بما يحوز حجية تحول دون الخروج عليها كان قاصرا على الانتخابات التشريعية دون غيرها من حالات الانتخابات والاستفتاءات الأخرى وهو ما قطع به الحكم في تعريفه لعملية الاقتراع التي اعتبرها جوهر حق الانتخاب.
وحيث إن الدستور قبل تعديله في 26 مارس سنة 2007 قد أورد في الباب الثالث الخاص بالحريات والحقوق والواجبات العامة نص المادة 62 والذي جرى على أن “للمواطن حق الانتخاب والترشيح وإبداء الرأي في الاستفتاء وفقا لأحكام القانون، إسهامه في الحياة العامة واجب وطني”. ومفاد ذلك أن هذه الحقوق والحريات قد كفلها الدستور وفوض المشرع في تنظيمها بما مؤداه أنه لا يجوز لهذه القوانين المنظمة أن تفرض قيودا يكون من شأنها المساس بمضمون تلك الحقوق بما يعيق ممارستها بصورة جدية وفعالة، باعتبار أنها لازمة لزوما حتميا لإعمال الديمقراطية في محتواها المقرر دستوريا، ولضمان أن تكون الإرادة الشعبية معبرة تعبيرا صادقا عن إسهامها في الحياة العامة ولم يقف الدستور عند مجرد النص على حق كل مواطن في مباشرته تلك الحقوق السياسية، وإنما جاوز ذلك إلى اعتبار مساهمته في الحياة العامة واجبا وطنيا يتعين القيام به في أكثر المجالات أهمية لاتصالها بالسيادة الشعبية التي تعتبر قواما لكل تنظيم يرتكز على إرادة المواطنين.
وحيث إنه لما كان ما تقدم، وكان الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظ
يم الحقوق، أنها سلطة تقديرية مطلقة، لا يقيدها إلا ضوابط محددة يقررها الدستور وتعد تخوما لها لا يجوز اقتحامها أو تخطيها. ويتمثل جوهر هذه السلطة – على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – في المفاضلة بين بدائل متعددة تتزاحم فيما بينها وفق تقديره لتنظيم موضوع محدد، فلا يختار من بينها إلا ما يكون منها عنده مناسبا أكثر من غيره لتحقيق الأغراض التي يتوخاها، أو ما يراه أكفل لتحقيق المصالح المشروعة التي قصد إلى حمايتها، وكانت المادة 189 من الدستور قد جاءت بتنظيم متكامل لأحكام التعديلات الدستورية، حيث نصت على أن: “لكل من رئيس الجمهورية ومجلس الشعب طلب تعديل مادة أو أكثر من مواد الدستور… فإذا وافق عليها ثلثا عدد أعضاء المجلس عرض على الشعب لاستفتائه في شأنه، فإذا وافق على التعديل، اعتبر نافذا من تاريخ إعلان نتيجة الاستفتاء”.
وإذا كان هذا النص قد خلا من بيان حكم خاص أو قيد أو ضابط يتعين على المشرع العادي عندما ينظم أحكام الاستفتاء على التعديلات الدستورية الالتزام به، وعدم الخروج عليه فإنه لا تثريب عليه إن استعمل رخصته في التنظيم، وفاضل بين البدائل المختلفة، ولم يشأ أن يلتزم بما نصت عليه المادة 88 من الدستور من وجوب أن يتم الاستفتاء على التعديلات الدستورية وتحت إشراف أعضاء من هيئات قضائية، باعتبار أن هذا الإشراف واحد من ضمانات متعددة يمكن اللجوء إليها لكفالة سلامة عملية الاستفتاء وتجنيبها احتمالات التلاعب بنتائجها تدعيما للديمقراطية التي يهدف إليها، ومنها الإشراف القضائي النسبي وإنشاء لجنة عليا مستقلة، ورقابة جمعيات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني أيا كانت تشكيلاتها، واستعمال الحبر السري والصناديق الزجاجية، وغيرها من الضمانات المعمول بها في كثير من الأنظمة الدستورية المقارنة، وذلك من منطلق أن الحيدة والنزاهة وفقا للأصل العام صفة يتمتع بها كل مواطن ما لم يثبت العكس. هذا فضلا عما قد يراه المشرع في تعميم الإشراف القضائي الكامل من إلقاء أعباء ثقال على القضاة تعوقهم عن القيام بوظيفتهم الأصلية المقدسة وينعكس سلبا على أدائهم لرسالتهم السامية، ويؤثر بالتالي على رسالتي الحق والعدل اللتين يكفلهما الدستور بتأكيد مبدأ سيادة القانون وحق التقاضي. لما كان ذلك، فإن المشرع بالنص المطعون فيه لا يكون قد خالف أيا من المادتين 62 و189 من الدستور، كما لا يكون قد ناقض مبدأ سيادة القانون أو أهدر حق التقاضي أو خالف مبدأ المساواة. ولا ينال مما تقدم القول بأن الاستفتاء على التعديلات الدستورية لا يقل أهمية عن الانتخابات التشريعية، ومن ثم فهي أولى بضمانة الإشراف القضائي الكامل ذلك أنه وإن كان يبدو لأول وهلة أن للاستفتاء على التعديلات الدستورية أهمية خاصة قد تفوق أهمية الانتخابات التشريعية، لما للدستور من مكانة عليا باعتباره الأسمى في مراتب التشريع، والكافل للحقوق والحريات جميعا. إلا أنه لا خلاف في أن لكل من العمليتين طبيعة خاصة.
فالانتخابات التشريعية تقوم على التنافس بين مرشحين متعددين لمختلف التوجهات السياسية، ولكل أنصاره ومريدوه ومنافسوه، بينما لا يوجد شيء من ذلك في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، حيث يكون الاختيار بين أمرين استقر أحدهما في ذهن الناخب وفكره وهو ما عناه المشرع الدستوري في المادة 62 عندما غاير في التعبير عن كل منهما، وبالتالي فإن ما تحتاجه الانتخابات التشريعية من ضمانات قد لا تحتاجه عملية الاستفتاء المشار إليها فضلا عما سلف بيانه من حق المشرع في اختيار ما يراه مناسبا لتحقيق أهدافه طالما لم يخالف نصا من الدستور.
وحيث إن النعي بمخالفة النص المطعون فيه للمادة 88 من الدستور، في غير محله، ذلك أن المادة المشار إليها ليست ذات صلة بالنص المطعون فيه، فقد وردت في الفصل الثاني من الباب الخامس الخاص بالسلطة التشريعية “مجلس الشعب” ولم تشر من قريب أو بعيد إلى الاستفتاء على التعديلات الدستورية حيث ورد النص فيها على أن “يحدد القانون الشروط الواجب توافرها في أعضاء مجلس الشعب، ويبين أحكام الانتخاب والاستفتاء، على أن يتم الاقتراع تحت إشراف أعضاء من هيئة قضائية”. والنص على هذا النحو يكون قد ردد بداءة الحكم العام الوارد في المادة 62 من الدستور بالنسبة لحقوق الانتخاب والترشيح وإبداء الرأي في الاستفتاء، مطبقا إياه في خصوصية مجلس الشعب ليخرج من ذلك بحكم خاص يتعين الالتزام به في انتخابات ذلك المجلس، احتفاء منه بعملية الاقتراع فيها بحسبانها جوهر حق الانتخاب فأراد أن يخضعها لإشراف أعضاء من هيئة قضائية، على نحو ما جاء بالحكم الصادر من هذه المحكمة في القضية رقم 11 لسنة 13 قضائية دستورية – وهو ما يعني أن الدستور قد احتفى بالانتخابات التشريعية بحكم استثنائي “غير مسبوق لم تعرفه الدساتير المصرية من قبل.
ولم يمد ذلك إلا إلى الاستفتائين المتعلقين بحل ذلك المجلس التشريعي ليكون بذلك قد أحاط المجلس ابتداء وانتهاء بضمانة خاصة استثناء، والاستثناء لا يجوز التوسع فيه أو القياس عليه. يؤكد ذلك ما أورده الحكم المشار إليه في مدوناته تعريفا لعملية الاقتراع التي حظيت بهذا الحكم الخاص من أنه: “لا خلاف على أن الاقتراع، هو تلك العملية التي تبدأ بإدلاء الناخب لصوته لاختيار من يمثله بدءا من تقديمه بطاقته الانتخابية، وما يثبت شخصيته إلى رئيس لجنة الانتخابات مرورا بتسلمه بطاقة الاختيار وانتهاء بإدلائه بصوته في سرية لاختيار أحد المرشحين أو العدد المطلوب منهم وإيداع هذه البطاقة صندوق الانتخاب ثم فرز الأصوات لإعلان النتيجة بما يطابق إرادة الناخبين” مما يقطع بأن الاقتراع المقصود في نص المادة 88 من الدستور هو عملية الانتخابات التشريعية، ومن ثم فهي فقط التي يتعين أن يتم الاقتراع فيها وبحكم الدستور تحت إشراف أعضاء من هيئة قضائية، أما غيرها من حالات الانتخاب والاستفتاء – غير ما ذكر – فتخرج عن نطاق الالتزام بهذا الحكم، إذ لو أراد المشرع الدستوري أن يعمم هذا الحكم الخاص الذي أورده بعجز المادة 88 لنص على ذلك صراحة.
وحيث إن مناط قبول طلب فض التنازع على الاختصاص وفقا للبند ثانيا من المادة 25 والمادتين 31 و34 من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 وسواء أكان هذا التنازع إيجابيا أم سلبيا، هو أن تطرح الدعوى في موضوع واحد أمام جهتين من جهات القضاء أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي، ولا تتخلى إحداهما عن نظرها أو تتخلى كلتاهما عنها، وأن يقدم الطلب مبينا فيه موضوع النزاع وجهات القضاء التي نظرته وما اتخذته كل منها في شأنه مرفقا به صورا رسمية من كل من الحكمين محل التنازع. إذ كان ذلك وكان طلب المدعي الثاني تحديد جهة القضاء المختصة بنظر دعوى وقف تنفيذ قرار دعوة الناخبين للاستفتاء لم تتبع فيه تلك الإجراءات وتخلفت عنه الشروط التي تطلبها القانون في هذا الشأن فإن الطلب يكون حريا بالالتفات عنه.
وحيث إن النص المطعون فيه لم يخالف حكما آخر من أحكام الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى.
اترك تعليقاً