الارتقاء بسياسة المساءلة والعقاب كمحدد رئيسي في المقاربة الوطنية لمكافحة الفساد
الدكتور زهير السهلي
باحث في القانون الجنائي والعلوم الجنائية
مقدمة:
اعتمدت بلادنا منذ نهاية الألفية الثانية في سبيل الحد من التداعيات السلبية لظاهرة الفساد على البنيان الاقتصادي والاجتماعي والتنموي وباقي الميادين الأخرى، على محاولة التأسيس لمقاربة شمولية في علاج الظاهرة والوقاية منها والتقليص من رقعة انتشارها، تستند على مجموعة من الآليات والتدابير، سواء على المستوى التشريعي أو المؤسساتي أو الإداري أو الوقائي، انتهاء بإعداد الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد.
إلا أنه رغم أهمية هذه المقاربة المعتمدة والجهود المبذولة في هذا الصدد، إلا أن ذلك لم يقلص من حدة انتشار الظاهرة بمختلف المرافق العمومية، بل إن الأمر زاد استفحاله، لدرجة تحولت معه الإدارة العمومية إلى مرتع خصب لانتشار مختلف السلوكات الإدارية المشينة كالرشوة والاختلاس والغدر واستغلال النفوذ وغيرها من مظاهر الفساد الأخرى، الأمر الذي تؤكده مختلف التقارير والدراسات الراصدة للظاهرة، سواء تلك الصادرة عن المنظمات الدولية أو الوطنية كجمعية ترانسبارنسي الدولية أو الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة و ترانسبارنسي المغرب، ويتجلى بشكل أكثر وضوح في ترتيب المغرب المتدني في مؤشرات إدراك الرشوة والبارومتر العالمي لمكافحة الفساد،
مما أثر بشكل كبير على صورة ومصداقية المغرب في المحافل الدولية وجهوده المبذولة في سبيل تخليق الحياة العامة والتأسيس لمنظومة النزاهة والشفافية وإرساء دعائم الحكامة الجيدة، الأمر الذي يطرح بشدة مسألة إعادة النظر في بعض محاور السياسة الوطنية المعتمدة في بلادنا لمكافحة الفساد، لاسيما في شقها المتعلق بالمساءلة و العقاب، على اعتبار إن النهوض بأية استراتيجية تبتغي تطهير هياكل الإدارة العمومية من مختلف مظاهر الفساد والرشوة التي تنخرها، تقتضي بالضرورة إعطاء أهمية كبرى لتعزيز المحاسبة والمساءلة باعتبارها فاعلا رئيسيا في مختلف جهود المكافحة والوقاية ( المحور الأول ) إضافة إلى القطع مع كل محاولة للإفلات من المتابعة والعقاب ( المحور الثاني ).
المحور الأول: تعزيز المحاسبة والمساءلة كفاعل رئيسي في مجال مكافحة الفساد
يشكل ترسيخ مبدأي المساءلة والمحاسبة في تسيير الشأن العامّ، أحد الدعائم الأساسية لكل استراتيجية تتوخى القطع مع مختلف أفعال الرشوة والفساد المنتشرة داخل دواليب الإدارة العمومية، حيث أن تفعيلهما بالشكل الأمثل سيجعل من المخالف للقانون يفكر ألف مرة قبل الإقدام على جرمه، لاسيما عندما يتعلق الأمر بجرائم الفساد التي تنخر دواليب المرفق العمومي، مما سيحقق الجانب الردعي والوقائي للعقوبة.
فمما لامراء منه أن غياب أو ضعف المساءلة والمحاسبة في تدبير الشأن العمومي، بات يشكل أحد العوامل الجوهرية لتفشي مختلف مظاهر السلوكات المنحرفة، ولاسيما تلك المتعلقة بارتكاب جرائم الرشوة والفساد في ممارسة المسؤوليات العمومية، بل تتعداها لتصل حتى إلى القطاع الخاص[[1]] ، كما أن عدم ترسيخهما بشكل فعلي داخل دهاليز الإدارة العمومية، يجعل من القواعد القانونية لا تأتي دورها الردعي والوقائي، وبالتالي يصبح عدم المساءلة وتقديم الحساب أحد المظاهر الأكثر سلبية والرئيسية في استشراء مظاهر الفساد، حيث خلصت في هذا الصدد إحدى الدراسات الميدانية التي قام بها مجموعة من الباحثين والخبراء حول أسباب تفشي ظاهرة الفساد في المرافق العمومية، إلى أن 80% من أسباب ذلك التفشي، ترجع بالأساس لتمتع البعض بمراكز ومناصب تجعلهم بعيدين عن المساءلة والمحاسبة[[2]] .
ويقصد بالمساءلة باعتبارها أحد أهم الأدوات والوسائل التي تستخدمها أجهزة الرقابة الإدارية والمالية في مكافحة الفساد، استفسار ومحاسبة المسؤولين العموميين بالأجهزة الحكومية عن نتائج قيامهم بالمسؤوليات المخولة لهم، مع منحهم الحق في شرح وجهة نظرهم حول أدائهم، مما يقتضي أن تكون لدى المسائلين الصلاحيات التي تمكنهم من أداء عملهم، والتي على أساسها تتم مساءلتهم[[3]] .
أما المحاسبة، فالمقصود بها خضوع الأشخاص الذي يتولون مراكز ومناصب عليا للمساءلة القانونية والإدارية والأخلاقية عن نتائج أعمالهم، بمعنى أن يكون الموظفون الحكوميون مسؤولون أمام رؤسائهم، الذين يسألون بدورهم أمام السلطة التشريعية التي تتولى الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، ويكون الجميع مسؤولا أمام السلطة القضائية، باعتبارها حارسة الحقوق والحريات، والمكلفة بتطبيق القانون عن كل إخلال به، لاسيما وأن الأمر يتعلق بممارسة الشأن العمومي وتدبير الأموال العمومية، التي تكون عرضة للكثير من مظاهر السلوكات الإجرامية المنحرفة، وخصوصا جرائم الفساد و رشوة المسؤولين المكلفين بتدبيرها.
ويستمد مبدأي المساءلة والمحاسبة في جرائم الرشوة والفساد تأصيلهما من الوازع الأخلاقي للعقوبة التي تقوم على العدالة الاجتماعية، من خلال سعي القضاء إلى تحقيق التوازن بين الجزاء وقواعد الأخلاق العامة، فكل شخص ارتكب إحدى جرائم الفساد أو أي جريمة أخرى، يجب أن ينال عقابه الذي يستأثر به القضاء عن طريق الردع والزجر من أجل حماية المصلحة العامة للمجتمع، اعتبارا لكون الإتيان بأفعال الرشوة أو باقي جرائم الفساد الأخرى، يشكل اعتداء على رابطة قانونية ينظمها القانون الجنائي، تقوم بين الموظف العمومي والمجتمع، وهو ما يلزم القضاء بالمحاسبة والمساءلة عبر توقيع العقوبة على الجاني بمجرد ارتكاب الجريمة من أجل إعادة التوازن الاجتماعي ورد الاعتبار للمجتمع وتحقيق المصلحة العامة، حتى لا يشكل غياب المساءلة والمحاسبة دافعا رئيسيا نحو الإفلات من العقاب، مما سيؤدي إلى المساس بسيادة القانون ويلحق الضرر بالمجتمع، وينتح عنه فقدان الثقة في مرفق القضاء، وبالتالي تصدع صورة الدولة لدى المواطنين.
وهكذا، فبلوغ مبتغى ترسيخ مبدأي المساءلة والحساب يتعين بالضرورة تخليق الجهاز القضائي وتعزيز تخصصه في مجال محاربة الرشوة والفساد، حتى يستطيع لعب دوره الأساسي في تفعيل هذين المبدئين اتجاه مختلف مظاهر الخروقات المرتكبة أثناء تدبير الشأن العمومي، لاسيما تلك المتعلقة بجرائم الانحراف عن السلوك الإداري القويم، كالرشوة والاختلاس وغيرها من جرائم الفساد الأخرى، من خلال ضمانه المساواة في توقيع الجزاء بين الموظفين المتولين لمناصب إدارية عليا وبين فئة الموظفين العاديين، وذلك في إطار سياسة جنائية تحمي المصالح العليا للمجتمع، وتضمن توقيع الجزاء وتكرس قاعدة تلازم ممارسة المسؤولية بالمحاسبة.
وإلى جانب دور القضاء في ترسيخ مبدأي المساءلة والمحاسبة في تدبير الشأن العمومي، فمن المفروض أن تلعب كذلك المؤسسة البرلمانية دورا في هذا المجال، من خلال لجان تقصي الحقائق، التي غابت نجاعتها في أغلب مهمات التقصي التي قامت بها، نظرا للتطاحنات السياسية وعدم تفعيل توصياتها التي تبقى مجرد حبر على ورق، بالإضافة إلى هيئات ومؤسسات الرقابة والمساءلة، كالمحاكم المالية والمفتشية العامة للمالية والمفتشية العامة للإدارة الترابية والمفتشيات العامة للوزارات، غير أن محدودية وغياب نجاعة وفعالية هذه الأجهزة في مجال مكافحة الفساد وتخليق الحياة العامة، انعكس سلبا على دورها في تكريس مبدأي المساءلة والمحاسبة داخل دواليب الإدارة والمؤسسات العمومية، الأمر الذي يقتضي من أجل تفعيل دورها في هذا المجال، إعادة النظر في الاختصاصات المخولة لها وتطوير أساليب اشتغالها، عبر اتخاذ مجموعة من التدابير والإجراءات في هذا الصدد، انطلاقا من تعزيز آليات التعاون والتنسيق بين هذه الأجهزة لتحقيق التكامل بين أدوارها، من خلال إحداث أقطاب مركزية وترابية للكفاءة، مكونة من مختلف هيئات التفتيش والرقابة، بالنظر إلى الأهمية التي يكتسيها ورش التعاون والتنسيق في الجهود المبذولة لمكافحة الفساد على الصعيدين الوطني والدولي،
إضافة إلى إعادة النظر في بعض المواد المتعلقة باختصاصات كل من المحاكم المالية والمفتشية العامة للمالية، لتعزيز دينامية مراقبتهما، لاستثمارها في تفعيل المحاسبة والمساءلة، لاسيما عبر توسيع اختصاصات المجلس الأعلى للحسابات في ميدان التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، وإلزامه بوضع ونشر تقرير سنوي حول حالات الرشوة واختلاس المال العام التي يقف عليها قضاته في تقاريرهم، بالإضافة إلى تجاوز وضعية الغموض القانوني الذي يكتنف تموقعه في فصول الدستور المغربي كهيئة عليا للرقابة على تنفيذ قوانين المالية، مما يخرجه عمليا من دائرة القضاء، رغم اختصاصاته القضائية الأصيلة، ناهيك عن توسيع صلاحياته في مجال مكافحة الفساد، من خلال تدعيم استقلاليته، عبر تمكينه من إحالة تقاريره التي يقف خلالها على أفعال ذات طابع جنائي مباشرة على النيابة العامة المختصة، دون اتباع مسطرة الإحالة على وزير العدل، بما له من سلطة الملائمة، سواء بإحالة التقرير أو حفظه، إسوة بالعديد من التشريعات التي تلزم قضاة المجلس الأعلى للحسابات بإحالة التقاربر الكاشفة لمخالفات ذات طابع جنائب مباشرة على الجهات القضائية المختصة، كما هو الحال في التشريعين الفرنسي والأمريكي.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن الرقي بالأجهزة الرقابية للنهوض بدورها في المحاسبة والمساءلة، يقتضي بالضرورة مراجعة الإطار القانوني المنظم للمفتشيات العامة للوزارات، من خلال تقييد السلطة التقديرية للوزير الوصي بإلزامية تحريك المسطرة التأديبية أو الإحالة على المجلس الأعلى للحسابات أو على النيابة العامة المختصة عند الاقتضاء، حسب درجة وجسامة التجاوزات المرصودة، وكذا سحب سلطة تعيين المفتشين العامين من يد الوزراء ومنحها مباشرة لرئيس الحكومة ضمانا لمزيد من الاستقلالية في إنجاز مهام المراقبة والتفتيش والتدقيق والتقييم، مع التنصيص على صلاحية قيامهم بمأموريات مباغتة وبشكل تلقائي، وكذا إلزامية نشر التقارير التي وقفت على جرائم الفساد مع تضمينها مبدأ تتبع مآل التوصيات الصادرة بالتقارير السابقة، بالإضافة إلى اضطلاع هذه المفتشيات بمهمة تتبع تنفيذ وتفعيل التوصيات ذات الصلة الواردة بتقارير المحاكم المالية والمفتشية العامة للمالية والهيئة المركزية للوقاية من الرشوة[[4] ، ودون إغفال تمكين مختلف مؤسسات الرقابة من طرق عمل منسقة ومتكاملة وقابلة للقياس، من أجل تدعيم جهود مكافحة الرشوة و الفساد، مع ضمان الاستقلالية التامة لها أثناء مزاولة مهامها، كي تبقى بمنأى عن كل تأثير لا يتلاءم مع وضعيتها، وكذا توفير الوسائل والإمكانيات المادية والبشرية الكفيلة بأداء مهامها على أكمل وجه.
المحور الثاني: مكافحة الإفلات من المتابعة والعقاب في جرائم الفساد
تشكل مسألة مكافحة الإفلات من المتابعة والعقاب أحد أهم الأدوات والآليات التي تعتمدها السياسة الجنائية المعاصرة في مواجهة الظاهرة الإجرامية والتقليص من خطورتها، بالنظر إلى دور الردع العام والخاص الذي تحققه، وتعزيزها للثقة والطمأنينة في العدالة الجنائية، لكون جرائم الفساد كغيرها من الجرائم الأخرى، تستلزم بدورها الضرب بعصا من حديد على يد كل من خولت له نفسه الاخلال بالمصلحة العامة، عبر ضمان متابعته وعدم إفساح المجال له للإفلات من العقاب، بالنظر للأثر العميق الذي يخلفه التملص من المتابعة في تقويض جهود محاربة والفساد والوقاية منه.
فحسب العديد من التقارير والدراسات الوطنية والدولية، تشكل ظاهرة الإفلات من العقاب، أحد أكبر التحديات التي تواجه كل سياسة جنائية تتوخى وضع حد لكافة أشكال انتشار جرائم الفساد داخل المجتمع، وفقدان الثقة في قدرة أجهزة الدولة على المكافحة والوقاية، حيث أكدت بهذا الخصوص إحدى الدراسات الميدانية التي أنجزتها جمعية الشعلة سنة 2014 حول أسباب تفشي ظاهرة الرشوة بين الشباب المغربي، أن نسبة 48.4% من المستجوبين من أصْل 671 شابّا وشابّة الذين شملتهم الدراسة، والذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و 30 سنة، من فئة التلاميذ والطّلاب والمأجورين والموظفين والعاطلين عن العمل، ترجع أسباب تفشي هذه الظاهرة إلى عدم معاقبة المتورطين في قضايا الرشوة وإفلاتهم من العقاب، مما يؤثر سلبا على الثقة في مصداقية وقدرة أجهزة الدولة على اجتثاث هذه الآفة وقطع دابرها .
كما أشار التقرير الوطني للنزاهة والشفافية لسنة 2014 الذي أنجزته ترانسبارنسي المغرب، إلى أن الإفلات من المتابعة والعقاب في بلادنا، يشكل أحد العوامل الرئيسية المشجعة على انتشار واستشراء ظاهرة الرشوة وباقي جرائم الفساد الأخرى إلى جانب الاغتناء السريع، كما أشارت الجمعية في نفس السياق، في إطار تعليقها على رتبة المغرب في مؤشر الرشوة لسنة 2015، الصادر عن ترانسبارنسي الدولية، إلى أن أسباب هذا التقييم السلبي لترتيب المغرب في هذا المؤشر، ترجع بالأساس إلى استمرار الإفلات من العقاب.
وهكذا، وأمام هذه التحديات والمعيقات التي تطرحها ظاهرة الإفلات من المتابعة والعقاب في تقويض كل جهود محاربة الفساد والوقاية منه، أضحى أمر التصدي لها والقضاء عليها للسير قدما في درب تخليق الحياة العامة وتعزيز منظومة المساءلة والمحاسبة، مسألة حتمية لامناص منها، مما يفرض على المشرع المغربي مضاعفة جهوده واتخاذ العديد من الإجراءات والتدابير في هذا الصدد، من خلال وضع قواعد ومقتضيات استثنائية وخصوصية تكفل عدم إفلات الجناة من المتابعة والعقاب في جرائم الفساد قصد الوقاية منها والتقليص من حدة انتشارها، وذلك عبر إدخال تعديلات جوهرية على المقتضيات القانونية الجاري بها العمل حاليا، لملائمتها مع الاتفاقيات الدولية المصادق عليها كاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وإسوة بالتشريعات الجنائية المعاصرة الرائدة في مجال مكافحة الظاهرة، لاسيما من خلال إعادة النظر في المقتضيات المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية،
خاصة في شقها المتعلق بإجراءات الملاحقة والمتابعة، من خلال وضع قواعد خاصة للبحث والتحقيق تكفل سرعة ونجاعة إجراءات المتابعة، وتضمن عدم الإفلات من العقاب، بالنظر لخصوصيات وطبيعة هذه الجرائم، المتسمة بخطورتها وصعوبة إثباتها، والسرية المحيطة بارتكابها، بالإضافة إلى ضرورة تحديد مدد تقادم أطول من تلك المقررة في القواعد العامة بالنسبة لباقي الجرائم، قصد التضييق من دائرة الإفلات من العقاب، وجعل العقوبة المطبقة في جرائم الفساد سيفا مسلطا على رقاب مرتكبيها أطول مدة ممكنة، تحقيقا للأثر الردعي المتوخى منها، وذلك انسجاما مع مقتضيات المادة 29 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، التي تحث الدول الأطراف فيها، بالعمل في قوانينها الداخلية على تحديد مدد تقادم أطول بخصوص الأفعال المجرمة بمقتضاها، وكذا تعليق هذا التقادم في حالة إفلات الجاني من العقاب،
وهو الأمر الذي التزمت به العديد من الدول الموقعة على الاتفاقية، بل تجاوزته بعض التشريعات من خلال تنصيصها على عدم تقادم جرائم الفساد إطلاقا، كما هو الحال بالنسبة للتشريع الفلسطينيالذي نص في المادة 33 من قانون مكافحة الفساد رقم 1 المعدل لعام 2005، على أنه لا تخضع قضايا الفساد وكل ما يتعلق بها من إجراءات للتقادم، وذلك في محاولة منه للتضييق على مرتكبي جرائم الرشوة والفساد ومنعهم من الإفلات من العقاب.
يضاف إلى ما سبق، ضرورة مراجعة بعض المقتضيات الخاصة بأسباب انقضاء العقوبات والإعفاء منها وإيقاف تنفيذها، من خلال إعادة النظر في بعض مقتضيات الفصل 49 من القانون الجنائي، عبر استثناء جريمة الرشوة وباقي أنواع جرائم الفساد الأخرى من إمكانية العفو عن مرتكبيها، سواء في مرحلة المتابعة أو الإدانة، بالنظر لخطورة هذه الجرائم على أمن وسلامة المجتمع، لاسيما بعد أن أثبت الواقع العملي أن حالات العود المرتفعة المسجلة في الكثير من الجرائم عموما، تخص في معظم الأحيان المستفيدين من هذا المقتضى، إضافة إلى عدم التدقيق والتمحيص في المستفيدين من هذا الإجراء، ولنا في واقعة البيدوفيل الإسباني دانيال أبلغ معنى.
كما أن تعزيز فعالية وقواعد التصدي والإفلات من العقاب والمتابعة والحكم في قضايا الرشوة والفساد، يتطلب ضرورة التنصيص على إجراءات وقواعد دقيقة وواضحة، للحد من كل أشكال الحصانة بصدد التحقيقات و المتابعات و العقوبات المتعلقة بهذه الجرائم، لاسيما الحصانة البرلمانية، إذ يلاحظ على مستوى الممارسة، أن هناك توظيفا غير مناسب للمقتضيات القانونية المتعلقة بها، من خلال الإحجام عن الاستجابة للعديد من طلبات رفعها، وأن هناك توجها يرسخ توسيع مجال هذه الحصانة لتشمل جرائم الفساد، لتتحول بذلك إلى وسيلة للإفلات من المتابعة والعقاب.
كما يقتضي التصدي للإفلات من المتابعة والعقاب كذلك، عدم إخضاع تحريك الدعوى العمومية ضد المرتشين لأي إشارات سياسية، سواء على مستوى النيابة العامة المختصة، أو من خلال تمكين المفتشية العامة للمالية و المفتشيات العامة للوزارات، من إحالة ملفات الرشوة والفساد التي يقفون عليها خلال إنجاز تقاريرهم مباشرة على النيابات العامة المختصة ترابيا ونوعيا، دون انتظار تأشير رئيس الإدارة، مع تعزيز دور المحاكم المالية في هذا المجال،
من خلال توسيع دور المجلس الأعلى للحسابات في التصدي للإفلات من المتابعة والعقاب في قضايا الرشوة والفساد، من خلال مراجعة المواد 111 و 162 من مدونة المحاكم المالية، قصد تمكين النيابة العامة للمجلس من رفع أفعال الرشوة والفساد التي رصدتها تقاريرها وباقي الأفعال الأخرى المستوجبة لعقوبات جنائية، مباشرة إلى وكلاء الملك أو الوكلاء العامون للملك، دون ضرورة إحالتها على وزير العدل لاتخاذ ما يراه ملائما بخصوصها، الأمر الذي من شانه أن يساهم لامحالة في الحد من الآثار المدمرة لمعضلة الفساد والرشوة على المجتمع والتنمية والاقتصاد ببلادنا، لاسيما إذا علمنا أنه وباستثناء محاكمات قليلة وسريعة لمسؤولين يعدون على رؤوس أصابع اليد الواحدة، أشهرها تلك المحاكمات التي جرت بداية عقد السبعينات من القرن الماضي لوزراء ومسؤولين، فإن المغرب لم يعرف محاكمات حقيقية لمرتشين، كما أنه في كثير من الأحيان تكون عقوبتهم هي تنقيلهم من منصب إلى آخر، قد يكون أفضل أحيانا لكي يتم طي الملف، وهو إجراء يدخل ضمن ما يصطلح عليه بالخصوصية المغربية.
تجدر الإشارة في الأخير إلى أن بوادر سياسة جنائية مغربية جديدة، تجعل من التصدي للإفلات من المتابعة والعقاب أحد ركائزها الأساسية في محاربة الرشوة والفساد بدأت تلوح في الأفق، و تتبلور في المجال السياسي، من خلال مجابهة الفساد الانتخابي، عبر تحريك مسطرة المتابعة في حق العديد من المستشارين بتهمة الرشوة الانتخابية في انتخابات تجديد ثلث مجلس المستشارين الأخيرة، حيث أعلنت في هذا الإطار اللجنة الحكومية المكلفة بتتبع الانتخابات، أنه تمت متابعة 26 شخصا، من بينهم 14 مرشحا لمجلس المستشارين، تم انتخاب 10 منهم ضمن هيئاته، راجين أن يتم تعميم هذه الآلية لمواجهة جميع مرتكبي جريمة الرشوة وبغض النظر عن انتماءاتهم السياسية وفي مختلف القطاعات والمجالات، ودون إغفال التنصيص على المسؤولية المدنية للأحزاب السياسية فيما يتعلق بجميع أفعال الفساد المرتكبة من طرف المترشحين المنتسبين إليها، انسجاما مع مقتضيات المادة 26 من الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد.
خـــاتــمة:
مما لاشك فيه أن الارتقاء بسياسة المساءلة والمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب في تسيير الشأن العمومي، يشكل أحد الرهانات الأساسية التي ينبغي العمل على تعزيزها وتقويتها في كل سياسة جنائية تهدف إلى التصدي الفعال لانتشار ظاهرة الرشوة وباقي أنواع الفساد الأخرى، باعتبارها الرادع الحقيقي لمختلف الجناة، والذي سيجعلهم يفكرون ألف مرة قبل ارتكاب الجريمة، على اعتبار أن تغليظ العقوية وتشديدها، ليس هو الرادع الرئيسي للتقليص من ارتفاع وثيرة الجريمة بصفة عامة، وجرائم الرشوة والفساد بصفة خاصة، وإنما الرادع الحقيقي والفعال هو التطبيق الصارم والدقيق لسيادة القانون، من خلال التفعيل الدقيق لمبدأي المساءلة والمحاسبة ووجود يقين بأن الإفلات من المتابعة لن يتحقق وأن العقوبة ستطبق عمليا، ذلك أنه إذا لم تكن هناك متابعات وعقوبات جنائية ولو نص القانون على الحد الأقصى للعقوبة،
فإن مفعول هذه الأخيرة سيكون ضئيلا من حيث الترهيب، شأنه في ذلك شأن المتابعات الجنائية التي لا تستكمل إجراءاتها، ولا يرى المرء نهاية لها أبدا على أرض الواقع، لذا فإن تكريس سيادة القانون من خلال التطبيق الدقيق للمقتضيات المناهضة للإفلات من المتابعة والعقاب والمعززة لمبدأي المساءلة والمحاسبة، تشكل حلقة أساسية للتصدي للرشوة وتنمية القيم والسلوكيات المتعلقة بثقافة مناهضتها، الأمر الذي يقتضي ضرورة دعم وترسيخ وتعزيز هذه المبادئ، خاصة وأن متطلبات مكافحة الفساد والرشوة داخل دواليب الإدارة المغربية، لا تقتضي فقط الاقتصار على استصدار قوانين تضاف إلى التشريعات الموجودة، بل العمل على تقوية الشفافية والوضوح وواجب ربط المسؤولية بالمحاسبة والقطع مع مختلف مظاهر الإفلات من المتابعة والعقاب.
يوم دراسي حول المفتشيات العامة للوزارات ” أي دور في الوقاية من الفساد ومكافحته” مولاي الحسن العلوي السليماني، المستشار الأول لدى رئاسة الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، المساءلة وإعطاء الحساب: ركيزة أساسية للحكامة الجيدة ومكافحة الفساد، 23 دجنبر 2014ـــ الرباط
أنظر علي حمادة، الرشوة أسبابها وسبل مكافحتها، رسالة ماجستر القانون الجنائي، حلب سوريا السنة الجامعية 2008-2009، ص 42.
[[3]] أجهزة الرقابة ودورها في مكافحة الفساد، التجربة المغربية، وزارة تحديث القطاعات العامة، أكتوبر 2011، ص 14.
[[4]] ملائمة التشريعات الوطنية لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ــ فحص المطابقة- المغرب الجمعية المغربية لمكافحة الفساد 2010 ص 80.
[[5]] دراسة من إعداد عبد الكريم البريبري، عن جمعية الشعلة، منشورة في الموقع الإلكتروني لهسبريس بتاريخ 05 مارس 2014.
[[6]] لذا فليس من الغريب أن تثور ثائرة المجتمع المدني ومختلف الفعاليات الحقوقية بالمغرب، وتستنكر تصريحات السيد رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران بشأن محاربة الرشوة والفساد، خلال برنامج “بلا حدود” الذي بثته قناة الجزيرة يوم الأربعاء 25 يوليوز 2012، حين قال مقولته الشهيرة ” عفا الله عما سلف” لما تنطوي عليه هذه التصريحات من غموض في تحليل آفة الفساد والرشوة، وما تسمح به من تبريرات لتطبيع التعامل – معها، وما يؤشر من تعامل حكومي لين مع المتعاطين لجرائمها، على اعتبار أن الإفلات من العقاب كان ولازال أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تفشي الرشوة والفساد في بلادنا.
[[7]] التقرير الوطني للنزاهة برسم سنة 2014، ص 9.
[[8]] البلاغ الصحفي للجمعية المغربية لمحاربة الرشوة، أنظر المقع الرسمي للجمعية: www.transparencymaroc.ma
[[9]] تتقادم العقوبة حسب مقتضيات المواد 649 و 650 و 651 من المسطرة الجنائية على التوالي بمرور 15 سنة في الجنايات و 4 سنوات في الجنح وسنة في المخالفات.
[[10]] تقرير حول عمل محكمة جرائم الفساد وإجراءات التقاضي، إعداد سعيد زايد وسجى يوسف، رام الله فلسطين، 2014، ص 8.
[[11]] تقرير الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة لسنة 2011، ص 18.
اترك تعليقاً