عقد التدريب والتأهيل.. (ونظرة في نظام العمل)
سعيد بن ناصر الحريسن*
نعلم أن هناك جوانب مهمة ترتبط بها مسيرة التنمية في أي مجتمع من المجتمعات المتقدمة والساعية إلى التقدم. ومن هذه الجوانب سوق العمل الذي يعتبر تقييم أداء أفراده ناقلاً ومؤشراً لما وصل إليه المجتمع في هذا الجانب من تطور. وتقييم أداء الأفراد أجده يعكس جانباً آخر وهو مدى اهتمام هذا السوق بتطوير وتدريب أفراده العاملين فيه.. إذ إن هذا الاهتمام نجده واضحاً في تلك المجمعات التي وصلت إلى مستويات متقدمة في أسواق أعمالها.. وليس هذا اهتمام بعض المجتمعات العالمية فحسب، ولكن اهتمام وهدف تسعى إليه منظمات العمل الإقليمية والدولية، وتسعى إلى عقد الندوات والدورات الساعية إلى التنمية البشرية، وتقدمه بعض الأحيان على الخبرة، نعم لأن الخبرة برأيهم – وهو لا جدال فيه – تكتسب عن طريق الممارسة، ولكن ما أجمل أن يشاطر هذه الخبرة أصول علمية مهنية، تكون بمثابة حجر الأساس لهذه الخبرة.
ولا ينكر أحد مدى احتياج كل فرد في المجتمعات الحديثة إلى تطوير أدائه وتطوير معارفه، حتى في جانب أبسط الأشياء وهو استخدام الحاسب الآلي الشخصي، فهذا في حد ذاته تدريب وتأهيل، وإن تلون بصبغة تطوير المهارات الشخصية. ولكن هنا لا أتحدث عن دورات التطوير لتلك المهارات، والمنتشرة على نطاق واسع، ولكن أتناول جانباً مهماً وهو (عقد التدريب والتأهيل) المهني والتزامات الأطراف فيه وفق نظام العمل السعودي، الذي صدرت لائحته منذ أيام قريبة.
وبداية من المناسب جداً أن نورد تعريف عقد التدريب والتأهيل والذي يسمى في بعض القوانين (عقد التمرين) أو (عقد التدرج والتلمذة الصناعية – كما أسماه نظام العمل القديم). فقد عرفت هذا العقد المادة (45) من نظام العمل السعودي الجديد الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/ 51وتأريخ 1426/8/23ه. بأنه (عقد يلتزم بمقتضاه صاحب العمل بتأهيل أو تدريب شخص لإعداده في مهنة معينة). وهناك من عرفه بأنه (اتفاق بين طرفين أولهما صاحب العمل، سواء أكان صاحب عمل أو معهد تدريب أو مركزاً من المراكز المهنية، وثانيهما المتدرب، وبمقتضى هذا الاتفاق يتولى أطرف الأول إعداد الطرف الثاني إعداداً مهنياً تاماً خلال مدة معينة، وبشروط معينة.
وعند استعراضنا لفكرة من قال بأنه اتفاق، ألفيته موجباً بأن أتجه لبيان الآراء الفقهية القانونية في مسألة تكييف عقد التدريب، هل هو عقد عمل، أو عقد له طبيعة خاصة، أو عقد مختلط مكون من عنصرين هما العمل والتدريب.
فالاتجاه القائل: بأنه عقد عمل نظر إلى تحقق عنصر التبعية بغض النظر عن الهدف الأساسي من العقد وهو التدريب والتأهيل. وأما الاتجاه القائل: بأنه عقد مختلط من الواضح أنه راعى الجانبين، جانب العمل وجانب التدريب. وأما الاتجاه الأخير، وهو القائل: بأنه ذي طبيعة خاصة، نظر إلى الغرض الأساسي من هذا العقد وهو التدريب. فبعض القوانين لكي تخرج من هذه الآراء التكييفية لطبيعة العقد نجدها تعرف هذا النوع من العقود (اتفاقاً) وهنا نستطيع أن نقول إنه ينبغي لنا أخذها بالتكييف الأخير.
وقد أخذ نظام العمل السعودي بهذا التكييف أيضاً، ولم يمانع من تسميته عقداً، بل وطبق عليه أحكام نظام العمل كما جاء في المادة (5) من النظام في الفقرة (7) حيث قال (تسري أحكام هذا النظام على: عقود التأهيل والتدريب مع غير العاملين لدى صاحب العمل في حدود الأحكام الخاصة المنصوص عليها في هذا النظام ).
ونجد بعض القوانين العمل تضيف إلى هذه العقود جانباً متقدماً وهو (التوجيه المهني) فجاءت المادة (131) من قانون العمل المصري، بتقرير هذا الجانب، وعرفة هذه العبارة (بأنها مساعدة الفرد في اختيار المهنة أو المسار المهني الأكثر تلاؤماً مع قدراته واستعداده وميوله في ضوء الدراسات المستمرة لسوق العمل والمهن المطلوبة ومقوماتها). فتحديد المجال المراد تغذيته بالأفراد في سوق العمل (مسألة مهمة جداً) بحيث لا يكون التدريب في مجال من المجالات المهنية وإدراج أعداد كبيرة من المتدربين فيه، إلا بعد دراسة لحاجة السوق، كفيلاً بإيجاد توازن مهني في سوق العمل بين المواطنين (إن صحت الفكرة). وقد تناولتها اللائحة التنفيذية لنظام العمل والتي صدرت بتأريخ 5/4/1428ه حيث جاء في الفقرة (2) من المادة (1) حيث جاء فيها (يقوم المختص.. وتقديم النصح والمشورة له في ما يتعلق بعملية التوظيف أو التأهيل والتدريب المهني اللازم للحصول على الوظيفة المناسبة، واطلاعه على ما يلزم من معلومات عن الوظائف الشاغرة المناسبة أو فرص التدريب المتاحة وتدوين نتيجة ذلك في الطلب). كذلك عندما أوردت اللائحة مهام مكاتب التوظيف الأهلية في مادتها (6) عالجت مسألة التوجيه المهني لمن يحتاج إلى التدريب للحصول على الوظائف المناسبة.
وقد قسم النظام التدريب والتأهيل المهني إلى قسمين، الأول: التدريب والتأهيل للعاملين لدى صاحب العمل. والآخر: عقد التأهيل والتدريب مع غير العاملين لدى صاحب العمل.
وقد تناول النظام القسم الأول في مواده (42إلى 44) والتي نلمس فيها اعتبار التدريب والتأهيل أحد أهم الالتزامات على صاحب العمل تجاه العاملين لديه، هدف النظام في ذلك تحسين أداء ومستويات العمال السعوديين في الأعمال الفنية والإدارية، ولرفع مهاراتهم الإنتاجية، ولإحلالهم تباعاً في الوظائف التي يقوم بها غير السعوديين لدى صاحب العمل. ووضع الأطر الزمنية للوظائف التي يشغلها غير السعوديين، ليتمكن من توفير البرامج والدورات التدريبية لإعداد العاملين السعوديين لهذه الوظائف، وهذا ما نصت عليه الفقرة (4) من المادة (18) من اللائحة.
و أما القسم الآخر، عقد التأهيل والتدريب مع غير العاملين، فقد تناوله النظام في خمس مواد بداية من مادته (45) والتي نظم من خلالها وقعد أسساً مهمة لا بد أن تشتمل عليها عقود التدريب المهني، فجاء في المادة (46) ما نستطيع أن نسميه (تجاوزاً) شروط شكلية وموضوعية لعقد التدريب، فنصت على أنه (يجب أن يكون عقد التأهيل أو التدريب مكتوباً، وأن يحدد فيه نوع المهنة المتعاقد للتدريب عليها، ومدة التدريب ومراحله المتتابعة، ومقدار المكافأة التي تعطى للمتدرب في كل مرحلة، على ألا يكون تحديدها بحال من الأحوال على أساس القطعة أو الإنتاج). وهنا يظهر لنا مرة أخرى ملامح الرأي التكييفي لطبيعة عقد التدريب الذي أخذ به نظام العمل السعودي، وبحسب رأيي أن هذا التقسيم أيضاً بني على هذا التكييف، حيث لم يذكر المنظم في القسم الأول (كلمة العقد) في دلالة منه على اعتباره التزاماً من صاحب العمل تجاه العامل، بينما ذكر تلك الكلمة (العقد) في القسم الذي يليه، ليظهر لنا أنه يعتبر أعمال التدريب لغير العامل لدى صاحب العمل، عقداً تدريبياً، سارية عليه أحكام هذا النظام، فنصت المادة (49) على (تسري على عقد التأهيل والتدريب الأحكام الواردة في هذا النظام، الخاصة بالإجازات السنوية والعطلات الرسمية، والحد الأقصى لساعات العمل، وفترات الراحة اليومية والراحة الأسبوعية، وقواعد السلامة والصحة المهنية، وإصابات العمل وشروطها، وما يقرره الوزير) وعقد التدريب المهني كأي عقد لا بد أن نجد فيه مجموعة من الالتزامات التي تكون على جانبيه، فأما التزامات المتدرب في هذا العقد، فلم ألاحظ إلا أن النظام ألزمه بشيء واحد ألمح له إلماحاً من خلال المادة (48) وهي الجدية والقابلية للتدريب، وهي كلمات تشير إلى ما حوته المادة (65) من نظام العمل القديم (على العامل المتدرج أن يتقيد بتعليمات وإرشادات معلمه باحترام وأدب، وأن يتعاون معه، وأن يعاونه في حدود طاقته وقدرته). ولكن قد يرتب هذا العقد على المتدرب (التزاماً مالياً) إذا افترضنا أن عقد التدريب مع مركز تدريبي خاص، فيكون التزامه معروفاً بداهة وهو (الالتزام بدفع رسوم التدريب).
و أما التزامات صاحب العمل، أو منشأة التدريب المهني، فمن أولى التزاماتها تدريب هذا الشخص لإعداده إعداداً مناسباً في مهنة معينة، وهو ما قضت به المادة (45) التي تقدم بيانها. كذلك من ضمن التزاماته، صرف مكافأة للمتدرب في كل مرحلة من مراحل التدريب، على ألا يكون تحديدها بحال من الأحوال على أساس القطعة أو الإنتاج.
وهنا تساؤل هل يلتزم صاحب العمل أو المنشأة التدريبية بتوفير فرصة وظيفية للمتدرب بعد إنهائه التدريب؟ لم يعالج المنظم السعودي هذه المسألة إلا من خلال نقطة واحدة وهي ما ذكرت في المادة (48) من النظام. حيث جعلها جوازية لصاحب العمل (يجوز لصاحب العمل أن يلزم المتدرب بأن يعمل لديه بعد انقضاء مدة التدريب، مدة لا تزيد على ضعف هذه المدة أو سنة أيهما أطول) فلم يلزم النظام صاحب العمل أو المنشأة التدريبية بشيء في هذه المسألة، إلا إذا تضمنه عقد التدريب، فحينها يكون بنداً متفقاً عليه بينهما يلتزمان به.
وفيما يتعلق بفسخ عقد التدريب، فعقد التدريب من العقود الملزمة للجانبين، فهو يرتب التزامات متقابلة على طرفيه، فمتى أخل أحدهما بالتزامه، كان للطرف الآخر المطالبة بفسخ العقد كجزاء جراء ذلك، ولابد أن نلاحظ أن هناك فرقاً بين الفسخ والإنهاء، فالفسخ يكون جراء إخلال بأداء التزام عقدي، والإنهاء ليس فيه معنى الجزاء.
إذاً فيجوز لصاحب العمل أو المنشأة التدريبية إنهاء عقد التدريب، إذا أخل المتدرب بأحد الالتزامات المفروضة عليه، أو وجد منه عدم القابلية للتدريب أو إكمال برنامج التدريب بصورة مفيدة، كما أن الحق في ذلك للمتدرب أو وليه أو وصية وإن لم يوجد إخلال بأحد الالتزامات في العقد، وقد عالجت المادة (48) هذه النقطة فجاء فيها (لصاحب العمل أن ينهي عقد التأهيل أو التدريب إذا لمس من المتدرب عدم قابليته أو قدرته على إكمال برامج التدريب بصورة مفيدة، وللمتدرب أو وليه أو وصيه مثل هذا الحق. وعلى الطرف الذي يرغب في إنهاء العقد إبلاغ الطرف الآخر بذلك قبل أسبوع على الأقل من تاريخ التوقف عن التدريب).
ودائماً ما يناقش في عقود العمل مسألة (مسؤولية صاحب العمل عن العامل)، فعقد التدرب وإن كنا نقول إنه ليس عقد عمل، إلا أننا نطبق عليه الأحكام التي تطبق على عقد العمل، فيكون المتدرب بذلك تابعاً لصاحب العمل أو المنشأة التدريبية، وهذا الأخير مسؤول عنه مسؤولية المتبوع عن تابعيه، فجميع الأعمال التي تقع من المتدرب أثناء تأديته لأعمال التدريب، ويترتب عليها ضرر، يكون صاحب العمل مسؤولا عنها، وهذا مما تحدث عنه النظام في مادته (126) حيث جاء فيها (صاحب العمل مسؤول عن الطوارئ والحوادث التي يصاب بها أشخاص آخرون غير عماله، ممن يدخلون أماكن العمل بحكم الوظيفة، أو بموافقة صاحب العمل أو وكلائه، إذا كانت بسبب إهمال اتخاذ الاحتياطات الفنية التي يتطلبها نوع عمله. وعليه أن يعوضهم عما يصيبهم من عطل وضرر حسب الأنظمة العامة). حتى ولو لم يتناول النظام هذه النقطة (مع أهميتها) لكان تطبيق (قاعدة مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه) كفيلة بإيجاد جانب معالجة قانونية لهذه المسألة، والتي هي في الأساس (روح المادة). ثم إن هذه المسؤولية لا تتحقق إلا إذا وجد شرطان: أحدهما علاقة التبعية، والتي تظهر واضحة هنا من خلال عقد التدريب، الذي من أهم بنوده تقويم الذات، وتقويم المهارات العملية، فتحقق عنصران مهمان هما (السلطة الفعلية، وعنصر الرقابة والتوجيه). وثانيهما أن يكون هذا الخطأ المرتب للضرر قد وقع أثناء تأدية التابع العمل لدى المتبوع.
وهناك جانب مهم جداً في ناحية التدريب والتأهيل، يقوم على أساس من التكافل الاجتماعي، ودور مشاركة من قبل القطاع الخاص في هذا الجانب، وذلك من خلال إعداد المراكز التأهيلية، التي تعنى بتدريب فئات معينة من المجتمع في مجالات شتى؛ لإعدادهم أشخاصاً فاعلين مساهمين بحسب دورهم في التنمية، واخراطهم في مجالات الأعمال في المجتمع بعد أن كانوا على هامش صفحاته (لا تعطني السمكة ولكن علمني كيف اصطادها).
وما أجمل أن نقول: إن هذه المشاريع التكافلية قد وجدت في مجتمعنا.
لا يفوتني أن أذكر عناية اللائحة التنفيذية بقضية التدريب والتأهيل، فقد عالجت ذلك في معظم موادها، في إشارة منها – أحسب ذلك – إلى أهمية التدريب والتأهيل في الوقت الحاضر، وأنه أساس لسوق العمل الناجح، وأن الخبرات ليست كل شيء، فلا بد أن تعضدها أسس علمية.
*مستشار قانوني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً