جرائم مخفية
القاضي إياد محسن ضمد
الإحصائيات التي تقدم في أي مجال من مجالات الحياة مهمة لتقصي حقيقة أي ظاهرة واستخلاص أسبابها ونتائجها ومن ثم رسم السياسات وإصدار القرارات الكفيلة بمعالجتها.
في الجانب الأمني فان وظيفة الإحصاء هو رصد الجرائم المرتكبة من حيث نوعها وعددها والمناطق الجغرافية التي تتركز فيها ومن ثم رسم السياسة الجنائية والأمنية لتعقب مرتكبي الجرائم ومعاقبتهم والحد من حالات الاعتداء على امن المجتمع,
لكن السؤال الذي أجد من المناسب إثارته هو: هل ان الاحصائيات التي تقدمها الجهات الامنية الخاصة بالجرائم المرتكبة هي احصائيات مطابقة لما يرتكب في ارض الواقع من جرائم حتى تكون هذه الاحصائيات معيارا بيانيا مناسبا لرسم السياستين الجنائية والامنية؟
بالتأكيد لا، لأن ما تقدمه أجهزة الدولة من احصائيات تمثل ما تم تسجيله لديها فعليا من إخبارات عن الجرائم وما تم اكتشافه من قبلها وبالتأكيد فان هناك عددا كبيرا جدا من الجرائم التي تحصل واقعا لم يتم الابلاغ عنها ولم تدخل في السجلات الرسمية للأجهزة الأمنية وبالتالي ستكون السياسات الجنائية والأمنية قاصرة عن مراعاتها ووضع الحلول لها .
وبهذا الصدد فقد وضع الفقيه سيلين معيارين للقول ان الجريمة ممكن ان تندرج في السجلات الجنائية والأمنية الأول يتمثل بقابلية الجريمة على المشاهدة والثاني هو تخليف الجريمة لضحايا مباشرين وحين يتوافر هذان المعياران تكون للجريمة حظوظ وافرة في ان تندرج في السجلات الإحصائية غير ان هذين المعيارين يرتبطان بنوع الجريمة وظروف ارتكابها .
فالقتل جريمة قابلة للمشاهدة الا ان جريمة الرشوة ليست كذلك فالراشي والمرتشي يسعيان الى ارتكاب الجريمة خلسة وجريمة السرقة تترك ضحية معلومة ومحددة الا ان جريمة هدر المال العام ليست كذلك لان الضحية سيكون عموم المجتمع او المؤسسة التي وقع الهدر ضمن أعمالها كذلك فان هناك جرائم بطبيعتها تتسم بخاصية الكتمان والتستر كالإجهاض والخيانة الزوجية وهي ما تسمى بالجرائم الخفية وهناك جرائم لا تدخل في السجلات الرسمية بسبب احجام الضحية عن الابلاغ عنها اما لانه مستفيد من ارتكابها كجرائم الاجهاض او اتقاء للعار كجرائم الاغتصاب ومثل هذه الجرائم ورغم انها وقعت الا انها لم تضمن في الاحصائيات الرسمية.
وفي هذا السياق فان هناك من يصنف الظاهرة الاجرامية إلى ثلاثة أصناف:
اولها اجرام ظاهر وهو ما تشتمل عليه سجلات الاجهزة الامنية من جرائم وثانيها الإجرام القانوني ويشمل الجرائم التي صدرت فيها احكام بالتجريم والإدانة وهو ما تشتمل عليه سجلات المحاكم وثالثها الاجرام الحقيقي وهو حقيقة ما يرتكب من جرائم سواء سجلت في سجلات الاجهزة الامنية ام لم تسجل وهنا يظهر ان الاحصائيات الرسمية للجرائم تتضمن اما ما يتم الإبلاغ عنه او التي يصدر بها احكام وليس الاجرام الفعلي والفارق بين الاجرام المسجل رسميا وغير المسجل يسمى الرقم الاسود والذي لا يدخل في الإحصائيات ولا يكون له نصيب ولا يدخل في حسابات واضعي السياسات الأمنية والجنائية التي توضع استنادا للإحصائيات الرسمية .
وبناء على ذلك فان مثل هذه الاحصائيات تبقى نسبية ولا يمكن الركون اليها مطلقا في قياس الظاهرة الإجرامية ومعرفة مؤشراتها ومعدلاتها ويجب ان لا تستند اليها السياسات الأمنية والجنائية بصورة مطلقة وان يتم الاعتماد في قياس الظاهرة الإجرامية من حيث النوع والتمركز على معطيات وباستخدام اساليب اخرى كالمسح الميداني من خلال باحثين مختصين وكذلك تقارير الرأي العام واتجاهاته من خلال ما ينشر في وسائل الاعلام وبرامج التلفزيون عن الوضع الامني في منطقة معينة وهنا نكون ازاء اساليب متنوعة يمكن من خلالها قياس الظاهرة الجرمية ومعرفتها اضافة الى الاحصائيات الرسمية لهذه الظاهرة.
اترك تعليقاً