المتقاعدون … القضاة كمثال … موتى بلا قبور
بسم الله الرحمن الرحيم (قل لو انتم تملكون خزائن رحمة ربي اذا لأمسكتم خشية الانفاق وكان الانسان قتورا) صدق الله العظيم (سورة الاسراء آية 100)
قبل سنوات كنت في زيارة تدريبية لفرنسا ، ورغب السادة المشرفون على الدورة التدريبية ان يطلعونا على بعض معالم بلدهم ، فذهبوا بنا الى بلدة (مونترو) وهي بليدة جميلة تبعد ساعتين من السير بالحافلة عن عاصمتهم (فرنسا) . ودلفنا الى قصر جميل بحدائق غناء من قصور العصر الملكي . واثناء تجوالي في جنبات الحدائق الغناء لذلك القصر، لفت انتباهي شيخ يبدو انه من اصول اسيوية برفقته امرأة مقاربة له في العمر ، ومعهما صبية ، يبدو انها ابنتهما . فرغبت بالحديث معهم ، اتضح انهم من مواطني جمهورية الصين الشعبية ، وسألته عن اسباب زيارته لفرنسا ، فأخبرني انه كان عاملا في احد مصانع بلده ، وبلغ السن التي اهلته للاحالة الى التقاعد . وعلمت منه ان النظام في بلده يتعاون مع بعض البلدان بتنظيم رحلات ترفيهية متبادلة للمتقاعدين . ومن بين هذه البلدان (فرنسا) ، فترسل الصين بعض متقاعديها الى فرنسا ، وترسل فرنسا بعض متقاعديها الى الصين ، وهم يحرصون ان تكون تلك الرحلات عائلية ، ليتمتع المتقاعد وعائلته بهذه الرحلة ، بعد عناء رحلة الوظيفة او العمل ، فالمتقاعد بعد ان وضع رحاله في هذه المرحلة من رحلة الحياة ، آن له ان يتمتع ببعض ايامه الاخيرة ، وأن لدولته ان ترد له بعض ما قام به في خدمتها .
وأنا أقرأ عدد (مجلة العربي الكويتية) لشهر (مايس 2017) جلب اهتمامي مقالا للدكتورة (امينة التيتون) وهي اكاديمية من مملكة البحرين وكان المقال بعنوان (جامعات العمر الثالث) ، حيث بينت الكاتبة فيه اهمية العناية بكبار السن من خلال برامج تشعرهم بالرضا والسعادة ، لكي يحرزوا تقدما على الصعيدين الذهني والجسدي لكي يتخلصوا من الشعور بالاكتئاب ، موضحة اهمية التعليم في مرحلة التقاعد ودوره في تنمية المعارف ،والخبرات النفسية ، والصحية ، والتقليل من الاصابة بالخرف ، وتأكيد حسن التواصل مع الاخرين عبر ما يقدمونه من مساهمات لدعم مجتمعاتهم ، ولا سيما تلك المتعلقة بنقل الخبرات للاجيال التالية . ومن هنا ظهرت برامج تعليمية موجهة للكبار ، لعل من أهمها جامعات العمر الثالث (University of 3rd Age ) الاخذة في الانتشار حول العالم بصورة متزايدة .
وقد ابتدأت هذه الفكرة في فرنسا نهاية ستينات القرن الماضي ، ونفذت في مطلع السبعينات من جانب جامعة تولوز للعلوم الاجتماعية ، حيث طرحت مقررات موجهة للمتقاعدين من دون شرط مؤهل سابق ، وبلا امتحانات ، ونظير رسوم رمزية . وخلا ل سنوات قليلة تالية انتشرت الفكرة في الجامعات الفرنسية ، والسويسرية ، والبلجيكية ، والاسبانية ، والايطالية ، والكندية ، والامريكية . وقد تزايد اهتمام دول العالم بالعناية بكبار السن والمتقاعدين في دول اخرى مثل استراليا ، نيوزيلندا ، الهند ، سنغافورة ، وجنوب افريقيا .
وقد تعرض (بيتر لاسليت) لمراحل عمر الانسان في كتابه (خريطة طازجة للحياة ، ظهور العمر الثالث) الصادر عن جامعة (هارفارد) حيث اعتبر مرحلة الطفولة هي (العمر الاول) إذ يكون الانسان في هذه المرحلة غير ناضج ، معتمدا على الآخرين . ثم فترة (العمر الثاني) وهي فترة العمل والوالدية التي تتميز بالنضج ، والاستقلالية ، وتحمل المسؤولية ، والكسب ، والادخار ، وتربية الاولاد . ثم فترة (العمر الثالث) ، وهي فترة التحرر من الوظيفة ، واستكشاف الهوايات ، ومتابعة الاهتمامات . اما مرحلة (العمر الرابع) ففيها يعود الانسان الى الاعتماد على الآخرين مرة أخرى . وكأني بهذا الكاتب قد اقتبس مراحل حياة الانسان من (آية الخلق) وهي الآية (5) من سورة الحج : بسم الله الرحمن الرحيم (… ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد الى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا …) صدق الله العظيم .
عرضت لكم كل هذا لأبين حرص دول العالم للعناية بكبار السن فهم بعد ان أفنوا زهرة شبابهم في الكد والعمل لخدمة المجتمع ، وخدمة عوائلهم ، وتنشئة اولادهم ، آن لهم ان يتمتعوا ببعض ما قدموه للمجتمع ، الذي عليه توفير فرص حياة مريحة لهم تعوضهم عما بذلوه من جهد ، ومن تلك الفرص منحهم حقوقا تقاعدية تتناسب وذلك الجهد ، وتتناسب والعمل الوظيفي الذي كانوا يقومون به قبل احالتهم الى التقاعد ، وتتناسب وتحصيلهم الدراسي ، ومكانتهم في المجتمع . وان نضع في بالنا حالتهم الصحية وحاجتهم المستمرة للدواء ، بعد ان تمكنت منهم العديد من امراض الشيخوخة المزمنة . وأن ناخذ في الاعتبار ان يتناسب الراتب التقاعدي مع الدخل الذي كانوا يتقاضونه خلال وظيفتهم ، إذ لايعقل ان تكون مرحلة التقاعد تأخذهم الى العوز والحاجة ، بعد ان اصبحوا في وضع صحي يحول دون حصولهم على مصادر دخل اخرى . فليس من الانسانية في شيء ان نتعامل مع من خدمنا ، وافنى حياته من اجلنا ، بالجحود ، ونكران الجميل .
ان ارذل العمر ما هو الا بلوغ الهرم ، وضعف البنية والادراك ، وبلوغ منتهى العمر .
ونحن في بلادنا ننتقل من مرحلة العمر الثاني الى مرحلة العمر الرابع مباشرة ، حيث العجز ، ومن ثم الوفاة دون المرور بمرحلة العمر الثالث ، فلا راحة ، ولا متابعة للهوايات والاهتمامات ، بينما في العالم المحيط بنا تتزايد الاهتمامات بمرحلة العمر الثالث ، من خلال توافر فرص الرعاية الصحية والاجتماعية ، التي ادت الى ارتفاع معدل الاعمار حول العالم ، فوفروا لهؤلاء انشطة اجتماعية ، وصحية ، وفنية ، لتترك آثارها على الصحة والسلامة المتعلقة بالحركة ، ومن خلال منحهم فرصا للتطوع في اعمال التنظيم ، والادارة ، وتقديم خبراتهم للمجتمع ، وللأجيال الجديدة ، موفرة لهم حياة مبدعة .
في بلادنا لانحلم بكل ذلك ، ولا ببعضه ، لذلك فقط دعونا نموت بهدوء ، فنحن نعلم اننا اموات بلا قبور ، أفكل يوم (هزي تمر يانخلة) ؟ ، فليست هذه هي المرة الاولى التي نتعرض فيها لهذه الهزات التي تنغص علينا ما بقي لنا من أيام حياتنا ، فبعد ان كان القاضي المتقاعد يتمتع براتبه كاملا ان احيل الى التقاعد لبلوغه السن القانونية للاحالة الى التقاعد ، بل ويتمتع بالامتيازات التي يتمتع بها اقرانه المستمرون بالخدمة ، انطلاقا من الاهتمام أن يحافظ القاضي المتقاعد على كرامته ، فمنع لقاء ذلك من ممارسة مهنة المحاماة ، لكي يبقى القاضي بصورته الجميلة امام المجتمع . الى أن جاء (بريمر) ليخبط الماء فلم نفهم شيئا من ماضينا ، ومستقبلنا ، حيث (تفضل) علينا براتب (20) دولارا شهريا ، وكنا نقبضها وكأننا نتسول ، الى ان قيض الله لنا استاذنا (مدحت المحمود) ، ليحارب بمنكبيه لنستعيد بعض حقوقنا المهدورة . واليوم من لنا ليحارب عنا بمنكبيه ؟
اخواني في كل مكان وفي كل زمان … تريدون ان نموت لنخفف عنكم … اطمئنوا نحن فعلا موتى ولكن بلا قبور … ورحلتنا قصيرة معكم … فلم يُبقِ القضاء فينا الا (الوشالة) … فمن لايعرف ما القضاء … هذا هو القضاء … اخذ زهرة عمرنا … وتركنا شيوخا … تنخر اجسادنا امراضا مزمنة لاعلاج لها الا بالمسكنات … فنستميحكم العذر دعونا نغادر ونحن نتذكركم بخير …
وليتذكر السيد الذي شارك في هذه (المقتلة) ، انه لولا القضاء العادل الذي مثل امامه ذات يوم ، متهما بالفساد ، لكان اليوم بين اسوار السجون . فهذا هو القضاء يلجأ اليه المظلوم ، ويأوي اليه المكلوم ، افهكذا يكون الجزاء ؟
اخيرا سادتي (خذوا المناصب والمكاسب) ولكن دعونا نترك الحياة ، وعلى شفاهنا ظل ابتسامة في الاقل .
فتحي الجواري (قاضي متقاعد)
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً