تزويج القاصرات بين التضليل الشرعي والمدن
في عتمة القوانين
قصص مؤلمة لفتيات اجبرن على الزواج بدوافع متعددة مع عدم وجود القوانين الرادعة لمن يجبر الفتاة القاصر على الزواج في بيئة تراجع فيها المستوى التعليمي والتربوي وغرقت في متاهات العنف وكوارث التفجيرات والفقر والتهجير،ومن المؤكد أن تلك الاسباب،ليست ذرائع لاستمرار مثل هذه الظاهرة التي تفتقد الى الحزم القانوني المدني من جهة مثلما تعتمد الظاهرة في نموها التضليل في استخدام الاعراف والانظمة الشرعية الدينية.
اذن هي دعوة مخلصة الى استخدام القانون المدني اولا وبما يتلاءم مع روح الشرائع الدينية ثانيا.
“سراب” ابنة الخامسة عشرة ، ترقد في احد المستشفيات النسائية لاجراء عملية اجهاض مبكرة للتخلص من جنينها الذي قضى نحبه في احشائها قبل ان يرى النور .. اذ كشفت التقارير الطبية عدم اهلية جهازها التناسلي للحمل الآن ..” سراب” تزوجت قسرا من رجل يكبرها بخمسة عشر عاما بعد ان فقدت والدها قبل ثلاثة اعوام واضطرت الام الى تزويجها الى احد اقاربها حيث اجبرتها الظروف المادية على ترك المدرسة.
عنف بشكل آخر
قد تختلف قصة ” سراب” بعض الشيء عن قصة” ماجدة” التي تزوجت هي الاخرى بعمر اربعة عشر عاما زواجا عاجلا من شاب صغير السن وغير مؤهل للحياة الزوجية بتشجيع من الاهل، لم تلبث كثيرا فعادت بعد سبعة اشهر الى بيت اهلها لعدم ادراكها واستيعابها مسؤولية الحياة الزوجية ، خلال هذه الفترة القصيرة من عمر الارتباط تعرضت ” ماجدة” الى العنف الجسدي والنفسي من قبل الزوج الذي لايدرك هو الآخر معنى الرابط الزوجي المقدس سوى انه نزوة خلف الابواب المغلقة .. كانت هذه الطفلة الصغيرة تذرف دموعا حارة امام الباحثة الاجتماعية في محكمة الاحوال الشخصية، تخونها الكلمات والتعابير عن حالتها وتكاد لاتقاوم تساؤلات الباحثة والقاضي عن جدوى الطلاق الذي اصرت عليه بقوة بعد ان ثبت بأن عقد زواجها تم خارج المحكمة !!
مسلسل الضحايا
ضحايا تزويج الصغيرات وتنوع قصصهن وقضاياهن وما سمعنا وشاهدنا يثير الشجن ويولد الخوف .. اغلبهن تزوجن مجبرات امام سطوة الاب الذي يتولى مسؤولية التوقيع على وثيقة الزواج سواء رسميا او في مكاتب الزواج الشرعي خارج اسوار المحكمة .. والقانون يبيح له ذلك ان كانت الفتاة قاصرا ويرغب في تزويجها باعتباره ولي امرها .. و(الشرع) الذي يجيز تزويج الفتاة القاصر وجعل عقد الزواج بيد ولي الامر باعتبار ان الزواج المبكر يصون الفتاة والشاب من التفكك والزنا .. الا ان مايحدث الان من تزويج القاصرات يعزى الى الابتعاد عن الله وضعف الايمان وتحول الموضوع الى مادي والتخلص من المسؤولية على حد قول رجال الدين.
تشير الباحثة الاجتماعية في محكمة الشعب للاحوال الشخصية “ سجى عدنان”الى ان مايرد من طلبات الزواج بأعمار مبكرة تتراوح بين ” 12 الى 17 عاما ارتفعت في السنوات الماضية الى نحو 75 بالمئة .. بالمقابل هناك نسبة كبيرة من الطلاق في هذه الاعمارالتي تستسهل ابغض الحلال وتصر عليه حتى ولو بحثنا معهم الاسباب.
المشكلة الحقيقية حسب الباحثة سجى تكمن في حجة البلوغ ” الوصاية” التي تكون بيد ولي الامر فبمجرد ان يقدم الاب طلبا الى قاضي المحكمة يبين فيه رغبته في تزويج ابنته القاصر دون ان يذكر الاسباب تتم العملية بسهولة وتختصر فيها كل الاجراءات .. يحال الطلب من قبل القاضي الى الباحث الاجتماعي الذي بدوره يرى اهلية الفتاة من الناحية الجسدية والنفسية والعقلية ويستفسر من الفتاة ايضا رغبتها في الزواج ،و تكون الموافقة قد اخذت مسبقا من الاب سواء تحت التهديد او القبول بمضض ثم تحال الفتاة القاصر الى الاخصائية النسائية في احد المستشفيات لبيان اهليتها للزواج وكلها اجراءات شكلية قد تتم بسهولة ! وأغلب زيجات القاصرات تتم خارج المحكمة دون اللجوء الى تلك الاجراءات ومن ثم تصدق او لاتصدق بعد مرور سنوات على الزواج في المحكمة وبعد ان تحدث مشكلة بين المتزوجين تتطلب اللجوء الى المحكمة .. والعديد من القضايا الزوجية تضيع فيها الحقوق نتيجة عدم تصديق عقود الزواج .. لتتكرر القصص والقضايا مع فتيات اخريات يجهلن ما لهن وماعليهن في خضم معارك الحياة والغش والتلاعب بحياة الصغيرات.
انتهاك المواثيق الدولية
من جانبها بينت المحامية والناشطة في حقوق المرأة ” وجدان خلف الكريماوي” الخلل في زواج القاصرات في القانون الذي يبيح لولي الامر التوقيع على زواج ابنته القاصر ويجعله مسؤولا عن تلك المشكلة .. موضحة ان المحامين مقيدون بقانون يسمح بالزواج للفتاة ممن تبلغ الرابعة عشرة من عمرها بموافقة ولي امرها .. ومهمتهم تتضمن تسهيل اجراءات العقد وتعقيب معاملاتهم ، وان الاجراءات ركيكة في تفعيل القوانين رغم ان زواج القاصرات مسؤولية كبيرة يتحتم على القضاء التوقف عندها لان القاضي لايبرم عقدا للزواج الا بحضور الاب. في حين اشارت رئيسة منظمة تحالف نساء الرافدين هناء حمود عباس الى ان تزويج الصغيرات انتهاك صريح للمواثيق الدولية التي تحمي حقوقهن واغتصاب لطفولتهن وهو خرق لقانون الطبيعة قبل القانون الوضعي فضلا عن الاثارالاجتماعية والنفسية بسبب ابتعادهن المبكر عن احضان عوائلهن.
ضعف القوانين
التساهل في تزويج القاصرات والقوانين المتساهلة في معاقبة ولي الامر وضعف التطبيق، تفتح الباب على مصراعيه للاباء الذين يتاجرون ببناتهم ولذوي الامزجة المتذبذبة والمتلهفة لهكذا زيجات لانتهاك براءة الصغيرات ولاباء تلذذوا بالصفقات التجارية التي تملأ جيوبهم .. مع هذا هناك حالات لزواج لايخلو من رغبات الاهل لاسيما بعد 2003 من تزويج بناتهم القاصرات (للستر) والتخلص من مسؤولياتهن الاجتماعية والمادية بعد ان عصف العنف والتفجيرات بارواح الكثيرين واستضافت العوائل المنكوبة الفقر والفاقة وكانت واحدة من ضحايا الازمات والكوارث هي ظاهرة تزويج القاصرات.. اذ اشارت وزارة التخطيط والتعاون الانمائي الى تفاقم الظاهرة وحاجتها الى قرارات اممية للحد من المشكلة، اذ بينت على لسان وزيرها الدكتور علي الشكري وحسب تصريحات اعلامية،ان العراق هو من بين اعلى الدول بزواج القاصرات اذ وصلت النسبة فيه الى 11 بالمئة .. فما الذي يجعل العراق في هذا المستوى لتزويج الفتيات الصغيرات وازدياد ضحاياه لولا الضعف في القوانين والتساهل في تصديق وثائق الزواج خارج المحاكم ..اذ تشير الارقام المرعبة في محاكم احوال الشعب الى ارتفاع تزويج الفتيات الصغيرات حتى ساعة اعداد التحقيق الى36 حالة خلال الاربعة ايام الاخيرة من الشهر الماضي وان النسبة في ارتفاع مستمر.. بالمقابل يشير مجلس القضاء الاعلى على لسان الباحثة سجى عدنان ،الى ان حالات الطلاق لدى القاصرات تتزايد بشكل مطرد منذ العام 2004 وبلغت ذروتها العام 2010، بالرغم من تشخيص المشكلة من قبل الوزارات ولجان مجلس النواب المختصة بالقضايا الاجتماعية !! فضلا عما يؤول اليه هذا النوع من الزواج من مخاطر صحية على الفتاة الصغيرة التي ينقصها النضج وعلامات البلوغ التي تؤهلها كزوجة قابلة لتحمل مراحل الحمل والولادة وتربية الاولاد .. لذلك نتجت عن زواج العديد من الصغيرات حالات مؤلمة وغير انسانية وراحت ضحيتها فتيات صغيرات اثناء الوضع واخريات تعرضن الى الموت من جراء العنف الزوجي وغيرها من الامور التي واجهتنا اثناء البحث والاستقصاء.
الدكتور برق جعفر اختصاصي طب الأسرة من مشروع الرعاية الصحية الأولية قال :اظهرت معظم الدراسات أن الحمل قبل سن 18 عاما ينطوي على مخاطر كبيرة لكل من الأم والجنين. الزواج يعني تعرض المرأة لاحتمال كونها حاملا وهذا يتطلب اكتمال نضوج الهيكل العظمي والنظام الإنجابي من أجل حماية الزوجة وطفلها المتوقع من العديد من المشاكل الصحية، مثل تعسر الولادة، الولادة المبكرة، والإجهاض العفوي، أو تسمم الحمل.
فضلا عن أن عظام الحوض في المرأة صغيرة السن تكون غير مكتملة التصلب وتراكم المادة العظمية فيها ما يجعلها أكثر عرضة للين العظام والتشوهات مع زيادة في احتمال حدوث عسر الولادة في حالات الحمل اللاحقة.
التشريع والقانون
بهذا الصدد يوضح القاضي ” احمد الساعدي” من محكمة بداءة الكرخ ان القوانين تستمد مصدرها من التشريع رغم ان القانون قابل للتغيير حسب الواقع السياسي والاقتصادي الا ان جهة التشريع لاتلتفت الى جملة المشاكل والقضايا الاجتماعية المهمة والخطيرة التي تعصف بالقوانين .. فقانون الاحوال الشخصية يشترط في اهلية الزواج العقل واكمال الثامنة عشرة ،عندها لايصح العقد لمن كانا او كان احدهما دون هذه السن.. ويعطي التقدير للقاضي وبرضا الوالدين في تزويج الفتاة بين الـ15 و 18 عاما .. الا ان (الشرعية) التي تسبغ على العقود المكتوبة خارج المحاكم تعد ملاذا لمن يريد تزويج بناته دون السن القانونية .. وهو المنتشر الان في المجتمع العراقي .. وان نسبة الطلاق للاعمار الصغيرة بلغت في محكمة الاحوال الشخصية في مدينة الصدر ثلاثة الاف حالة خلال الثلاثة اشهر الماضية.
خطورة الظاهرة
اوراق القضية برمتها وما افرزت من مشاكل وتداعيات نفسية وصحية وعنف وحالات شرخ اسري وتراجع في بناء مجتمع سليم وعدم فرض قوانين تحد من الظاهرة الخطرة وضعت امام انظار وزارة المرأة التي تأخذ على عاتقها مسؤولية حماية المرأة وانصافها وادارة شؤونها .. عن ذلك وجهنا سؤالنا الى الدكتورة ” ابتهال الزيدي” وزيرة المرأة العراقية عن موقف وزارتها من ظاهرة تزويج القاصرات التي شاعت في المجتمع العراقي ..اذ بينت خطورة الظاهرة على المجتمع وآثارها السلبية على تراجع التعليم واذ تركت اعداد كبيرة من الفتيات الدراسة وانصاعت الى رغبات الاهل لاسيما في المناطق الريفية والتي شاع فيها هذا الزواج وان الوزارة لم تغمض عينيها عليها بل عقدت العديد من الندوات والمؤتمرات لايقاف العقود خارج المحاكم وقدمت طلبات عديدة لمجلس القضاء لمحاسبة مكاتب الزواج المنتشرة في بغداد والمحافظات للحد من ابرام العقود للفتيات الصغيرات وطالبت الوزارة بارتباط هذه المكاتب بالقضاء والمحكمة كي لا يتم استغلال القاصرات واجبارهن على العقد كيفما شاء الزوج او ولي الامر.. والامر مازال معلقا لاينظر فيه !!
الالتفاف على القانون
من الجدير بالذكر ان المادة 7 فقرة 1 من قانون الاحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اشترطت في تمام اهلية الزواج العقل واكمال الثامنة عشرة ما يعني ان عقد الزواج لكي يكون صحيحا قانونا يجب ان تتوافر فيه شروطه المنصوص عليها في القانون حسب الدكتورة ” بشرى العبيدي” عضو المفوضية العليا لحقوق الانسان المسؤولة عن ملف المرأة .. مضيفة ان القانون ايضا اعطى استثناء في المادة الثامنة لمن هم دون هذه السن عندما قرر الاذن للقاضي بزواج من بلغ الخامسة عشرة من العمر و” السادسة عشر ” في اقليم كردستان، اذا وجد ضرورة قصوى تدعو الى ذلك ويشترط تحقق البلوغ الشرعي والقابلية البدنية .. هذا هو موقف القانون .. الا ان مايحصل ان هناك التفافا على القانون بتزويج من هم دون هذه السن عن طريق العقد خارج المحكمة وهذه كارثة كبيرة وعليها تبعات قانونية بالغرامة او الحبس.
وعن موقف المفوضية من الظاهرة تشير العبيدي الى انه ضمن الستراتيجية لملف حقوق المرأة وضعت نشاطات وخطط للحد منها بغية الوصول الى منعها .. منها التثقيفية وحملات التوعية لكل الاطراف بمن فيهم القضاة ومراجعة التشريعات النافذة لدراسة الثغرات التي تستغل للنفاذ منها لمخالفة احكام القانون والافلات من هذه المخالفات ومن ثم تقديمها الى السلطة التشريعية.
نقلا عن جريدة الصباح
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً