تعديل قانون الإرهاب والمحاكم الاستثنائية في سوريا
ميشال شماس
بعد الانتقادات الواسعة لقانون الإرهاب، وبعد مضي نحو ستِّ سنواتٍ على صدوره، قرّر وزير العدل الجديد القاضي هشام الشعار تشكيلَ لجنة من أحد عشر عضوًا من القضاة والمحامين، وضابط من وزارة الداخلية، ونائبين من مجلس الشعب؛ للقيام بإجراء مراجعة شاملة لقانون الإرهاب رقم 19 الصادر بتاريخ 2/7/2012، ووضع مشروع جديد لمكافحة الإرهاب في سورية، خلال ثلاثة أشهر من تاريخ تشكيل اللجنة الصادر بتاريخ 11/6/2017 من الشهر الجاري.
وقد عبّر كثيرٌ من المحامين والمتهمين عن سخريتهم من تشكيل هذه اللجنة، داعين إلى إلغاء هذه القانون من أساسه، على اعتبار أن النصوص القانونية التي يتضمنها قانون العقوبات العام تكفي لتطال أي عمل إرهابي، مهما كان شكله، بينما تساءل أحد المحامين بلهجة ساخرة: “َأيُعقل أنَّ قانونًا، لا يتعدى عدد مواده خمسة عشر مادة، يحتاج إلى أحد عشر شخصًا لتعديله خلال مدة ثلاثة أشهر، وهو بالكاد لا يحتاج إلى أكثر من أسبوع لتعديله، بينما سأل أحدهم: في أي اتجاه سيتم التعديل؟ هل نحو الأسوأ أم نحو الأفضل؟ خصوصًا إذا استعرضنا أسماء أعضاء اللجنة المطلوب منها تعديل قانون الإرهاب؛ فسنجد أن جميعهم ينتمون لحزب البعث الحاكم في سورية، وهم يؤيدون بالمطلق سياسية النظام الحاكم، وأن معظمهم لا تعنيه حرّية الإنسان ولا حقوقه، بل جلَّ اهتمامهم ينحصر في المحافظة على ولائهم وامتيازاتهم، فضلًا عن عدم اختصاص معظمهم بتعديل القوانين.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل كنّا فعلًا بحاجة إلى قانون الإرهاب رقم 19 لعام 2011؟ الجواب: لا، ذلك بأن لدينا في سورية قانون العقوبات العام، وهو شامل بمواده ونصوصه لكل الجرائم بما فيها العمليات الإرهابية (المادة 304 وما بعدها..) إلا أن الغاية من إصدار قانون خاص بالإرهاب لم تكن التصدي فعلًا للإرهاب، بل لاستهداف ناشطي حقوق الإنسان والمعارضين السياسيين والتضييق عليهم، فضلًا عن إحداث محكمة جزائية استثنائية خاصة بقضايا الإرهاب، لا تتقيد بأي أصول أو قانون ويُحكم النظام عليها سيطرته الكاملة، جاعلًا منها المقصلة التي يقضي بها على خصومه، وهذا ما تبين بوضوح بعد تطبيق قانون الإرهاب، حيث جاءت أغلب نصوصه فضفاضة تحتمل أكثر من تفسير،
كما هو حال المادة الثامنة منه التي عاقبت، بالأشغال الشاقة المؤقتة، كلَّ من قام بتوزيع المطبوعات أو المعلومات المخزنة، مهما كان شكلها، بقصد الترويج لوسائل الإرهاب أو الأعمال الإرهابية وتنزل العقوبة نفسها بكل من أدار أو استعمل موقعًا إلكترونيًا لهذ الغرض) فمن خلال هذه المادة، أُحيل آلاف -إن لم نقل عشرات الآلاف- من المعتقلين إلى محكمة الإرهاب بتهمة الترويج للأعمال الإرهابية، لمجرد أنهم كانوا يطالبون مثلًا بالإفراج عن المعتقلين على صفحات التواصل الاجتماعي أو إدانة عمليات الاعتقال والقتل، أو وضع إعجاب على منشور يدين انتهاكات النظام، ولم يسلم حتى من شاهد ما يسميه النظام بالقنوات “المغرضة المعادية”، وهذا ما حصل مع الصحفي مازن درويش ورفاقه في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، وما جرى مع الفنانة ليلي عوض، والفنانة سمر كوكش، والفنانة مي سكاف، والصحفي فايز سارة، والمفكر برهان غليون.. إلخ، وكذلك مع الذين ما زالوا قيد الاعتقال منذ سنوات كالمحامي خليل معتوق، والمعارض عبد العزيز الخير، وفائق المير، وباسل الصفدي، وجهاد محمد.. إلخ.
هل كنّا بحاجة فعلًا إلى إنشاء محاكم استثنائية كمحكمة الميدان العسكرية ومحكمة الإرهاب؟ الجواب أيضًا: لا؛ لأن إنشاء المحاكم والأقضية الاستثنائية شكل -وما زال يشكل- اعتداءً صارخًا ومستمرًا ليس على حرّية الإنسان وحقوقه وحسب، بل على اختصاص السلطة القضائية وينتقص منها، وهي صاحبة الولاية الكاملة والاختصاص الشامل لمختلف المنازعات؛ لأنها تستمد وجودها وكيانها من الدستور الذي أناط بها وحدَها أمرَ تحقيق العدالة مستقلة عن باقي السلطات، على اعتبار أن تلك المحاكم الاستثنائية واللجان الخاصة لم ينص الدستور على إنشائها، لخلوها من الضمانات القانونية “كالعلانية وحق الدفاع” وغيرها من تلك التي توفرها القوانين العادية وقوانين السلطة القضائية والتي يكفلها الدستور.
ولهذا نجد معظم الدول تنص دساتيرها على حظر إنشاء محاكم استثنائية، فقد سبق للدستور السوري الصادر عام 1950 أن حظر إنشاء المحاكم الاستثنائية، كما منع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، في الفقرتين 9 و10 من المادة العاشرة منه: (9: لا يجوز إحداث محاكم جزائية استثنائية، وتوضع أصول خاصة للمحاكمة في حالة الطوارئ. 10: لا يحاكم أحد أمام المحاكم العسكرية غير أفراد الجيش ويحدد القانون ما يستثنى من هذه القاعدة).
غير أن عسكر البعث كان لهم رأيٌ أخر، فأول قرار اتخذوه، بمجرد استيلائهم على السلطة، كان قرار فرض حالة الطوارئ، ثم أتبعوه بقوانين وتشريعات، تؤكد على استفرادهم بالسلطة واعتباره حزبهم قائدًا للدولة والمجتمع، وتقيّد الحرّيات العامة، وتحظر العمل السياسي والمدني؛ وتفتقت عقليتها بإنشاء المحاكم الاستثنائية، وبدأتها باستحداث محكمة أمن الدولة العليا، بتاريخ 28/3/1968 التي حاكمت عشرات الآلاف من السياسيين، وناشطي حقوق الإنسان، ثم إنشاء المحاكم الميدانية العسكرية، بالمرسوم رقم 109 تاريخ 17/8/1969، التي شكلت -وما تزال- وصمةَ عار في تاريخ سورية وجبين الإنسانية، وفي العام 1972 استحدث حافظ الأسد المحاكم الحربية، ومنحها صلاحية محاكمة أفراد من الجيش، وإصدار الأحكام في القطعات العسكرية بعيدًا عن أي رقابة قضائية. وفي العام 2012 استحدث نظام بشار الأسد محكمةً خاصةً بالإرهاب. وتناوبت تلك المحاكم على العمل بنشاط ملحوظ، ليس ضد المجرمين والإرهابين، بل ضد المعارضين السياسيين وناشطي حقوق الإنسان، بشكل أساسي.
إن محاربة الإرهاب -كما يقول الأستاذ أنور البني- دون معالجة الظروف والبيئة السياسية والحواضن التي تساعد على نشوئها وتدعمها “هي كمن يعالج داء سرطان الدم (اللوكيميا) بتغيير الدمّ دوريًا دون الوصول للخلايا الجذعية التي تولد الخلايا المريضة، فتحدث آلامًا كبيرة دورية دون أن يتم إنقاذ المريض”.
ويضيف الأستاذ أنور: إن هناك علاقة جدلية قوية بين حقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب؛ فكلما انتشرت وتدّعمت مبادئ حقوق الإنسان تراجعت البيئة التي تولد الإرهاب، وتراجعت أسباب نشوئه، وازداد حجم البيئة التي تحاربه، كما أن محاربة الإرهاب هي، في حقيقة الأمر، إرساء لمبادئ حقوق الإنسان وحمايتها من أي انتهاك، وإن نجاح المجتمع الدولي، بإرساء قواعد جامعة ومؤسسات جدية فاعلة لمحاربة الإرهاب؛ سيشجع على إعطاء دور أكبر وفاعل وحقيقي لمؤسسات حقوق الإنسان؛ لتقوم بدورها الذي وجدت من أجله، في حماية حقوق الإنسان في العالم، ومحاكمة منتهكي هذه الحقوق، بغض النظر عن موقعهم”.
وأضيف على ذلك أن الاستئثار بالسلطة والتحكّم بمقدّرات البلاد من قبل فئة معينة، وكمّ الأفواه وتقييد النشاط السياسي والمدني وعدم السماح بوجود صحافة وإعلام حر، ومنح الحماية لعناصر الأمن من أي مساءلة، والتدخل السافر في شؤون القضاء؛ كل ذلك يوفر التربة والأرضية الصالحة لانتشار الفساد والمحسوبية والفقر والمظالم والإجرام والنزعات؛ مما يؤدي في النهاية إلى تفسخ المجتمع وانهياره.
ما تحتاجه سورية -اليومَ- هو إلغاء المحاكم الاستثنائية التي باتت تمثل وصمةَ عار على جبين السوريين، هذه المحاكم التي يرفضها فقهاء القانون اليوم في العالم، وقد قال فيها المرحوم الدكتور محمد الفاضل، في كتابه (الجرائم الواقعة على أمن الدولة) في الصفحة 60: “إن إحداث المحاكم الجزائية الاستثنائية يؤول إلى حرمان الفرد من حقه في المثول أمام قاضيه الطبيعي”. كما وصفها الفقيه الفرنسي الكبير موريس غارسون، عضو المجمع العلمي الفرنسي، في مقال بعنوان (للقضاء تاريخه)، نُشر في مجلة القانون عام 1963 – العدد 7 قائلًا: “المحاكم الاستثنائية هي محاكم موظفي الملك، هي التي تشيع الإرهاب الأبيض في البلاد”.
ونحتاج أيضًا إلى إلغاء أو تعديل كافة القوانين الاستثنائية، بما ينسجم مع الاتفاقات والعهود والمواثيق الدولية التي وقّعت عليها سورية، وفي مقدمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، واتفاقية مناهضة التعذيب، والقانون الدولي الإنساني.
باختصار، دون الحرّية لن نستطيع أن نفتح بابًا، أو نرفع ظلمًا أو نصدّ عدوانًا أو نبني وطنًا.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً