أثر السوابق القضائية في توحيد الأحكام التجارية
فيصل المشوح
المحامي والمستشار القانوني
fisalam @
هل النظام هو هذه النصوص الجامدة ؟ أو ما ينتج عنه من آثار بعد التفسيرات التشريعية والتفسيرات الفقهية والتفسيرات القضائية.
الذي يتضح أن النظام حينما ينشر يبقى مجرد نصوص جامدة لاتدبّ فيه الحياة إلا حين يتناوله القضاة بالتطبيق، ولذا يقال: (النظام ليس ما يصدره المشرّع إنما هو ما يطبقه القانون -يعني ما تصدر من المحاكم -)؛ لذلك كانت عناية الجهات القضائية بالمملكة العربية السعودية في تدوين ونشر الأحكام القضائية قديمة؛ فلانت المواد الصلبة بأحكام القضاة الذين يملكون الخبرة والدراية في تنزيل الأحكام على الوقائع.
ومن حين صدور نظام القضاء بالمرسوم الملكي رقم م/64 وتاريخ 14/7/1395 هجري المعني بتشكيل إدارة في وزارة العدل لتولي مهام إعداد مجموعة من الأحكام المختارة للنشر, ومن ذلك الوقت لم تنشر أي من الأحكام القضائية بشكل رسمي, وظلت الأحكام المتداولة بين الناس هي أحكام قليلة ينشرها بعض القضاة اجتهادًا أو أحد الباحثين والمحامين رغبة وتطوعًا.
وظلت البيئة القانونية والنظامية على ما هي عليه في حالة من الشغور والفراغ عن هذه الأحكام المليئة بالتسبيب النفيس، حبيسة الأدراج فترة من الزمن, حتى جاء قرار مجلس الوزراء رقم 162 وتاريخ 17/6/1423 هجري بإلزام وزارة العدل بأن تقوم بنشر الأحكام النهائية المختارة الصادرة عن المحاكم, وفق شروط محددة على أن تصنف بشكل ممنهج وتحذف الأسماء مراعاة للخصوصية والحال, وعلى إثره أعادت المحاكم العامة وديوان المظالم حالها, وقدموا نهضة حقوقية بإصدار وتقديم عدد من المدونات والمبادئ القضائية الثمينة.
حيث قدمت وزارة العدل مدونة للأحكام القضائية في أول إصدار لها عام 1428 هجري, كما صدر في العام نفسه نظام ديوان المظالم الجديد بالمرسوم الملكي رقم 78 ونصت فيه المادة الحادية والعشرين على أن: (يعمل ديوان المظالم على تصنيف الأحكام الصادرة من الدوائر القضائية التابعة له وأن ينشرها)، وعلى ضوئه اجتهد ديوان المظالم بإصدار المدونات بإشراف من معالي رئيس ديوان المظالم، وجهد عدد من أصحاب الفضيلة القضاة في العمل والإعداد لتقديم أول مجموعة في الأحكام والمبادئ التجارية قبل انتقال الدوائر التجارية إلى ولاية المحاكم العامة في 1/1/1439 هجري, حيث حمل ديوان المظالم على عاتقه ولاية القضاء التجاري من عام 1408 هجري بموجب المرسوم الملكي رقم 63 وتاريخ 26/11/1407 هجري إلى 1/9/1439 هجري.
فكانت هذه المدونات القضائية ومجموعة الأحكام والمبادئ التجارية ومجمل السوابق الصادرة المتتالية, تدشين لمرحلة جديدة من الوعي القضائي والصياغة وحسن السبك والاستدلال والاستنباط, لكونها بمثابة إرشادات علمية وعملية, يسّرت للمحامين وكل المهتمين من الأفراد ورجال الأعمال والمنشآت العودة إليه والإفادة منها, حيث أن توفر هذه الأحكام والقرارات بمثابة المرجع الذي لا غنى عنه لكل شخص له احتكاك في المعاملات والتجارة والمال والأعمال, ولكل مستطلع ومستثمر قاده القدر للعمل بالقطاع الأهلي الخاص, إذ لابد له من الرجوع لهذه الأحكام والوقوف على معانيها ودلالتها , واستخلاص الآثار المترتبة عنها لإتمام عمله على بصيرة وبيّنة وتمعّن.
ولما لهذه المدونات من سبق وقيمة ومكانة لدى القضاة والجهات العدلية, لذا لا بد من تفهمها والعناية بها ومراعاة اختلاف الوقائع عند قراءتها فنشر الأحكام والمدونات لا يعني وجوب الالتزام الحرفي بها كما بينت مقدماتُها, فقد تختلف أحد المتغيرات في الواقعة فتتبدل بموجبه نتيجة الحكم القضائي. كما أن الأحكام القضائية وإن اتحدت في غايتها في طلب العدل والحكم به , إلا أنه نظراً لتنوع الاجتهاد الفقهي فقد تختلف الأحكام اختلافًا يسيرًا.
ولاشك عندي أن وجود هذه السوابق القضائية والمدونات ونشرها بتفاصيلها, وانطلاق عمل محاكم الاستئناف وتفعيل نظام القضاء بمواده ونصوصه حدّ من اضطراب أحكام المحاكم, وساهم في إرساء أسس العدل وذللّ صعاب القضاء ومشاكله, كما أنه أعان على تقارب الرأي إن لم يكن توحيده تجاه عدد من النزاعات التجارية والمالية, فليس أضّر بالعدالة مظهرًا أو جوهرًا من اختلاف معنى النص باختلاف من يقضي به! فاستقرار الأحكام واطرادها في مجال معين من شأنه أن يدعم نشوء قواعد نظامية يصعب على القاضي أن يتخطاها.
وكون عملي محاميًا لاحظت كيف يعاني الباحث والمتقاضي في السابق من أجل الحصول على حكم صادر من محكمة الاستئناف يعزز به موقفه أو يبني عليها رأيه ويناقش فيه مسألته , فاهتممت بهذا الجانب ولخصت مجموعة الأحكام التجارية في كتاب صدر حديثا (خلاصة المبادئ التجارية) بطريقة سهلة وتصنيف يسير, للتشجع على القراءة في هذا الفن والعلم ولتكون دليلاً سريعًا لمن يحتاج إليه, ولقد قرأت في غير مدوناتنا المحلية أيضًا، فوجدت في ذلك ما وجدت عندنا من جمال التفسير القضائي الذي يبين أهداف وروح النصوص وغايات المشرعين, راجيًا أن تجد هذه المدونات والتفسيرات القضائية الاهتمام اللائق, وأن تكون مصدرًا للتعمق, وبابًا للاجتهادات القانونية الغنية بالحكمة والتأمل والصواب .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً