قانون الأحوال الشخصية بين الدين والسياسة
المحامي عبد الله سليمان على.
يعتبر وضع قانون للأحوال الشخصية ينظم علاقات الزواج والطلاق والمواريث وفق مذهب معين يلزم مواطني دولة واحدة على اختلاف انتماءاتهم الدينية، أحد الآثار التي خلفتها الطبيعة الاستبدادية لسلطة الدولة الاسلامية في جميع عهودها الأموية والعباسية والعثمانية، وهو يتماثل من حيث دلالته على الاستبداد مع دلالة السياسة التي كانت تتبعها هذه السلطة في فرض مذهب عقائدي واحد على جميع أتباعها مستخدمة أساليب قمعية أحياناً دون مراعاة الاختلافات والفروق بين فئة وأخرى.
وتعتبر المحنة التي اصطلح على تسميتها بـ محنة خلق القرآن (212-234 هـ) أوضح مثال على القمع الذي مارسته هذه السلطة في فرض مذهب عقائدي معين على جميع المسلمين لإجبارهم على القول به، حيث كتب الخليفة العباسي المأمون، بعد أن تبنى مذهب المعتزلة في القول بخلق القرآن، إلى جميع عماله في كافة أنحاء الدولة الاسلامية المترامية الأطراف أن يمتحنوا المسلمين في قضية خلق القرآن ومعاقبة كل من يرفض القول بأنه مخلوق وقد استمرت هذه السياسة في عهد كل من المعتصم والواثق وجزء من ولاية المتوكل أي على مدى يزيد عن عشرين عاماً، وقد شكل ذلك أبشع تجربة قمعية في تاريخ الدولة الاسلامية إذ نتج عنها آلاف الضحايا وآلاف السجناء وكان على رأس هؤلاء الإمام أحمد بن حنبل الذي رفض القول بخلق القرآن رغم كل الاستجوابات التي لاحقته بها اجهزة الدولة آنذاك فتعرض لما تعرض له من سجن وتعذيب وعزلة لسنوات طويلة، وكان يمكن أن يتحول الإمام أحمد بن حنبل إلى رمز تاريخي وإسلامي يدل على ثبات الموقف والشجاعة في وجه طغيان السلطة الحاكمة بعهده لولا أن السلطة العباسية نفسها في عهد خليفة آخر قد مارست باسمه وباسم مذهبه ضد المعتزلة وأتباعهم سياسة انتقامية لا تقل عنفاً ودموية عما تعرض له الإمام نفسه دون أن يستنكر الأخير هذه السياسة أو يعترض عليها، حدث ذلك سنة 234 هـ عندما تنكرت السلطة متمثلة بالخليفة المتوكل للمذهب المعتزلي الذي تبنته طوال السنوات السابقة وعملت على نشره بالحديد والنار وذلك بعد أن بدل الخليفة رأيه من القول بخلق القرآن وهو مذهب المعتزلة إلى القول بقدم القرآن مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وقد نتج عن هذه السياسة الانتقامية ايضاً آلاف الضحايا وآلاف السجناء من أتباع المعتزلة ومؤيديهم.
والعبرة التي نريد استخلاصها من هذه المحنة المزدوجة هي أن السلطة الحاكمة في الدولة الاسلامية كانت تنظر إلى المذاهب وعقائدها نظرة سياسية بحتة وليس نظرة دينية ولم تكن تعتبر هذه المذاهب أكثر من أدوات لتغيير تحالفاتها بما يضمن لها الهيمنة على الشارع من خلال إرضاء أئمة المذهب الأكثر انتشاراً أو الأقدر على تحقيق مصالحها ولو تطلب منها ذلك ممارسة أقسى أنواع القمع لفرض المذهب الذي تختاره.
وعلى صعيد مقابل فقد كانت ثمة محاولات جدية قام بها بعض الخلفاء أو مستشاريهم لفرض مذهب فقهي واحد يتم القضاء والحكم بموجبه في كافة الشؤون بما فيها الأحوال الشخصية للمسلمين.
وقد كان أولى هذه المحاولات محاولة الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الذي فكر في جمع سنن النبي وفتاوى الصحابة وإرسالها إلى الأقاليم قضاة وولاة وشعوباً لتكون بين يدي القضاة فيتقيدوا بها في أحكامهم وبين يدي الولاة ليتقيدوا بها في تصرفاتهم وفي متناول أفراد الشعب ليعلم شؤون دينه واسس القضاء والحكم في الاسلام. لكن المنية عاجلت الخليفة قبل تحقيق مشروعه.
والمحاولة الثانية كانت لابن المقفع المنظِّر السياسي والإداري للدولة العباسية، حيث كتب في عهد ابي جعفر المنصور ثاني ملوك العباسيين رسالته الشهيرة المعروفة بـ رسالة الصحابة يقترح فيها، من بين أمور أخرى، تنظيم القضاء على أساس المركزية، بحيث ترفع جميع الأحكام إلى الخليفة ليستخلص منها ومن الأسس والحيثيات التي بنيت عليها قانونا عاما يسير عليه جميع القضاة.
وإذا كانت بعض العقبات قد وقفت دون تحقيق ما اقترحه ابن المقفع فإن أبا حعفر المنصور طلب بعد ذلك من الإمام مالك أن يجمع الأحاديث الصحاح وفتاوى الصحابة في كتاب يوطئه للناس فيعلموا أقضية الصحابة وأحكام الاسلام.
وهكذا ولد موطأ مالك ولما استكمل تدوينه طلب المهدي إرساله إلى الأقاليم الاسلامية ليقضي القضاة بأحكامه ويعمل الناس بمقتضاه إلا أن مالك رفض هذه الفكرة وقال للخليفة أنه ((لا يرى أن يقصر الناس على علمه)).
وهنا ينبغي لنا أن نتوقف طويلاً عند موقف الإمام مالك الرافض لتعميم كتابه الموطأ واعتباره بمثابة القانون الرسمي للدولة العباسية، وما يدل عليه هذا الموقف من احترام للتعددية وحرية الاجتهاد وقبول بالاختلاف الفقهي الموجود بين المذاهب الاسلامية. خاصة وأن هذا الرفض كان بوجه الخليفة نفسه مما يعطيه دلالة أخرى هي عدم قبول الإمام مالك أن يكون أداة بيد السلطة آنذاك. والأهم من كل ذلك أن الإمام مالك لم يكن يرى ثمة ضرورة في وضع قانون موحد يشمل جميع المسلمين.
لكن ما رفضه الإمام مالك ومعه كبار المجتهدين الذين كانوا يمثلون نخبة المجتمع الاسلامي في حينه، ودفعوا أثماناً باهظة نتيجة رفضهم التعاون مع السلطة الحاكمة كما جرى مع الإمام أبو حنيفة الذي رفض أن يتولى منصب قاضي القضاة فحبسه الخليفة، إن ما رفضه هؤلاء المجتهدون تحقق للأسف على يد بعض القضاة ممن ارتبطوا مع السلطة برابطة الوظيفة والولاء النفعي.
فقد أخذ المنهاج المذهبي يسيطر على القضاء في الدولة الاسلامية عندما تولى أبو يوسف تلميذ ابي حنيفة منصب قاضي القضاة في عهد هارون الرشيد، هذا المنصب الذي سبق لأستاذه أن تعرض للحبس بسبب رفضه له. وصار لأبي يوسف بحكم منصبه سلطة واسعة في اختيار القضاة وتعيينهم فلم يكن يعين قاضياً في أي أقليم من أقاليم الدولة الاسلامية إلا من فقهاء العراق ممن تأثروا بمذهب الإمام أبي حنيفة.
وهكذا أصبح المذهب الجنفي هو الغالب في بغداد فلم يكن فيها قاض من غيره، ويروى أن المقتدر الخليفة العباسي في أواخر القرن الرابع ولّى قاضياً شافعياً فثار أهل بغداد وانقسموا حزبين حزب يؤيد التعيين وحزب لا يؤيده وهو الأكثر عدداً ووقعت الفتنة بينهما فاضطر الخليفة إلى عزل القاضي الشافعي إرضاءً للأكثرية وإنهاءً للفتنة.
وما جرى في بغداد مركز السلطة العباسية على يد أبي يوسف من تخصيص للقضاء بالمذهب الحنفي، حدث مثله في الأندلس الخاضعة للحكم الأموي وذلك على يد يحيى بن يحيى الذي كان يتبع المذهب المالكي والذي رغم عدم توليه أي منصب قضائي فقد كان مقرباً من السلطان إلى درجة أنه لم يكن يلي قاض في الأندلس إلا بمشورته واختياره ولم يكن يشير إلا بأصحابه ومن كانوا على مذهبه.
وفي ذلك يقول ابن حزم الأندلسي غامزاً من قناة هؤلاء القضاة ومتهماً إياهم بحب الدنيا والعمل لها: (( مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان، مذهب أبي حنيفة فإنه لما ولى الرشيد أبا يوسف خطة القضاء، كان القضاة من قِبَلِهِ من أقصى الشرق إلى أقصى عمل أفريقية. ومذهب مالك عندنا بالأندلس فإن يحيى بن يحيى كان مكيناً عند السلطان مقبول القول في القضاء وكان لا يلي قاض في الأندلس إلا بمشورته واختياره ولم يكن يشير إلا بأصحابه ومن كانوا على مذهبه والناس سراع إلى الدنيا فأقبلوا على ما يرجون به بلوغ أغراضهم)).
وانتشار المذاهب بالرياسة والسلطان كما أشار ابن حزم اصبح هو القاعدة العامة في الدويلات التي انفصلت عن الدولة العباسية في مراحل ضعفها وتفككها. فالمذهب الشيعي انتشر في الدولة الفاطمية في المغرب والتي سيطرت على مصر والشام وانحاز إليها كل ما هو في غرب بغداد من أقاليم حتى انقرض المذهب الحنفي من هذه المناطق بعد أن كانت له الغلبة في عهد العباسيين.
وكذلك عندما أزال صلاح الدين الأيوبي المذهب الشيعي من مصر عمل على نشر المذهب الشافعي فيها. وصار المذهب الشافعي وريث المذهب الشيعي في مصر والشام وبقي القضاء في هذين البلدين على المذهب الشافعي في عهد صلاح الدين وأخيه وأولاده حتى ولي الشام نور الدين الشهيد وكان حنفياً شديد التعصب لمذهبه فأعاد نشر المذهب الحنفي في مصر والشام.
ولما أدال الله من الأيوبية وجاءت دولة المماليك عاد القضاء للعمل بالمذهب الشافعي.
ثم لما سيطر العثمانيون على البلاد العربية عادت الغلبة للمذهب الحنفي وصار هو المذهب الرسمي دون منازع. وفي عام 1293 هـ تمّ وضع مجلة الأحكام العدلية وفق المذهب الحنفي مع الاستئناس برأي مذاهب أخرى في قضايا قليلة. وفي عام 1336 هـ 1917م وضع قانون حقوق العائلة وبقي هذا القانون ساري المفعول في بلاد الشام حتى بعد زوال الحكم العثماني.
اترك تعليقاً