قراءة في نظام شركات التمويل العقاري السعودي .
ما هو حجر الأساس في “حوكمة” شركات التمويل العقاري؟
د. يحيى الجدران
محامي و باحث في الدراسات القانونية
يسألني كثيرون عن معنى الحوكمة، وعندما كنت أنتَهِجُ منهجَ الردِّ على السؤال بمثلهِ، فأقول للسائل: ماذا تعتقد أنت أنَّ الحوكمة تكون؟، فكانت الإجابات مرتبكةً تائهةً وكأنَّني كنت أسألُ عن معنى مصطلحٍ لا يمتُّ للُّغة العربيَّة بصلةٍ، أو أنَّ الأمرَ مرتبطٌ بفكرٍ فلسفيٍّ غايةٌ في التعقيد.
إلاَّ أنَّ الأمرَ في الحقيقة ليس بهذا ولا ذاك؛ فـ: “الحوكمة” “Governance” مُصطلحٌ مُشتقٌّ من معنى التوجيه الرشيد، على وزن “فَوْعَلَة” تماماً مثل “الحَوْسَبَة”؛ وقد اعتمد مَجْمَع اللُّغة العربيَّة في القاهرة هذا المصطلح رسميَّاً في عام 2002، حتى ينتمي إلى لغة الضاد، وقد أكَّدت رؤية المملكة 2030 على أنَّه: “… سنستفيد من أفضل الممارسات العالميَّة لتحقيق أعلى مستويات الشفافية والحوكمة الرشيدة في جميع القطاعات” (الرؤية، صـ60).
ولكن مفهوم الحوكمة المُتعلِّق بالاقتصاد يأخذُ معنىً خاصَّاً أكثر تخصُّصاً تحت مصطلح: “حوكمة الشركات” “Corporate Governance”، ليس من حيث الماهيَّة الأساسيَّة فهي واحدةٌ بشأن الإدارة الرشيدة، بل من حيث الهدف وهو الانتقال من الصالح العام في حوكمة مرافق الدولة إلى الكفاءة التجاريَّة الكاملة ذات الأخلاق المهنيَّة بالنسبة لمشاريع الأعمال، وبشكل خاص شركات المساهَمَة العامَّة.
فهذا النوع من الشركات تتمُّ إدارته من مجلس إدارةٍ مُنتَخَبٍ من جمعيَّةٍ عامَّةٍ تضمُّ كافَّة المساهمين في الشركة، ويكون عبء الإدارة التفصيليَّة على إدارةٍ تنفيذيَّةٍ ولجانِ مراجعةٍ ومحاسبةٍ بما يكفل تسيير الشركة ضمن إطار الأنظمة العامَّة من جهة وأنظمة الشركة الداخليَّة من جهةٍ أخرى.
وأكثر ما يُواجِه المملكة من تحدِّيات هو وجود عددٍ هائلٍ من الشركات العائليَّة التي تخشى التحوُّل من الشكل التقليدي المُنْغَلِق على عددٍ محدودٍ ومعروفٍ من الشركاء إلى الشكل المساهم المفتوح حتى وإن جلب هذا التحوُّل معه رؤوس أموالٍ وفيرةٍ، والسبب هو عدم الثقة التامَّة من مالكي الشركة في الإدارة من جهة، والخوف من قيام شركاءَ جدد بمحاولة السيطرة على إدارة الشركة دون وجود انتماءٍ صادقٍ لمصلحتها من جهة أخرى؛ أي ببساطة الخوف من انعدام الحوكمة في الشركة.
ومفتاح هذه الإشكاليَّة هو ترسيخ مفهوم الحوكمة في إدارة الشركات بالشكل التنظيمي من المملكة، ثم شيئاً فشيئاً سيأخذ الشكل العُرفِي المُلْزِم دون حاجةٍ لرقابةٍ صارمةٍ.
فبغضِّ النظر عن عوامل انتشار ثقافة الحوكمة في المجتمع، فإنَّ السر في تطبيقها التلقائي هو أنَّ نتيجة الحوكمة ستَنقَلِبُ إيجاباً على كادر الشركة بشكل ملموس على أرض الواقع، وذلك عبر توزيع المكافآت المرتبطة بالأداء والترقيات إلى درجةٍ تتجاوز مكاسب الفساد غير المشروعة التي ستنتهي بالمحاسبة الفوريَّة وفق منهج الحوكمة عبر معاقبة الشخص الإداري مسلكيَّاً وقضائيَّاً، وإن أفلت من العقاب فيمكن أن تنهار الشركة ويخسر هذا الشخص وظيفته.
ولكن هذه الرؤية العامَّة تحتاج إلى شيءٍ من التعمُّق والتخصُّص عند الحديث عن “شركات التمويل العقاري”؛ حيث إنَّ تطبيق الحوكمة فيها يحتاج إلى تطبيق معايير الإدارة المُنضَبِطَة والأخلاقيَّات المهنيَّة، وذلك بشكلٍ خاصٍّ فيما يتعلَّق بحوكمة عمليَّة: “منح التمويل”.
فشركة التمويل العقاري هي في النهاية جهةٌ تمنح السيولة للراغبين في شراء العقارات؛ أي أنَّها جهةٌ تُقدِّم التمويل في مقابل مجموعةٍ من الضمانات التي تكفل نجاح عمليَّة التمويل تلك عبر حصول العميل على ملكيَّة العقار، واسترداد شركة التمويل للمبلغ المُموَّل، إلى جانب تحصيلها للربح الذي سيكفل استمراريَّتها.
وبالتالي فإنَّ ضبط عمليَّة منح التمويل هي حجر الأساس في حوكمة شركات التمويل العقاري؛ خاصَّةً أنَّ التمويل قد يستند على مجموعة من الضمانات العقاريَّة الأخرى، وهذا ما يعني أنَّ أيَّ خطأٍ أو فسادٍ في تقييم قيمة العقار قبل منح التمويل سيعني تشكيل تأثيرٍ عميقٍ في توازن احتياطيَّات الشركة.
فقد تنتشر حالات منح التمويل بشكلٍ متساهلٍ مع أيِّ شخصٍ على علاقة مع الرؤساء الإدارييِّن داخل الشركة أو حتى منحه لأعضاء مجلس الإدارة أنفسهم، كما أجازت المادة 73-2 من نظام الشركات لعام 1439 هـ، وهو الأمر الذي –في حال استشراء انتشاره- سيؤثِّر بالسلب على القطاع العقاري في المملكة ككل؛ لأنَّ فشل عمليَّات التمويل بالقيم العقاريَّة التي تتميَّز بالضخامة، سيؤدِّي إلى إصابة العرض والطلب في هذا القطاع بالجمود.
حيث إنَّ شركة التمويل العقاري تمنح تمويلاً لشراء سلعةٍ ذات قيمةٍ كبيرةٍ، والشركة تبعاً لذلك يمكن أن تُفلِسَ بسبب فشل عددٍ قليلٍ من عمليَّات التمويل، على خلاف شركات التمويل الأخرى التي يمكنها امتصاص عديدٍ من العمليَّات الفاشلة نظراً لصغر حجم العروض التمويليَّة مقارنةً مع رأس مالها واحتياطيَّاتها ومتانة مركزها المالي.
ولذلك، فإنَّ محاباة أعضاء مجلس إدارة شركة التمويل ورؤسائها أو أقاربهم في الحصول على التمويل العقاري هي الصورة الأكثر طَعناً في مستوى حوكمة شركة التمويل العقاري.
ولا يكفي لمواجهة هذه الظاهرة إصدار مؤسسة النقد لأنظمةٍ تضبطُ تعاملات الأطراف ذوي العلاقة هؤلاء بالشركة في تعاملاتهم مع خدمات الشركة أو أن تحدَّ منها، بل يجب أن يكون تطبيق مثل هذه الأنظمة نابعٌ من إحساسٍ عالٍ بالمسؤوليَّة، ومن إدراكٍ واسعِ النظر لنتائج فشل عمليَّات التمويل العقاري على استمرار الشركة.
أي أنَّ ما يجب أن يترسَّخ في الشركاء هو نيَّة المشاركة لديهم وليس التربُّح أو استغلال رأس مال الشركة، وهذا الأمر سيؤدِّي إلى وجود رادعٍ ذاتيٍّ لدى الشركة، وضميرٍ جَمعيٍّ يقظٍ لدى إدارتها.
وبناءً عليه، فإنَّ مقدرة شركة التمويل في القطاع العقاري على استقراء الملاءة الماليَّة للعميل ثم استنتاج مدى جدارته الائتمانيَّة بالنظر إلى الضمانات التي يُقدِّمها وبغضِّ النظر عن علاقاته العليا مع إدارة الشركة هي كلمة الفصل في الصعود على درجات معايير حوكمة التمويل العقاري.
فإذا لمست مؤسَّسة النقد عدم انتشار ثقافة الحوكمة بالكيفيَّة المذكورة، فأرى ضرورة إقرارها لوقف منح الأطراف ذوي العلاقة في شركة التمويل العقاري لأيَّة عروض تمويل تحت طائلة بطلان عقد التمويل إلى حين الاطمئنان على انتشار تطبيق أخلاقيَّات حوكمة الشركات بشكلٍ تلقائيٍّ نابعٍ من إدراك مصلحة الشركة وتفضيلها على المصالح الشخصيَّة، وإنَّ غداً لناظرهِ قريبٌ..
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً