قراءة في فلسفة عقوبة الإعدام
كَثُرَت الكتابات وكَثٌرَالجدل حول موضوع عقوبة الإعدام وتطبيقاته في كثير من البلدان وأخيراً الحملة المُروّج لها حالياً لإلغائها من دساتير دول الشرق الأوسط وأفريقيا . من متابعة آراء المتجادلين أرى أنّ كلّ فريق مقتنع برأيه ولا يستمع إلى الآخر وكأننا في وليمة الطرشان .
إننا قبل إبداء الرأي في موضوع مهم كهذا علينا تحديد موقعنا من فلسفتي الحياة المتعارضتين ، فلسفة الفردية والإيغال في الإيمان بتطمين مصالح الفرد بغض النظر عن مَن يكون هذا الفرد ، وبين فلسفة التضامن الإجتماعي التي تفترض أن للمجتمع وحقوقه أفضليةٌ على مصالح الفرد ولغرض تطمين مصالح المجتمع لا ضير من التضحية ببعض حقوق الفرد التي تتعارض ومصلحة المجتمع .
ما أن حدد كلٌ منّا موقعه وإختار الفلسفة التي يراها تتناسب وتصوّراته في تطوّر المجتمع يكون قد حدد موقفه بأسلوب علمي غير إعتباطي أو عاطفي .
عبرالتاريخ مرّت البشرية في مراحل كانت الدول تبنى علىأساس السيطرة للقوي ، فملاّك العبيد كانت لهم مرحلتهم ، تلتها مرحلة الإقطاعيين وسراكيلهم مدعومين من رجال الدين حتى القرون الوسطى حيث كان المجتمع مُقسّما إلى طبقتين السادة النبلاء والرعية . ولمّا بدأت الحضارات في المدن تنمو بنمو البرجوازية التجارية والصناعية نمت معها طبقة العمال ، ولأوّل مرة في التأريخ بدأ الوعي يتكامل بأن للإنسان حق يطالب الحاكم بتطمينه ، وأخذ ت الشرائح الإجتماعية المضطهدة توحّد صفوفها في تجمعات أشبه ما تكون بالنقابات ومنظمات المجتمع المدني لتكون قوّة قادرة على فرض مطاليبها وسلخ جزء من حقوق السادة النبلاء لصالح طبقات الشعب المضطهدة ( الرعية كما كانت تسمى سابقاً ) ، فهكذا تولّدت مبادئ فلسفة التضامن الإجتماعي بإعتبارها خطوة تقدمية في مسيرة البشرية .
من جانب آخر كَثٌر الجدل والنقاش بين فلاسفة أصول القانون ومبادئه ومستلزماته وتفسيره ، وقد تمّ تركيز النقاش في ضرورة وجود العقوبة لفرض القانون من عدم ضرورته ، ورغم تعدد المدارس الفلسفية في هذا المجال سواء على المستوى العالمي أوالإسلامي بجميع مذاهبه وكذلك المستوى العربي فإن الإتفاق عامٌّ بضرورة وجود العقوبة لفرض القانون ، وقد ورد في قوله تعالى ( ولكم في القصاص جزاءٌ يا أولي الألباب ) صدق الله العظيم .
ليس المفترض أن يكون الغرض من العقوبة الإنتقام ، ويجب أن لا يكون كذلك . الغرض من العقوبة يجب أن يكون لغرضين أولهم تهذيب وتربية المسيء وردعه عن إعادة القيام بها وثانيهما ردع الآخرين من القيام بالعمل السيئ المذكور لتفادي العقوبة ذاتها . ومن هنا ولغرض تحقيق الغرضين المذكورين من فرض العقوبة يجب أن تكون العقوبة واضحة لا لبس فيها فلا تُطبّق بشكلين مختلفين على إثنين من المسيئين ، وأن يكون فرض العقوبة سريعاً حتى لا تضيع معالم الربط بينها وبين الإساءة ويجب أن تكون مرتبطة بوضوح بموضوع الإساءة . فجريمة تُرتكب في عام وتصدر عقوبتها بعد أعوام لا تحقق الغرض المفترض في فلسفة القانون .
تنفرد عقوبة الإعدام عن العقوبات الأخرى في كون الغرض منها إجتماعي فحسب ، الغرضُ منه ردعُ الآخرين من القيام بذلك العمل لتفادي العقوبة ، وأريدُ التأكيد ثانيةً أن العقوبة يجب أن لا تكون إنتقاماً حتى ولا شماتةً ، أو دعايةً سياسيةً لطرف سياسي على حساب طرف سياسي آخر.
في التأريخ ، وعلى مستوى الدول وحكامها ، أو الإرهاب والجريمة المنظمة وقادتها أو الأفراد المجرمين ثمّةَ من تسببوا في إشعال الحروب وقتل الآلاف من البشر وأدّت أفعالهم إلى الإضرار بالمجتمع أضراراً لا تُعوّض وفي إستمرارهم في الحياة يستمرّون في غَيّهم بالإكثار من سيئاتهم فإن كان لأمثال هؤلاءِ حقوق في ميزان حقوق الإنسان تُرى بأي ميزان تلغى حقوق ضحاياهم السابقين وكيف تحفظ حقوق الضحايا المحتملين المقبلين ؟ يذكر التأريخ هتلر الذي كان يطمح في السيطرة على العالم بإحتلال البلدان الواحدة تلو الأخرى وقد أدّى إستمراره في الحياة ضحايا تزيد على الستين مليوناً من البشر فكم كانت البشرية تكسب لو كانت هناك قوة تستطيع إعدامه في أول حرب أشعلها ، وكذا يمكن القول عن طاغية العراق الذي بلغت ضحايا الحروب التي أشعلها المليون أوتزيد .
بين البشر خلقٌ أضرُّ على الناس من الحيوانات الضارية ، فالوقاية من أضرارهم واجباتٌ إجتماعيةٌ تفرضها قيَمُ الحضارة البشرية وضرورات الحفاظ على ديمومة وتسارع التقدّم ، فالعقوبات متدرّجة وأقساها عقوبة الإعدام التي يجب أن لا تستخدم إلاّ لحماية المجتمع والحفاظ على حقوقه . وبين البشر أيضاً أبطالٌ شرفاء يضحّون بأرواحهم من أجل حماية المجتمع والحفاظ على حقوقه .
هل أن عبد الكريم قاسم قد أٌعدمَ فعلاً في يوم العاشر من شباط 1963 أم أنه بالفعل قد إنتحر يوم الثامن من شباط من تلك السنة ؟ نُقل عن عبد الكريم قاسم أنه رفض توزيع السلاح على الشعب يوم الثامن من شباط 1963 قوله أنه لا يريدُ أن تندلع حربٌ أهليةٌ في العراق وتسقط ضحايا كثيرة بسببه وهكذا ضحّى بنفسه لوقاية شعبه من أحداث كان يتصوّرها الأسوأ ، ولو أن ما حدث فيما بعد لم يكن أقل سوءاً . ولذلك فإنّ إنقلابيي الثامن من شباط عندما أنهوا حياة عبد الكريم قاسم بتلك السرعة فقد تداركوا الوضع ومنعوا إشتعال شرارة الحرب الأهلية ، بينما تساهل رجالنا الحاليون في حق الطاغية وفسحوا المجال لما يسمّى ( بالمقاومة الوطنية ) أن تقوى وتفرض نفسها كابوساً مخيفاً على قلوب أبناء الشعب ، ثمّ الإطالة المستفيضة غير المبررة في إجراءات محاكمته لأغراض دعائية سياسية ، كلّ ذلك كان على حساب مصلحة الشعب الذي قّدم خلال الأربع سنوات الماضية آلاف الضحايا البريئة والحبل على الجرّار. فإن كان إعدام الطاغية قد جرى في الساعات أو الأيام الأولى من الإطاحة بالنظام أو حتى في يوم إلقاء القبض عليه لما أصبح العراق الآن في هذه الحالة ولما كانت كلّ هذه التضحيات .
فلطالبي إلغاء عقوبة الإعدام أوجه سؤالي ( هل هناك ضماناتٌ أن لا يأتي مخلوقٌ آخر على صورة البشر ويمارس الأعمال التي قام بها أمثال هتلر وصدام حسين في واحدة من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ؟ ) وإن كان لمثل هذا المخلوق حقٌ من حقوق الإنسان ، فأين يصبح حق الإنسان نفسه.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً