فهم الكرامة الإنسانية في تجربة تطوير مناهج التعليم القضائي
القاضي محمود جاموس
رئيس محكمة بداية وصلح رام الله
أود الإشارة إلى أنني من القضاة الذين تشرفوا بأمانة وضع مناهج التعليم القضائي، الواجب الذي أنظر إليه بعين المسؤولية والحرص، مسؤوليتنا كواضعين لمناهج إنما وجدت لتكوين وتطوير الدفعة القادمة من القضاة وتطوير مهارات القضاة الذين هم على رأس عملهم الآن. إن مناهج التعليم القضائي لم تأتي كمناهج لمخاطبة أشخاص عاديين، ولا لتدرس لعامة الناس، إنما وجدت لمهمة أعقد وأهم ألا وهي هندسة عقل القاضي الذي سيتخذ الكثير من القرارات المتعلقة بحقوق الناس وأرواحهم وحرياتهم وبالمحصلة كرامتهم.
إن القاضي هو صمام الأمان وحاجز الدفاع الأخير عن كرامة المواطن في مواجهة من يعتدي عليها سواء كان فردا أو مؤسسة، جهة خاصة او عامة، لا سيما في هذا الوقت الذي نشهد فيه عددا لا يستهان به من الانتهاكات للحقوق والكرامة الإنسانية من قبل أشخاص تعسفوا بما منحوه من سلطة وقرار أو تجبروا بمن كان أضعف منهم سواء ماديا او اجتماعيا.هنا يأتي دور القاضي في حماية هذا الضعيف المعتدى عليه من خلال ما يتخذه من مواقف تتمثل في قراراته بموجب ما له من صلاحيات بنص القانون.
إن دوري كقاضي في حماية كرامة المعتدى عليه هو دور جوهري في بناء منظومة حماية الكرامة الإنسانية للمواطن الفلسطيني، فما بين إبطالي لإجراءات القبض والتوقيف والتفتيش المخالفة للقانون في أحيان، وعدم أخذي باعتراف المتهم المأخوذ تحت إكراه أو بمخالفة للطريق التي رسمها للقانون في أحيان أخرى، ومن خلال بحثي عن كل الوسائل القانونية التي قد تصلح أو تزيل الضرر الواقع على الطرف الأضعف المعتدى عليه حقوقيا وجزائيا على حد سواء، أو من خلال تبني منهج قضائي صارم في محاسبة كل معتدي على كرامة المواطن الفلسطيني بغض النظر عن مكانته، ومن خلال ما أبديه من مرونة وتسامح من جانب آخر في توقيف متهم لا بينة قاطعة ولا خطر من إطلاق سراحه بكفالة حفاظا على قاعدة أن الأصل في البشر البراءة، وبين حثي لأطراف الدعوى على محاولة إيجاد تسويات تحول دون حبس المدين الفقير، وما بين ما أعمل على إرسائه كرئيس للمحكمة من احترام حسن للتعامل وروح ايجابية بين موظفي وقضاة ومراجعي المحكمة مع حفظ لحق وكرامة كل منهم، كل هذا الدور على عظمه قد يبدو متواضعا أمام دوري في نشر هذه الممارسات الحافظة لكرامات المواطنين بين الجيل الجديد من القضاة من خلال مساهمتي في رسم مناهج التعليم والتدريب القضائي التي تساهم في هندسة عقولهم وشحذ معرفتهم ومنطقهم القانوني وتنمية المفاهيم التي ذكرتها لديهم.
إن واجبنا في صياغة وإعداد مناهج التعليم القضائي تهدف إلى جانب تكوين القاضي المثقف قانونيا والمتمكن من مسؤولياته إلى تكوين قناعات وقيم ومفاهيم وصفات شخصية لا بد أن يتسم بها القاضي ليبحث ليس فقط عما هو الحكم الصحيح قانونا، بل عما هو أصح وأفضل. ومن هنا، وحيث كان القانون في أكثر نصوصه جامدا لا روح فيه، يأتي القاضي كالروح التي تحيي نص القانون وتسعى إلى بعثه وتطبيقه بصورة سليمة وفق الحالة المعروضة مستعملا ما لديه من صلاحيات وسلطات تقديرية خولها إياه القانون يحفظ من خلالها حقوق المظلومين، فتراه في حين فارسا عنيدا في الدفاع عن حقوق إنسان مضطهد، وفي حين آخر يدا حانية لمن يستحق رحمة القانون، وفي حالة أخرى ترى القاضي مددا وعونا للناس لا سيفا مسلطا على الضعيف منهم.
إن تنمية مفاهيم أن الأصل في الناس البراءة، وأن القضاء حسم ورحمة معا، وأن الأصل في الإدارة والتعامل مع الجميع هو الاحترام وصيانة الحقوق، وأنه لا يجوز المساس بحق مكتسب أو حرية من الحريات إلا بما يجيزه القانون وفي الحدود التي رسمها القانون لا أكثر هو جزء أساسي من مناهج التعليم القضائي نسعى إكسابه للقضاة الجدد إلى جانب العلوم القانونية اللازمة لعملهم.
ورد في القانون الأساسي الفلسطيني المعدل ثلاثة نصوص مثيرة للاهتمام.
مادة (6): أساس الحكم
مبدأ سيادة القانون أساس الحكم في فلسطين، وتخضع للقانون جميع السلطات والأجهزة والهيئات والمؤسسات والأشخاص.
مادة (10): حماية حقوق الإنسان
1. حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ملزمة وواجبة الاحترام.
مادة (98): استقلال القضاء
القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة.
في النص الأول، إن كلمة السر هي كلمة “جميع”، جميع السلطات والأجهزة والهيئات والمؤسسات والأشخاص. ودون هذه الكلمة لا مكان لصيانة وحقوق وكرامة المواطنين الفلسطينيين، إذ لا إنصاف لضعيف دون تطبيق للقانون على المعتدي. وفي المادة التالية، يرشدنا قانوننا الأساسي إلى ضرورة صيانة حقوق وحريات مواطنينا كواجب دستوري يتجاوز كل واجب آخر، وفي المادة الثالثة جاء القانون الأساسي مسلّحا للقاضي بالاستقلال والتحرر من كل تبعية أو سلطة، ليكون صوت القاضي كلمة الفصل النهائية وجدار الدفاع عن حق المواطن وحريته وكرامته. هذا الصوت الذي لا يماثله أي صوت في دولتنا العتيدة باعتباره من جهة الصوت المحايد الحر المعبر عن القانون دون غيره، ومن جهة أخرى عنوان الحقيقة فهو بذلك أعلى وأصح صوت ممثلا لإرادة المجتمع وقانونه.
إن بناء القاضي وشخصيته هو بناء للدول، وشرف لنا اختيارنا لهذه المهمة، وأمانة في أعناقنا أن ننتج لمجتمعنا خير وأعلم وأقوى وأرحم القضاة وأكثرهم صيانة لكرامة الإنسان الفلسطيني، بعبارة أخرى، لقد عانى المواطن الفلسطيني بما فيه الكفاية واعتدي على كرامته مرارا وتكرارا من دولة احتلال تتناسى في تعاملها معه إنسانية وكرامة هذا المواطن وتتجاهل بل وتنهب كل حقوقه بلا رحمة. فإن كان هذا الحال فدعونا على الأقل نكون كقضاة عنوان رحمة لصيانة ما تبقى من حق وكرامة لهذا الإنسان من خلال ممارساتنا في المحاكم وتكويننا للقضاة الجدد، ولنتذكر دائما أننا قبل كل شيء خدم لدى المواطن بالحق، لا أسيادا عليه. هكذا يجب أن تكون فلسطين وقضاء فلسطين.
اترك تعليقاً