قضايا الديون تنهك المحاكم وتعطل التاجر
تشكل قضايا القروض والمداينات بالمحاكم السعودية نسبة كبيرة وتتسبب كثرتها في تعطيل الأموال والجلسات وعرقلة مصالح الناس بالجهات العامة والخاصة، ومع ما للاستدانة من مصالح يحتاجها الناس في حياتهم اليومية وتعاملاتهم المستمرة في يومياتهم المدنية والتجارية من حصولهم على منافعهم العاجلة بعوض آجل بمبادلة تنفع الدائن والمدين يحصل منها تدوير المال وتحريك التاجر لبضاعته. كما أن الدين قد يدفع الدائن لبذل الجهد والحرص في مضاعفة جهد وزيادة عمله والعناية برزقه؛ هربًا من خطر الافلاس والعجز عن سداد ما يجب عليه. وأشكال الدين قد تنوعت وتغيرت عبر المداينات الشخصية والبيع بالتقسيط والبطاقات الائتمانية والضمانات البنكية التي قد تساعد المدين في تنظيم مدفوعاته ومصروفاته ومعرفة حالته الاقتصادية بشكل أكثر استقلالاً ووضوحًا.
كما أن من خيرات مداينة الناس تحصيل الثواب والأجر العظيم بالتعاون على البر والتقوى والتفريج عن المعسر وتفريج الكرب عن المحتاج لحين ميسرة. ومع كثرة المغريات في هذا الوقت وبروز مظاهر الفخر فصارت الكماليات ضروريات عند الفقير قبل الغني، تضاعفت حاجة الناس للمال ووفرته، وظهرت مع ذلك مفاسد الاستدانة ومثالب التوسع فيها وكثرتها بالمحاكم والشرط والحياة العامة على المدينين الذين لاكتهم الحياة فصدق فيهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف ” فأثرت على أخلاق الناس قبل اقتصادهم وقضائهم. فمكانة الديون في الشرع مهمة، وحبب إقراض الناس والتيسير عليهم، وحذرت النصوص الدينية والأنظمة الحديثة من مطل الديون وعدم الوفاء وشددت الشريعة على التوثيق والكتابة في آية كريمة رسمت معالم العلاقة (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم).
وقد لاحظ الباحثون أن الديون بما لها من منافع كما عرضت في الأعلى إلا أنها تسببت في تفضيل العاجل على الآجل وشجعت المدين على التوسع في الاستدانة من غير حاجة ملحة أو مصلحة حاضرة، كما انها أغرقت المحاكم والسجون بالمحكوم عليهم من المتعثرين والعاجزين, كما ساهمت الديون في غياب المسؤولية الذاتية والاتكال على القروض الشخصية من دون أن يشمر المدين عن ساعديه للعمل والبحث عن المال بجهده وكدّه، فيلجأ إلى الاستدانة كأسهل الطرق لتلبية حاجاته وأمنياته، حتى إذا أدركه الغرق وتكاثرت عليه الديون وحاصرته الدعاوي وضايقه الدائنون بحث عن حل صعب في مثل ظرفه حتى شاعت في المجتمعات الأجنبية جمعيات تكونت عبر مؤسسات المجتمع المدني متخصصة في مكافحة (الإدمان على الدين) وقد حان وقتها لدينا.
وللمماطلة في الديون أسباب كثيرة، منها ما يرجع لطبيعة الحياة المعاصرة وظروفها وتشعبها، ومنها ما يعود إلى الدائن ويتعلق بالمدين، ومنها ما يعود إلى الأنظمة القضائية وأساليب الترافع. ولكون المال أحد الضروريات الخمس الذي أمرت الشريعة بحفظها فلابد من دراسة هذه الظاهرة التي انهكت المحاكم والناس حيث أن الأرقام تشير إلى أن 80% من القضايا المنظورة في المحاكم هي قضايا القروض إما لمماطلين مليئين قادرين على الوفاء ولكنهم يستخفون بحقوق العباد وبهيبة القضاء أو لمماطلين معسرين عاجزين عن الوفاء وهؤلاء أعذر ولكن البحث عن تقنين إقراضهم أولى. حيث أن واقع العمل بالمحاكم العامة التي تستقبل مئات القضايا في اليوم لدعاوى الدائنين ضد المدينين للنظر في إثبات الدين وإلزامه بالسداد دون تجريم المدين الباذل أو معاقبته إلا المفرط فإن القاضي يعزره إن ظهر له ذلك ولا يسمع القضاء دعاوى الدين المؤجل في الغالب، أما المدين المعسر فإن المحاكم تسعى للتحقق من إعساره إما بحبسه، أو تتبع حاله ومخاطبة الجهات ذات العلاقة للبحث والتحري من صدق دعواه أو عدمها، وبإحضار الشهود وكل ما لديه من بيّنات فإذا ثبت للقاضي ذلك أطلق سراحه وحكم بإعساره وللدائن مطالبته متى ظهر له غناه, أما إن كان المدين غير معدم ولا معسر فإن القاضي ينظر في حاله في إن أحاطت الديون بأمواله أو أحاطت بممتلكاته فيحجر عليه ويحجز على أمواله، هذا في القضايا المدنية التي تنظرها المحاكم العامة أما القضايا ذات النزاعات التجارية التي ينظرها ( ديوان المظالم ) المحاكم التجارية فيحكمها نظام التسوية الواقية من الإفلاس وله أحكامه.
وإن كان واقع المحاكم يضج بالكثير من هذه القضايا وتعمل محاكم التنفيذ بنظامها الجديد الصادر في 13/08/1433هـ على الحد من آثار هذه الديون وإعادة قيمة التعاملات المالية لمكانتها وحفظ مقامها، إلا أن الأمور مازالت تحتاج إلى مزيد من الضبط و بذل الجهد المضاعف والبحث عن حلول قضائية وتشريعية مبتكرة إما بتعزير المماطل أو حرمانه من ماله تعزيرًا ليذوق وبال أمره، أو بتحميلهم تعويضا عن الضرر الناتج عن المماطلة في الديون سواء في الربح المحقق أو المفترض بسببه أو بغيره. كما أن البحث عن تطبيق الأنظمة ذات العلاقة بحفظ مقام الدائنين والتعاملات النقدية بالرجوع إلى نظام المرافعات الشرعية ونظام التنفيذ ونظام التسوية الواقية من الإفلاس والأنظمة المالية المختلفة ومراجعة المواد التي لم تفعل بالشكل الواجب والتأكيد على تطبيقها بات أمرًا مهمًا فأحيانًا تنتبه أن ما ينقصك ليس التشريع إنما التفعيل، وقانون ضعيف يطبق خير من قانون قوي لا يطبق. المشوح
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
فيصل المشوح
المحامي والمستشار القانوني
fisalam @
21 ديسمبر، 2019 at 5:53 م
احمد الملك اسم القضية