قراءة فقهية لمصطلح القانون الدولي
حبيب عيسى
1– لقد أثار مصطلح “القانون الدولي” جدلًا واسعًا في أوساط فقهاء القانون، فمنهم من يرى أن هذا المصطلح فضفاض على ما يسمى في عصرنا (قانون دولي) الذي هو بنظرهم أقرب إلى معاهدات رضائية بين الدول صاحبة النفوذ الدولي، أو أنه سيف بيد الدول العظمى تلوّح به عندما تستدعي مصالحها ذلك، وتتركه عندما تشعر أنه لا موجب لذلك، ومنهم من يدافع عن المصطلح، ويقول بوجود قانون دولي فعلًا، وهناك من يرى أن “القانون الدولي” ما زال حلمًا في ضمير المستقبل، وعلى البشرية أن تخوض نضالات طويلة أخرى حتى تحققه.
ومما لا شك فيه أننا في طور متقدم عن الأطوار السابقة في مجال تحديد مفهوم قواعد العلاقات الدولية، لكن من المشكوك فيه أن العالم اليوم محكوم “بالقانون الدولي”، بما يوحي به من المساواة بين أشخاص القانون الدولي (الدول)، ومن الإلزام العادل.
فالقانون الدولي، عبر تاريخ البشرية، كان تعبيرًا عن الواقع الموضوعي لقوى الأطراف، ومفهومها للعلاقات الإنسانية، فالقبائل والإمبراطوريات وصولًا إلى دول العصر الراهن التي تصوغ (قوانين دولية) للغزو، والقرصنة، والاستعمار، والهيمنة، وفرض إرادتها على الآخرين، لا يُمكن أن تكون، بأي حال من الأحوال، قوى منسجمة ملتزمة متكاملة، متكافلة لبناء مجتمع دولي متوازن يحكمه القانون، بكل إسناده الشرعي، وتطبيقاته المشروعة؛ فطالما أن “القانون كشبكة خيوط العنكبوت تقع فيه الحشرات الضعيفة، أما الحشرات القوية فتخترقه بدون قيد”.(1) كما قال الفيلسوف الألماني نتشه.
وحيث إن: “المجتمع الذي ينكر المساواة في الداخل لا يجد صعوبة في إنكارها في الخارج. ومعنى إنكاره للمساواة أنه يزن مطالب الشعوب الأخرى بطريقة تختلف عن الطريقة التي يزن بهـا مطالبه الخاصة، مما ينتهي في المدى البعيد إلى أن يعامل مطالب الشعوب الأخرى بغير اكتراث “(2) كما قال هارولد لاسكي.
إن الحديث عن قانون دولي عادل ومُلزم يبقى سابقًا لأوانه، ذلك لإن “فاقد الشيء لا يعطيه”، لكن، على أي حال، فإن “للقانون الدولي” الراهن بذورًا بدأت مع تكوّن التجمعات البشرية، وقد حكمت العلاقات بين العشائر، والقبائل، والمدن، والإمبراطوريات أعراف، ومعاهدات تطورت مع كل طور من تطور الجماعات البشرية في الزمان إلى أن وصلت إلى صيغتها الراهنة.
وإذا كانت الحروب الظاهرة هي السمة الرئيسة للعلاقات (الدولية) في الماضي، فإن فقه القانون لا يستطيع أن يتجاهل (الحروب المستترة) التي قد تكون أكثر خطرًا، وهي السمة الرئيسة لعصرنا الراهن، وكما أن الأقوياء كانوا يفرضون (قوانينهم) ومعاهداتهم، فإن أقوياء هذا العصر ليسوا أقل شأنًا.
2- على مدى التاريخ “كان الاستيلاء بالقوة على أي أرض يُكسب الفاتحين حق ملكيتها، وضمها إلى ممتلكاتهم، وهو حق يعرفه الغالب، ويعترف به المغلوب، ويُقرّه الذين لم يكونوا طرفًا غالبًا، أو مغلوبًا”(3) كما قال د. عصمت سيف الدولة، وأضاف أن: “هذا الحق (حق الفتح) انتهت شرعيته، فقد اتفق المجتمع البشري على إنهاء شرعيته عام 1919 بموجب عهد “عصبة الأمم” على أثر الحرب العالمية الأولى. لكن ألا يحق لنا أن نسأل من الذي اتفق، ومع من؟ وما أثر هذا الاتفاق في الواقع؟
قبل ذلك لا بد أن نتابع تطور العلاقات بين الجماعات البشرية عبر التاريخ. ليس من أجل البحث التاريخي، ولكن لنتتبّع بذور نشأة تلك العلاقات، وإلى أي حد نجح المجتمع البشري في تنقية هذه العلاقات من شرعة الغزو، والسيطرة، والتحكم، أو الحد من شهوات المستبدين على الصعيد الدولي.
وسنحاول أن نقرأ تاريخ العلاقات الدولية، من خلال وجهتي نظر عربية، وأوروبية، لتكتمل الصورة أمامنا:
وجهة النظر العربية نأخذها عن كتاب (العروبة والإسلام) الذي كثفّ به د. عصمت سيف الدولة تاريخ تلك العلاقات، ونحاول أن نُلخصّها عنه: يقول د. سيف الدولة: “بدأ تاريخ المجتمعات أسرًا وعشائر وقبائل متقاتلة للاستيلاء على مواقع المراعي، والصيد، ومواطن الأرض الخصبة. حيث بدأ استقرار الجماعات القبلية التي أدركتها أولًا. فاستقرت شعوبًا، وبدأت في تكوين حضاراتها، فتكونّت مجموعات مُتناثرة من الممالك في كل مكان صالح للزراعة. غير أن استقرار بعض الشعوب على الأرض الخصبة لم يكن يعني عند المجتمعات القبلية التي لم تستقر بعد أنها تحصنّت دون الغزو بمن استقر عليها. بالعكس، كانت تلك بداية حروب أوسع نطاقًا، وأكثر شراسة من الحروب القبلية.
هكذا يُحدّثنا التاريخ عن تعرضّ مصر، وما بين النهرين لغزوات القبائل الأكادية 2000 ق. م، والهكسوس 1750 ق. م، والحامورية 1200 ق. م، والأشورية 800 ق. م، والميدية 700 ق. م. إلخ، كما يُحدّثنا عن قبائل الهون التي اجتاحت (العالم) تقريبًا 355 م، ودفعت أمامها مجموعة من القبائل التي كانت تتجول في أوروبا: التورنجية، والبرغندية، والإنكليزية، والسكسونية، والقوط، والوندال، والألمان.. إلخ، فتقع تلك القبائل على جسم الإمبراطورية الرومانية، وتمزّقها.. بينما كان فرع آخر من قبائل الهون قد مزّق جسد الصين، وفارس. ويحدثنا التاريخ عن القادة العظماء الذين قامت عظمتهم على أساس واحد هو انتصاراتهم الساحقة (خارج حدودهم)، أي: وهم يطاردون القبائل المُغيرة إلى مراكز تجمعاتها، ويضمّون تلك المراكز إلى الأرض التي انطلقوا منها.
ولم تكن الأرض، أيّ أرض، تخص إلا من استولى عليها، وهي لا تبقى خاصة إلا إلى المدى الذي يستطيع فيه أن يُدافع عنها. فاندثر ما اندثر من الممالك، وتكونت (دول) بالغة الاتساع هي (الإمبراطوريات). منها الإمبراطورية الهيلينية التي بدأت بغزو الإسكندر الأكبر آسيا الصغرى 334 ق. م، ثم غرب آسيا، وفارس، والهند، ومصر.. وحين مات الإسكندر عام (323 ق. م) سُئل لمن يترك ملكه فردد شعار العصر كله: (لمن هو أعظمكم قوة)، ومنها الإمبراطورية الرومانية التي كانت مؤلفة من نحو مائة شعب منذ أن تحولت من مملكة إلى إمبراطورية على يد أغسطس 27-14 ق. م، وشملت كل أوروبا تقريبًا، وغرب آسيا، وشمال إفريقيا واستمرت 500 سنة، ثم مزّقتها القبائل لتعود تحت حكم البابوات فعليًا، والأباطرة أسميًا منذ شارلمان 805 م. حتى قضى عليها نابوليون 1806 ليكون قائدًا لإمبراطورية جديدة.
ومنها الإمبراطورية الفارسية التي شملت الأرض من أول اليونان حتى الهند، وبقيت إلى أن ظهر الإسلام، ومنها إمبراطورية الصين تحت حكم أسرة الهان التي استمرت 400 سنة من 202 ق. م- 221 م. ثم مزقتها القبائل الغازية لتعود إمبراطورية مرة أخرى تحت حكم أسرة التانج ثم مزقتها جحافل المغول ليقيم فيها أحد قادتهم، قوبلاي خان، إمبراطورية جديدة. ولقد بقيت الإمبراطورية الصينية تحت أمرة “مانشو” تأخذ الجزية من منغوليا، ومنشوريا، وتركستان، وبورما، ونيبال، وكوريا حتى أواخر القرن الثامن عشر.. وآخرها الإمبراطورية العثمانية التي بدأت عام 1314، وانتهت عام 1919. باختصار عندما تكون الأرض مُتاحة لمن يستطيع أن يستولي عليها يترتب على ذلك عدة نتائج محتومة هي ذاتها الخصائص الممنوحة للدولة المسماة (الإمبراطورية) فأولًا لا تكون لها حدود ثابتة بل تتبع حدودها أقدام جيوشها فتقف حيث تقف، وتمتد حيث تتقدم، وتنحسر حيث تتقهقر، إذ هي دولة (مُكرهة) على القتال.
هكذا كانت الإمبراطوريات نموذج (الدولة) في العصر الذي سبق دولة (الخلافة العربية الإسلامية)، وعاصرها. ولم يكن في استطاعة العرب المسلمين أن يقيموا في الجزيرة العربية (مملكة) بل كان لا بد لهم أن يقاتلوا على الحدود الشمالية للجزيرة حتى لا تذهب الجزيرة ضحية أمام الإمبراطورية الفارسية، أو الإمبراطورية الرومانية، ولم يكن في استطاعة دولة الخلافة أن تتوقف عن (الفتح) عند حدود الجزيرة العربية، ولقد حاول الخليفة عمر بن الخطاب أن يحول دون فتح ما يلي العراق شرقًا بعد فتح المدائن، ولكن هذا لم يكن متوقفًا على الطرف العربي الإسلامي وحده.
ولم يكن من (قوانين) في وجود الإمبراطوريات، ومنها الفارسية، والرومانية، الكفّ عن القتال قبل أن تُصّفي (القوة النامية الجديدة) فلم يكف العرب المسلمون عن الفتح طالما كانوا قادرين، وفي الواقع لم يكن مسموحًا لهم بالكف عنه طالما كانوا قادرين. المهم أن نموذج (الدولة الإمبراطورية) انقضى عصره بعد أن تكونت الأمم بما تعنيه الأمة من اختصاص شعب معين بأرض معينة. هكذا تكونّت الأمة العربية، والأمة التركية.. وتكونت الأمة الإيرانية، في قلب الإمبراطورية الفارسية، وتكونت الأمة الإيطالية في قلب الإمبراطورية الرومانية. وتكونت أمم أوروبا جميعًا من تجمعات قبلية استقرت على الأرض بعد غزوها.
وكان لا بد لحق (الفتح) أن يُخلي مكانه لحق (تقرير المصير)، ومؤداه أن من حق كل شعب، أو أمة أن يستقل عن غيره من الشعوب، والأمم الأخرى (بالأرض) التي يُقيم عليها.. فأصبحت خصائص الدولة (الإمبراطورية) غير صالحة للحياة في عصر الدول القومية الناشئة.
ولقد حاول نابليون أن يُنشئ دولة (إمبراطورية) طبقًا لذلك النموذج الموشك على الانقراض، فلم تكد إمبراطوريته تعيش ربع قرن، حتى هزمتها القوى القومية الناشئة في إسبانيا، وألمانيا، وروسيا؛ ونشأت دول قومية ذات نظام رأسمالي سيطرت على أركان الأرض جميعًا، إسبانيا، والبرتغال، وهولندا، وإنكلترا، وفرنسا، وألمانيا، وروسيا، وإيطاليا، فأغراها اتساع المستعمرات بإن تستعير اسم الدول المنقرضة فأسمت نفسها إمبراطوريات، ولكن وحدة الاسم لا تخفي اختلاف المسميات”(3).
هوامش ومراجع:
(1) السيادة- عبد الهادي عباس- مصدر سابق- صفحة (7)
(2) هارولد لاسكى- الدولة في النظرية والتطبيق- مصدر سابق- صفحة (264)
(3) د. عصمت سيف الدولة- العروبة والإسلام- مصدر سابق- صفحة (120) وما بعد.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً