تطرح في مجال الشركات متعددة الجنسية مشاكل منازعات العمل خاصة تلك التي تمارس نشاطها عن طريق وحداتها الفرعية في الدول المضيفة. وتكون هذه الوحدات الفرعية حيث تمارس نشاطها في دول متعددة، وبطبيعة الحال تكون محكومة بتشريعات وطنية مختلفة، وعليه يجب أن نبحث عن مدى ملاءمة ضوابط الإسناد التقليدية لمعرفة القانون الواجب التطبيق في الحالة التي نحن بصدد دراستها بشأن علاقة عمل الشركة المتعددة الجنسية مع العاملين فيها. وعلى هدى ضوابط الإسناد المتعارف عليها(1). نبحث عن العناصر المميزة لعلاقة العمل بالاستناد إلى نظرية التركيز(2). لبيان ما يصلح منها أساسا لتركيز العلاقة أي تحديد العنصر الذي يمثل مركز الثقل في العلاقة بحيث يمكن رد علاقة العمل إلى مقرها الصحيح . وهذا الأمر أثار جدلاً فقهياً و قضائياً إذ أشار الفقه إلى عدة حلول لفض مشكلة تنازع القوانين في مسائل العمل اتجه البعض إلى تطبيق قانون بلد الإبرام باعتبار انه يعد أعمالاً لإرادة أطراف في تحديد القانون الذي يحكم العلاقة(3).
واتجه البعض الآخر من شراح القانون الدولي الخاص في فرنسا إلى تطبيق قانون الجنسية المشتركة للمتعاقدين في حالة اشتراكهما في الجنسية(4). ويفضل موقف ثالث من الشراح بتطبيق قانون مقر الشركة أي مركز إدارة الأعمال. وهذا الاتجاه معمول به بصورة خاصة لدى فقه القانون الدولي الخاص الألماني(5). وهو الجانب التقليدي والاتجاه الأخير الذي انتهت اليه محكمة النقض(6). المصرية حول قضية بين الطيار الأمريكي وشركة الخطوط الجوية العالمية وهي شخص معنوي. اذ أخضعت لقانون مركز الأعمال الكائن في الولايات المتحدة الأميركية. أما اتجاه الفقه الفرنسي المعاصر فهو تطبيق قانون دولة التنفيذ الذي هو تعبير عن إرادة المتعاقدين ولو تعلق الأمر بالجانب التنظيمي للعقد وذلك صيانة لوحدة العقد(7).
أما الحال في القانون المصري فهو خلو التشريع المصري من إيجاد نص خاص بشأن مسائل العمل أي خلوه من قاعدة إسناد مزدوجة تشير إلى اختصاص هذا القانون أي تطبيق القضاء للقواعد الآمرة السائدة في قانون الدولة الأجنبية التي تنفذ فيها العقد. وهذا الأمر ينطبق بالنسبة الى التشريع المدني العراقي، ومن ثم قصور المادة رقم 19/1 مدني مصري والتي تقابل المادة (25) من قانوننا المدني العراقي والخاصة بالالتزامات التعاقدية بوجه عام، من مواجهة الطبيعة المميزة لمسائل العمل. أما وضع الحكم والذي انتهت إليه محكمة النقض المصرية فلا بد من إدراك انه وضع قاعدة إسناد مزدوجة بشأن علاقة العمل أي إن قانون مركز الإدارة الرئيس والذي يخالف اتجاه فقه القانون الدولي الخاص المعاصر الذي أكد على إخضاع مسائل العمل إلى قانون دولة التنفيذ(8). بمعنى إن المحكمة في ظل خلو التشريع من إيجاد حل اتجهت نحو الاجتهاد عملاً بالمادة (24) مدني مصري التي تقابل المادة (30) في قانوننا المدني العراقي والتي تنص على ان “ يتبع فيما لم يورد في شأنه نص في المواد السابقة من أحوال تنازع القوانين مبادئ القانون الدولي الخاص الأكثر شيوعاً ” .
وعليه فانه في إطار الشركات المتعددة الجنسية يجب التفرقة بين الشركات الوليدة والفروع، فالشركة الوليدة تكون لها شخصية معنوية مستقلة وجنسيتها من جنسية الدولة التي تتكون فيها، أما الفرع فأنه امتدادً للشركة الام(9). وليس له جنسية الدولة التي يمارس فيها نشاطه، على خلاف الشركة الوليدة التي تكسب جنسية تلك الدولة(10). وعلى الرغم من الاتجاه في الفقه التقليدي فالقضاء يتجه نحو تجاوز نتائج ازدواج الشخصية المعنوية حول الشركة الوليدة و الشركة ألام، ويتجه نحو التخلي عن استقلال الشركة ألام عن الشركة الوليدة، وعليه فأن الفقيه Depax (11). يشير إلى انه إذا كان لدينا شركة تتضمن عدة شركات وليدة، فالمركز الرئيس لا يمكن إن يعتبر إلا الشركة ألام التي تظل محتفظة بالسيطرة و القبض والإشراف. وبالنسبة للعاملين في وحدة الشركة ألام التي أبرمت عقد العمل، فأن القانون الواجب التطبيق هو إتباع قواعد القانون الدولي الخاص بتلك الدولة على الرغم من خلو التشريعات من نص يعالج الأمر، وخاصة في تشريعنا العراقي. ومن الناحية العملية فان الاعتماد على ضابط مركز الإدارة يثير كثيراً من الاضطرابات في العلاقة المهنية في النظم الداخلية(12). لذا فمن من الناحية النظرية فإن الحلول تشير إلى تطبيق القانون الذي تقضيه قواعد القانون الدولي الخاص في هذه الدولة. ومن الناحية الواقعية يرى القضاء جواز تطبيق قانون الدولة الذي ينفذ فيها العقد إذا كان هذا القانون أفضل للعامل إذ إن الواقع يشير إلى إن العلاقة بين الوحدات الفرعية، والعاملين فيها من المواضيع التي تتخلى عنها الإدارة العليا التي تكون في المركز الرئيس لإدارة هذه الوحدات الفرعية. اذ إن الوحدات الفرعية تقوم بالتعاقد مع العامل وتبرم هذه العقود وهي عقود محلية تكون خاضعة لقانون مكان التنفيذ(13). دون الاستناد إلى انتماء الوحدة الفرعية (شركة وليدة أو وحدة فرعية) للشركة ألام.
ويذهب القضاء العالمي إلى بطلان الاتفاقيات(14). التي يكون موضوعها اختيار قانون غير القانون الذي يقضي به القانون الدولي الخاص لان تشريعات العمل تتعلق بالأمن الاجتماعي . هذا وإن إخضاع عقد العمل لقانون دولة التنفيذ يقوم على اعتبارات مؤداها إن للدولة مصلحة واضحة في تطبيق قوانينها بشأن علاقات العمل التي يتم تنفيذها على إقليمها، وعندما يضع المشرع التنظيم الخاص بعقود العمل فانه يهدف إلى تقرير الحماية الآمرة لعلاقات الطبقة العاملة ويرمي إلى تطبيق القواعد التي يقرها هذا النشاط على جميع العمال الممارسين أعمالهم في الدولة. وإذا نقل العامل من الوحدة التي تعاقد معها إلى وحدة اخرى(15). في دولة أخرى فإن هذا النقل يقطع الصلة بينه و بين الوحدة الأولى ويلحق بالوحدة الثانية فيصير من عامليها المقيمين وتسري عليه الأحكام المذكورة آنفاً بشأن هؤلاء العاملين . أما إذا كان العامل معاراً أو موفداً لمدة قصيرة فانه يتم تطبيق قانون مركز الشركة الرئيسي (مركز الأعمال) الذي يعتبر بمثابة مكان تنفيذ العمل إذ تعد ممارسة العمل في الظروف الاستثنائية امتدادا للعمل المؤدي ولم يشترط الفقه الفرنسي(16). تطبيق معيار مركز الأعمال، سوى إن تكون هناك رابطة بين العمل الذي يؤديه العامل ومركز الشركة الذي ينتمي إليها، من حيث تلقيه التوجيهات من هذا المركز للقول إن العمل يؤدي امتداداً لنشاط الشركة مما يعتبر ذلك مسوغاً لتطبيق قانون مكان المقر. ومع ذلك لا يمكن في إطار الشركات متعددة الجنسية التعويل على قانون مركز الإدارة الرئيس بوصفه معياراً يعتمد عليه في ظل الشركات متعددة الجنسية اذ إن الحاجة ملحة إلى وضع حلول مباشرة وخاصة لان الأمر لا يمكن تطبيقه من الناحية الواقعية أو العملية بالنسبة الى المنازعات الناشئة من علاقات عمل الوحدات الفرعية أو بين العاملين في هذه الوحدات الفرعية والمركز الرئيس الكائن في الشركة ألام. إن هذه العلاقة من المسائل التي تتخلى عنها الإدارة العليا الكائنة في المركز الرئيس لإدارة هذه الوحدات الفرعية. فالأخيرة تبرم العقد وتختار العاملين وهذه العقود خاضعة لمكان تنفيذ العمل(17). دون الاعتداد بانتماء الشركة الوليدة إلى المركز الأم أو المركز الرئيس ، دون التفرقة بكون محل التنفيذ هو مقر المشروع أو فرعاً منه(18).
وهذه الفكرة أكدتها محكمة استئناف بروكسل في 17 مارس 1972(19). اذ كان حكمها بأن العامل الألماني الجنسية الموفد من شركة وليدة ألمانية منبثقة من رحم الشركة الكندية الأم – لإدارة احد الفروع في بلجيكا، لأنها تخضع للقانون البلجيكي باعتبار قانون مكان التنفيذ. وفي قضية أخرى قضت بها محكمة استئناف باريس في 3 فبراير 1988(20). بان العامل في الشركة المتعددة الجنسية الموفد إلى الشركة الوليدة التي مركز إعمالها في فرنسا وتمارس نشاطها فيها فان القانون المطبق على إنهاء العمل هو قانون مكان التنفيذ. إن تطبيق قانون مكان التنفيذ يعد خروجاً على مبدأ القانون الذي يحكم العقود بصفة عامة فإنه يمكن أن نجد أساسه في المصدر الإضافي أو الاحتياطي في المادة 30 مدني عراقي و ما يقابلها في المادة 24 مدني مصري و هو المصدر الذي خص به المشرع قواعد تنازع القوانين، لم يأت على ذكره بالنسبة إلى موضوعات القانون الخاص، وحتى بالنسبة إلى بقية موضوعات هذا القانون(21).
_____________________
– وهي قانون مكان الإبرام، وقانون الجنسية المشتركة، و الموطن المشترك، وقانون مقر المشروع أو المركز الرئيس للإدارة و قانون مكان التنفيذ.
2- وتقوم هذه النظرية عن طريق تركيز البحث على المضمون المميز للعلاقة القانونية، أي تركيز الإسناد والتي تعتبر الأداء المميز للعقد و الذي يؤدي إلى خضوع العلاقة للقانون الذي يكون فيه الأداء مميز محققاً مثل مركز المشروع أو الفرع و ذلك دون بحث عن إرادة الخصوم و دون البحث عن أي عنصر خارج العلاقة.
-3 Dumoulin، ette par Battifol، Aspects philosophiqui، du droit international privé، Dalloz،1956، p28.
-4 See: Rouast ، Les confilic de lois Relatifs au contrat de Travail، Pillet، part2،1967، p.205; Pierre Mayer، Droit international prive، Moutchresten، Paris، 1971، p.512.
5- راجع تعليق simon Depitie على حكم محكمة النقض الفرنسية (الدائرة التجارية ) بتاريخ 9 نوفمبر سنة 1959، ص66 و ما بعدها.
6- راجع الحكم منشوراً في مجموعة الأحكام الصادرة من المكتب الفني لمحكمة النقض، س 18، مارس ابريل 1967، ص798 و ما بعدها.
7- انظر تعليق simon Depitre المنشور في Rev. Ctrit. 1960 ص570.
8- للمزيد انظر في ذلك، د. هشام علي الصادق، دراسات في القانون الدولي الخاص، مصدر سابق، ص208 وكذلك د. عكاشة عبد العال، سامي بديع منصور، مصدر سابق، ص411.
9- وهذه النظرة التقليدية للاعتراف بالشخصية المعنوية للفرع و الشركة الوليدة.
0- د.عماد الشربيني، موقف المشرع المصري من المشروعات متعددة القوميات، مجلة مصر المعاصرة، ابريل 1980، سنة 70-، عدد 208، ص ص243–244.
-11 Depax، Group de so ciete et contrat de travail، Droit social، 1961، p.59 ets.
2- انظر في ذلك د. منير عبد المجيد، تنازع القوانين في علاقات العمل الفردية، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1992، ص 119.
-13 Depax، Op.Cit.، p. 596 ets .
4- للمزيد انظر د.عكاشة عبد العال، سامي بديع منصور، مصدر سابق، ص376 وما يليها، حول التعليق على المادة (7) من اتفاقية روما بشأن القانون الواجب التطبيق على الالتزامات التعاقدية.
5- د. محسن شفيق، مصدر سابق، ص293.
-16 Cass، q november 1959 ، 1، V. critique ، 1960 ، p. 571 ets.
-17Depax ; Group de societe opcit ، droit . soc. 1961 ، p. 596 ets.
-18Niboy et ; Traite . T. (4) p. 109 ، No. 1126 ( Traite de droit international prive) Francalse Tome . 11 . Paris ، 1951 .
-19Fnce sens، Etienne szszy، Annuairede L’institute de Droit international، 1971، p. 359 ets.
20 – Clunet 1989 ، p. 375 note vischivivet .
21-انظر في ذلك ، د. هشام علي صادق، في تنازع القوانين ، مصدر سابق ، فقرة 23، ص99 و ما بعدها .
المؤلف : يمامة متعب مناف السامرائي .
الكتاب أو المصدر : الشركات متعددة الجنسية والقانون الواجب التطبيق
الجزء والصفحة : ص101-106.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً