مدى نظامية بعض أحكام اللائحة التنفيذية لنظام المحاماة
محمد عبد العزيز السنيدي
يخضع الكافة في سائر تصرفاتهم ومعاملاتهم للعديد من الأحكام التي ينتظمها تدرج قانوني هرمي يتبوأ النظام الأساسي للحكم رأس هذا التدرج تليه النظم، فاللوائح فالقرارات الفردية. ووفقاً لقواعد المشروعية وسيادة أحكام القانون يجب أن يسود التوافق جميع حلقات ذلك التدرج الهرمي, بمعنى أن القرارات الفردية يجب أن تلتزم أحكام اللوائح، وتلتزم اللوائح أحكام النظم ولا تخرج عليها، ويلتزم النظام أحكام النظام الأساسي للحكم، ومن نافلة القول في هذا الصدد أن قواعد وأحكام الشريعة الإسلامية هي المظلة التي تسود النظام القانوني بكامل حلقاته ومفرداته. ويعنينا في هذا الصدد بيان المدى الذي يجب أن تلتزمه اللوائح التنفيذية بأحكام النظام، وتطبيق ذلك على نظام المحاماة ولوائحه التنفيذية، وفي هذا نقول وبالله التوفيق: ثمة نوعان من اللوائح، نوع يطلق عليه اسم اللوائح التنفيذية ونوع آخر يسمى اللوائح التفويضية
. أما عن اللوائح التفويضية، فرغم كونها صادرة عن السلطة التنفيذية، إلا أنها تعادل النصوص النظامية في ذات الدرجة والقوة القانونية التي يحتلها النص النظامي في سلم التدرج الهرمي للأعمال القانونية، أما ما يرفعها إلى تلك المرتبة فهو التفويض الصادر من السلطة التنظيمية (المقام السامي), الذي يستدل عليه من خلال الصياغات القانونية لنصوص النظام، فعلى سبيل المثال، إذا تضمن نظام المحاماة نصاً يقول “وتحدد اللائحة التنفيذية شروط القيد في الجدول وشروط الاشتغال بالمهنة والواجبات التي يلتزمها المحامي … إلخ, فالمقصود بذلك أنه تفويض صادر من السلطة التنظيمية للسلطة التنفيذية بتحديد تلك الشروط والقيود والواجبات وتكون اللائحة الصادرة عنها في هذا المجال بمنزلة لائحة تفويضية ولو أطلقت عليها اسم اللائحة التنفيذية, إذ العبرة بصحيح المعاني وليس بالتراكيب اللفظية والمباني.
أما بالنسبة لما يتضمنه نظام المحاماة من النص على أن يصدر وزير العدل اللوائح التنفيذية لهذا النظام، فالمقصود بذلك هو اللوائح التنفيذية بمعناها القانوني الذي يقتصر على بيان كيفية تنفيذ ما أجملته نصوص النظام دون أن يتجاوز ذلك إلى وضع أي شروط أو قيود أو فرض أي واجبات لم يتضمنها النص المعني بالتنفيذ, وحسب السلطة التنفيذية في هذا الصدد ألاّ تُضمن اللائحة التنفيذية قيداً يحد من إطلاقها أو يخصص من عموم أحكامها أو يضيف إليها أو أن ينتقص منها، فإن فعلت كان ذلك تجاوزاً على حدود سلطاتها وخروجاً على صلاحياتها وافتئاتاً على إرادة المنظم ومسؤولياته, وتلك أصول راسخة باتت من المسلمات التي تتسامى عن الجدل في مجال رسم الحدود ووضع الفواصل بين سلطات الدولة القانونية.
وبتطبيق تلك الأصول العامة على ما تضمنه نظام المحاماة ولوائحه من أحكام، فقد استبان لنا ما يأتي: حددت المادة الثامنة من نظام المحاماة الشروط الواجب توافرها فيمن يزاول مهنة المحاماة فنصت على أن يكون اسمه مقيداً في الجدول المعد لهذا الغرض، ثم أوجب النص على كل من يرغب قيد اسمه ومزاولة المهنة أن يكون متوافراً فيه شروط ورد النص عليها على سبيل الحصر وحددها بستة شروط. ولم يترك للائحة التنفيذية أي مجال للإضافة أو الانتقاص من تلك الشروط وإلا لكان قد اختتم النص بعبارة “وغير ذلك مما تتضمنه اللائحة التنفيذية”, لكنه أمسك عن ذلك حتى لا يترك للسلطة التنفيذية مجالاً لإضافة أي شروط أو قيود لم يتضمنها النص النظامي في هذا المجال.
ورغم صراحة وقطعية ونهائية حكم المادة المشار إليها ومحدودية ما تضمنته من شروط وقيود إلا أن اللائحة التنفيذية الصادرة على المادة المشار إليها لم تلتزم حدود التنفيذ, بل تجاوزته إلى منطقة التنظيم دون نص يخولها ذلك التجاوز بأن أضافت إلى الشروط التي أتى بها المنظم للقيد في الجدول وممارسة المهنة شرطاً جديداً ورد النص عليه في الفقرة (أ) من تلك اللائحة يضع قيداً على الممارسة تقضي بعدم جواز الجمع بين مهنة المحاماة وأي عمل حكومي أو خاص. وبهذا النص أضافت اللائحة رغم كونها محض تنفيذية وليست تفويضية قيداً لم يجر به النظام ولم يصرح به المنظم في صورة تفويض بهذا المعنى وهو ما يعتبر خروجاً على حدود الولاية التنفيذية, ويزداد هذا الخروج سفوراً أنه في مجال تحديد حقوق المحامي وواجباته، أتى المنظم في هذا الصدد بنص عام تضمنته المادة الحادية عشرة بقولها: “على المحامي مزاولة مهنته وفقاً للأصول الشرعية والأنظمة المرعية والامتناع عن أي عمل يخل بكرامتها واحترامها للقواعد والتعليمات الصادرة في هذا الشأن” انتهى.
والواضح من ذلك النص أن المنظم وهو بصدد تنبيه المحامي بأن يعزف عن كل ما يخل بكرامة المهنة واحترامها لم يشأ أن يحرمه من ممارسة أي أعمال أخرى بجانب ممارسة مهنته, لكنه خصص ذلك المنع بالأعمال التي يكون من شأنها المساس بكرامة المهنة واحترامها القواعد المرعية.
وغنى عن البيان أنه ليس كل عمل خاص يمارسه المحامي إلى جانب المهنة من شأنه الإخلال حتماً بكرامة المهنة والاحترام الواجب توفيره لها، فإلى جانب مهنة وأعمال المحاماة يوجد الكثير من الأعمال الأخرى التي لا تخدش كرامة المهنة أو تحط من قدرها، وبالتالي فالتعميم هنا غير وارد بل يتعين النظر إلى كل حالة على حدة في هذا المجال إذ لو شاء المنظم غير ذلك لما أعوزه النص عليه صراحة لكنه أمسك عن التعميم واستعمل أسلوب التخصيص بأن أوجب في العمل الآخر ألا يكون من شأنه المساس بكرامة المهنة وبما يجب إيلاؤه لها من احترام، وبالتالي فإذا جاءت اللائحة التنفيذية بنص عام يقضي بحظر الجمع بين ممارسة مهنة المحاماة وبين أي عمل آخر فإنها تكون بذلك قد تجاوزت حدود التنفيذ وتمددت لتشمل ما لم تتجه إليه إرادة المنظم وأمسك عن التصريح به لعدم رغبته فيه.
حاصل ما تقدم أن الفقرة (أ) من اللائحة التنفيذية لنص المادة الثامنة من نظام المحاماة فيما نصت عليه من عدم جواز الجمع بين ممارسة مهنة المحاماة ومزاولة أي عمل آخر، قد تجاوزت حدود التنفيذ إلى سلطة التنظيم دون سند تفويضي يخولها ذلك التجاوز ما يصم عملها هذا بعيب عدم المشروعية النظامية.
ولهذا أهيب بمقام وزارة العدل أن تبادر إلى تنقية اللائحة التنفيذية لنظام المحاماة مما اعتراها من خروج على مقتضى الأصول والقواعد الواجب التزامها في هذا المجال, خاصة بالنسبة لما نصت عليه الفقرة (أ) من اللائحة التنفيذية للمادة الثامنة من نظام المحاماة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً