جرائم مالية .. حسب النظام
تبدأ القصة من مناقصة. مكالمة هاتفية تنتهي مع وعد بترسية المناقصة القادمة، أو على الأقل تحسين مؤثر لموقفهم خلال مرحلة التأهيل. الملايين لا تكذب، إدارة الشركة على قدم وساق لاستكمال الشروط – المعروفة مسبقاً – قبل صدور الكراسة المرتقبة. لكن هناك قضية. كلما كَبُر حجم المناقصة يكبر حجم الضمان البنكي المطلوب. إذاً، المناقصة تتطلب ضمانا بنكيا، والبنك أيضا يتطلب ضماناته. في السنتين الأخيرتين، استهلكت الشركة ما تبقى من سيولة وملاءة في تكاليف الاستقدام الجديدة والرسوم الحكومية، بعد شراء عقار “أوروبي” لمصلحة الشريك الثاني والتبرع للجامعة العالمية التي يدرس فيها ابنه. خرجت هذه المبالغ نظامياً محملة على حساب الشريك. المناقصة المرتقبة هي فرصة الشركة الوحيدة لاستعادة صحتها “النقدية”.
مدير تمويل الشركات في البنك يؤنب مدير الخزانة في الشركة: “مراجع حساباتكم ليس من النجوم! أقصد ليس من ذوي التصنيف المرتفع، أداؤكم لا يفي بمتطلبات الضمان وقوائمكم المالية ركيكة”. ينعكس الرد خلال ساعات عبر مساعد المدير العام للشؤون المالية في الشركة، المدير العام، الشركاء، في حديث ساخن يغص كثيراً بالمفردة “مناقصة”، حتى يعود مرة أخرى لعضو مجلس إدارة في البنك نفسه! الخلاصة، تم الاتفاق، تغيير مراجع الحسابات و”تحسين” جودة القوائم المالية، للفترة التي تنتهي هذه الأيام. مُخاطرة البنك بالمساعدة على إصدار الضمان تتم تغطيتها بتقارير مطمئنة من أطراف موثوقة، حتى لو كانت الأرقام أسوأ. نعم، فاتورة مراجع الحسابات الجديد ستكون أعلى. لكن الصداع المتوقع من أسلوبه الدقيق سيأتي بنتيجة إيجابية للشركة، كان هذا وعداً “انفرادياً” من الجميع!
يبدأ مراجع الحسابات في العمل. الخطوة الأولى، هي إعادة ترتيب الذمم وإخراج جزء معتبر منها إلى “ذمم مشكوكة في تحصيلها”. يمتعض المدير المالي: “لكن هذا سيضعف من موقفنا المالي” المراجع: “لا تقلق، سيجعل القوائم تبدو “جديّة” وصحيّة، وهذا هو المطلوب، بلا تأثير في التدفقات النقدية، وكل خسارة لها ما يعوضها”. كان المراجع يعي تماماً ما يقول، ما أخذه من الذمم سيعيده إلى الأصول بقوة النظام. كل ما نحتاج إليه تثمين معتمد من ثلاثة مكاتب عقارية بقيمة مساهمة الشريك العينية، تلك الأرض القديمة في الناحية الجنوبية من المدينة. سوق العقار متضخمة، على الرغم من أن الخدمات لم تصلها، لكن قيمتها تضاعفت عشرات المرات خلال السنوات القليلة الماضية. تم الاتفاق على أن تعرض قيمة الأرض في قائمة المركز المالي حسب تكلفة الشراء “التاريخية” الضيئلة، مع تبيان قيمتها سوقياً في الإيضاحات، حسب النظام.
بعد ذلك قام مراجع الحسابات باكتشاف معتبر، هناك شريك تجاري خارجي يتعامل معه قسم الاستيراد في الشركة بصفة دورية وبعقود متنوعة. وفي علاقة مبنية على الثقة بالكامل، تتم إعادة البيع بطريقة مباشرة يحصل فيها قسم الاستيراد على حصته من الإيرادات بموجب كشوف ربع سنوية فقط. لغياب البيانات الكافية، يعمد مراجع الحسابات إلى إعادة تقدير الكميات المبيعة بالمتوسطات الحسابية التاريخية. وبإدخال بعض العناصر، مثل فرق تحويل العملات، أصبحت الإيرادات أكبر مع ظهور جديد لخسائر العملات. تم الاتفاق على الإشارة إلى هذه الخسائر التي يصعب تقديرها في الإيضاحات بلا تخصيص في قائمة الدخل، على الأقل في السنة الأولى.
وبعد نقاشات على مستوى الشركاء والمديرين وبضع عمليات من هذا النوع، جميعها له سنده في المعايير المحاسبية وله مستنداته الثبوتية، خرجت القوائم المالية بصورة “أفخم” من سابقتها.
أصبحت أضخم وإيضاحاتها ثرية بمفردات مثل “مخاطر” و”احتياطيات”. لمن يقارن، أصبح الإفصاح إيجابيا ويُشعر بالثقة، خصوصا للذمم والأصول. كانت التطورات تتسم بالعدالة، حيث نشأت خسائر جديدة وإيرادات جديدة ومراجع حسابات “معروف”! يتسلم مدير العلاقة في البنك نسخته من القوائم المالية، يدرسها ويحولها لقسم مراجعة الائتمان وتخرج التوصية بمنح الضمانات المطلوبة. تكتمل شروط المناقصة، ويصبح الجميع سعداء.
بغض النظر عن الجودة المتوقعة لأداء الشركة في المشروع الجديد، سأنهي القصة ببضع ملاحظات، أشير فيها أولا إلى أن القصة وهمية بالكامل!
لا يوجد تصنيف نظامي للمحاسبين القانونيين في المملكة، لكن تقوم المصارف بتصنيف مكاتب المحاسبة بطريقتها الخاصة. لا يُسمح محلياً بإعادة تقييم الأصول المقتناة بموجب القيمة العادلة أو السوقية، لكن يسمح بإيضاح ذلك – في الإيضاحات المرافقة للقوائم – وفق شروط معينة. يستخدم مراجعو الحسابات العديد من الوسائل الرياضية لإثبات صحة تقديرات الإدارة.
وُضعت المعايير المحاسبية لضبط وتقويم الحسابات والتقارير المالية، لكنها لا تكفي في حد ذاتها لتفادي الغش والتدليس والاستغلال. هناك العديد من الأنظمة المختصة بتحسين مستوى النزاهة والإفصاح العادل، من أهمها الحوكمة. خصوصاً ذلك الجزء الذي يختص بتقنين العلاقات بين جميع الأطراف (شركاء، ممولين، مديرين، مراجعي الحسابات، عملاء.. إلخ)، وذلك لأن الكثير من التجاوزات تبدأ بعلاقة تتعارض فيها المصالح!
تنظيمات وتطبيقات الحوكمة خارج نطاق الشركات المدرجة في سوق الأسهم، تختلف كثيرا – كثيرا جدا – عما يحدث داخل السوق، على الرغم من أن حجم المشاريع والأموال خارج السوق هو أيضا “تريليوني”. في الكثير من قصص الغش والتدليس المالي يصبح المحاسبون في الواجهة، لكن التحقيقات دائما تشير إلى وجود تواطؤ أو تأثير من أطراف أخرى – قانونيين ومصرفيين وموظفي الحكومة – ناهيك عن وجود بيئة محفزة للجريمة المالية داخل الشركة وخارجها. وأخيرا، المتطلب الأساسي للجريمة المالية ليس مخالفة الأنظمة، لكن وجود طريقة سهلة للاستغلال من دون أن يلومك أحد.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً