بقلم الدكتورة وفاء جوهر
من المعلوم أن العقد يعكس من الناحية القانونية والواقعية تراضي طرفيه، وهو أمر لايحصل دائما بسهولة، إذ التعاقد بطريقة مبسطة إنما هي طريقة تلائم فقط العقود البسيطة وعقود الإذعان، وبالمقابل فإنه كلما ازدادت القيمة الاقتصادية للعقد كما هو الشأن بالنسبة لعقود التوريد الكبرى وعقود التنقيب على البترول ونقل التكنولوجيا، فإن تكوين العقد يفترض حصول مفاوضات بين طرفيه ، لتكوين تصور عام حوله، ودراسة جدواه الاقتصادية وتدبير مصادر التمويل .
غير أن الدخول في مفاوضات لا يفترض وجوبا إبرام العقد النهائي، لأن العروض المقدمة قد لا تلائم مصالح أحد الأطراف، وبالتالي فإن كل طرف يكون من حقه العدول عن التفاوض، وهذا الحق نابع في عمقه من مبدأ سلطان الإرادة والحرية التعاقدية، بحيث إنه لا يمكن قانونا إجبار أي طرف على قبول التعاقد، ولذلك فالقاعدة أن القاضي لا سلطة له في إتمام العقد الناقص .
ومع ذلك فإن التوسع في مفهوم الحرية التعاقدية على النحو أعلاه يتعارض من حيث الفلسفة مع ما يجب أن يحصل لدى الطرفين من اطمئنان وشعور بالأمان والجدية في إتمام عملية التفاوض بأريحية ،لأنه إذا ضاع هذا الشعور فلن يقدم أحد على الدخول في التفاوض، وهو ما يلحق أضرارا بليغة بالاستثمارات والمشاريع وكذا الصفقات التي يمكن عقدها محليا أو دوليا.
ومن هنا جاءت الإشكالية التي يطرحها هذا الموضوع، وهي كيفية الموازنة والملاءمة بين معطيين واقعيين،
أولهما الاعتراف للمتفاوض بحرية العدول عن المفاوضات وقطعها طبقا لمبدأ سلطان الإرادة،
وثانيهما وجوب توفير حماية قانونية للطرف الآخر انطلاقا من المبدأ العام الذي يقضي بأنه لا ضرر ولاضرار وأن الضرر يزال، فهل يمكن مساءلة المتفاوض مدنيا؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فما هي طبيعة هذه المسؤولية هل هي مسؤولية عقدية أم تقصيرية؟
سيدي الرئيس، أساتذتي الأفاضل أعضاء لجنة المناقشة،
إن الموضوع الذي اخترته ليكون محورا لهذه الأطروحة وهو المسؤولية المدنية في مرحلة التفاوض على العقد يكتسي أهمية كبرى من ثلاثة وجوه :
فمن الناحية القانونية فنحن أمام فراغ تشريعي، لأن المشرع لم ينظم مرحلة التفاوض على العقد بصفة نهائية، وهو ما يطرح إشكاليات قانونية حول مدى إمكانية مساءلة الطرف الآخر مدنيا، وهذا الفراغ التشريعي أفرز تصورات فقهية وقضائية غير واضحة أحيانا ومتباينة أحيانا أخرى .
أما من الناحية الاقتصادية فإن العقود كعقود نقل التكنولوجيا والصفقات الدولية يحتاج إلى تهيئ جيد تفاديا للمخاطر، وهو ما يفرض التفاوض بشكل منضبط وحماية هذه المرحلة قانونا .
أما من الناحية الاجتماعية فإن التفاوض على العقد يبقى ذا أهمية قصوى، لأنه يغزو كل ما في الحياة، بل إن الدول والمنظمات نفسها تدخل في مفاوضات للحصول إلى حلول مرضية للأطراف فليس إذن القول بأن النجاح في الحياة مرتبط إلى حد كبير بقدرة الإنسان على التفاوض، فتلك القدرة هي أحد أهم الأدوات التي توفر سبل النجاح .
إن أهمية الموضوع في جوانبه الثلاثـة القانونيـة والاقتصاديـة والاجتماعية، كانت محددا من بين المحددات التي دفعتنا إلى اختيار هذا الموضوع ، وإلى جانب ذلك فإنه خلافا للخزانة الدولية فقد وقفنا على فراغ فقهي في الخزانة الحقوقية المغربية على مستوى هذا الموضوع، إذ علاوة على نذرة الكتابات التي حاولت مقاربته، فإن هذه الكتابات نفسها ظلت محتشمة ولم تعالج الموضوع بالكفاية اللازمة لرفع الغموض عنه.
أضف إلى ما ذكر ما لمسناه على مستوى الواقع العملي من غياب الوعي الحقوقي بأهمية مرحلة التفاوض، بحيث لا ترفع دعاوي في الموضوع رغم حصول الضرر .
وبالمقابل فإن مثل هذه الدعاوي أصحبت مألوفة وعادية في القضاء الأجنبي، وهو ما يفرض أن نتهيأ قانونيا لحل مثل هذه النزاعات التي ستثار أمام المحاكم المغربية .
فهذه الاعتبارات الثلاثة مجتمعة فرضت علينا اختيار هذا الموضوع، للتأصيل له والتعريف به ومعالجة مختلف الإشكالات التي يثيرها ، وللوصول إلى هذه الغاية فقد اعتمدنا في كل مراحل هذه الدراسة منهجا مقارنا، حيث وجدنا أنفسنا مضطرين إلى الرجوع إلى الفقه والقضاء الفرنسي والمصري، نظرا لكونهما عالجا أغلبية الإشكالات المحيطة بالموضوع، مع الاعتماد في كل رأي نتوصل إليه على القواعد العامة المنظمة للالتزامات سواء في التشريع المغربي أو المقارن ، وذلك بهدف اقتراح الحلول التشريعية والفقهية البديلة عند الاقتضاء .
وهكذا فقد قسمنا الأطروحة إلى بابين، عرضنا في الأول لأحكام وشروط المسؤولية المدنية في مرحلة التفاوض وأساسها، وفي الثاني لوسائل دفع المسؤولية وآثارها .
الباب الأول : أحكام وشروط المسؤولية المدنية في مرحلة التفاوض.
لقد قسمنا هذا الباب إلى فصلين، عنونا الأول بالإطار القانوني للمسؤولية المدنية في مرحلة التفاوض، وقد قسمناه بدوره إلى فرعين خصصنا الأول لخصائص التفاوض ومراحله، والثاني لطبيعة المسؤولية المدنية في مرحلة التفاوض .
إن أول تساؤل أثير أمامنا بخصوص معالجة الموضوع هو تحديد طبيعة التفاوض، وهل يتعلق الأمر باتفاق حقيقي قائم بين الأطراف، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد عمل مادي لا يتجاوز هذا النطاق .
ولقد وقفنا ونحن نعد هذه الدراسة على طبيعة المفاوضات، وخلصنا إلى أنها لاتعتبر مجرد عمل مادي يمهد لإبرام العقد كما يذهب إلى ذلك البعض، بل إنها ذو طابع اتفاقي، ومؤيدنا في ذلك أن اتفاق التفاوض قد يفرغ في شكل كتابي، حيث يحدد الأطراف زمان التفاوض ومكانه وكيفية توزيع المصاريف، أو في اتفاق إضافي كما هو الشأن بالنسبة للاتفاقات المؤقتة التي تهدف إلى تحديد الالتزامات المؤقتة خلال مرحلة التفاوض، وكذا الاتفاقات الجزئية التي تهدف إلى حصر النقط المتفق عليها وعدم العودة إليها من جديد، ففي هذه الحالات لا يطرح إشكال في تكييف العقد،
وقد يتم ذلك بطريقة ضمنية ودون كتابة، حينما يتم الدخول في المفاوضات مع الالتزام بالسعي إلى إبرام العقد أوعند طلب معلومات . وهنا نشير إلى أن عدم كتابة الاتفاق على التفاوض لا ينفي عنه طابعه التعاقدي ، لأن الكتابة هنا ليست شرطا لقيام العقد .
وقد يكون الالتزام بالتفاوض التزاما ناشئا عن علاقة تعاقدية قائمة ، ونمثل لهذه الحالة بشرط إعادة التفاوض الذي يدرجه الأطراف في العقود المستمرة التنفيذ، حيث يلزم الأطراف الجلوس للتفاوض كلما تغيرت الظروف الاقتصادية، وذلك كما هو الشأن بالنسبة لعقود توريد البترول ، حيث أن أسعاره تتغير يوميا في البورصة، ومن تم فإن الأطراف يدرجون شرط إعادة التفاوض في مثل هذا النوع من العقود .
ومن أمثلة هذه الحالة كذلك الوعد بالتفضيل الذي يلتزم فيه الواعد بإعطاء الأولوية في التعاقد للموعود له، ولذلك فكلما رغب في التعاقد فإنه يلزمه أن يخطر بذلك الموعود له أولا ويتفاوض معه ،حتىإذامافشلت المفاوضات القائمة بينها حق له أن يتعاقد مع طرف آخر .
ورغم الطابع الاتفاقي الذي للتفاوض ، فإنه يحتفظ بطابعه الاحتمالي لإنه إنما يهدف فقط إلى التحضير والإعداد لإبرام العقد ، إذ لا يمكن التنبؤ منذ البداية بما ستسفر عنه المفاوضات، كما أنه لا يوجب إبرام العقد النهائي.
وبعد ذلك عرضنا لإشكالية جوهرية في إطار معالجتنا لهذا الموضوع ، فإذا كان الفقه والقضاء قد اتفق على أن هذه المرحلة لا يمكن أن تبقى خارجة نطاق الحماية التي يوفرها القانون للطرف المتضررفإن السؤال الجوهري الذي يطرح بقوة وهو:
ما هو الإطار القانوني الذي نناقش فيه المسؤولية المدنية للمتفاوض هل هو إطار المسؤولية العقدية أم التقصيرية؟ فهل يدخل كجزء من مراحل العقد أم أنه تبقى مجرد عمل مادي لا علاقة له بالنطاق العقدي.
لقد عرضنا لمختلف النظريات الفقهية والقضائية التي حاولت التأصيل لهذه الإشكالية، ومبرراتها، وأسسها، ثم الانتقادات الموجهة لها لنصل إلى وضع مقترحات بخصوص ذلك .
أما الفصل الثاني من هذا الباب الأول فقد عنوناه بشروط وأساس المسؤولية المدنية في مرحلة التفاوض ، وتناولنا في الفرع الأول منه شروط المسؤولية موضوع المناقشة وهي الخطأ والضرر والعلاقة السببية ، وانسجاما مع الموضوع وخصوصيته فقد وقفنا على المعايير الكفيلة بتحديد ماهية السلوك الخاطئ ، وقد قدمنا بعض صور الخطأ العقدي والمثمتلة في :
– الامتناع عن الدخول في المفاوضات .
– التعسف في قطع المفاوضات .
– دفع المتفاوض إلى قطع المفاوضات
– مخالفة أحد الالتزامات الناتجة عن التفاوض .
وحددنا كذلك بعض صور الخطأ التقصيري والمتمثلة في التجسس وتعطيل المتفاوض والاساءة إلى سمعته .
وبعد ذلك عالجنا عنصر الضرر، وبينا ماهيته ونطاقه، ثم عرضنا لبعض صوره الأكثر حدوثا من الناحية العملية سواء منها المادية المرتبطة أساسا بمصاريف التفاوض أوتفويت فرص إبرام عقود بديلة، أو المادية المعنوية المتمثلة في الإضرار بالسمعة التجارية أو إفشاء الأسرار.
ثم عرضنا لشرط علاقة السببية بين الخطأ الصادر عن المتفاوض أو الغير والضرر الذي أصاب المتفاوض المدعي، ومختلف الإشكالات التي تطرحها عند تعدد وتداخل العوامل المؤدية للنتيجة الضارة كتدخل الغير في قطع المفاوضات الجارية ، بحيث يلزم والحالة هذه تحديد العامل الذي أدى بشكل مباشر أو كان له دور أكبر من باقي العوامل في إحداث النتيجة.
أما الفرع الثاني من هذا الفصل فقد خصصناه للبحث في الأساس القانوني للمسؤولية المدنية في مرحلة التفاوض، وهي مسألة من الأهمية بمكان، إذ ينبني عليها تحديد الطرف الملزم بإثبات الخطأ.
ورغم صعوبة ودقة المسألة، فإننا قد حاولنا جهد الإمكان – أن نجيب عن السؤال الفلسفي الصعب- وهو لماذا نسائل المتفاوض في هذه المرحلة ؟ والحال أنه يملك الحرية الكاملة في إتمام التعاقد أو العدول عنه، أليس في إقرار المسؤولية المدنية ضرب لمبدأ سلطان الإرادة في الصميم ؟ لقد اختلفت التبريرات التي قيل بها كأساس لمساءلة المتفاوض، بحيث اعتبرها كثير من الفقهاء مسؤولية أساسها الخطأ الواجب الإثبات،مع خلاف بينهم حول ماهية الالتزام الذي يشكل خرقه خطأ موجبا للمسؤولية، حيث اعتبر البعض أنه يتمثل في التدليس الواقع من المتفاوض، واعتبره آخرون أنه يتجسد في التعسف في استعمال حق إنهاء المفاوضات.
لأنها عالجت الموضوع من زاوية العقد التام لا من زاوية مرحلة التفاوض، فإننا نؤكد هنا أن أساس المسؤولية المدنية للمتفاوض هو الإخلال بمبدأ حسن النية الذي يفرض التفاوض بروح من التعاون وإعلام الطرف الآخر بعناصر العقد .
أما الباب الثاني من هذه الأطروحة فقد عنوناه بـ وسائل دفع المسؤولية المدنية في مرحلة لتفاوض وآثارها، فقسمناه إلى فصلين، تناولنا في الأول وسائل دفع المسؤولية ، فلكي يتحلل المدعى عليه من المسؤولية المدنية يلزمه أن يثبت أن سببا أجنبيا هو الذي أدى إلى حدوث الضرر ، كما هو الشأن بالنسبة للحادث الفجائي والقوة القاهرة، لأنه من غير المقبول أن نفرض النتيجة في حالة الاستحالة، فلا تكليف بمستحيل .
وقد لا تجتمع في السبب شروط القوة القاهرة أو الحادث الفجائي ، ومن تم فهو لا يدفع المسؤولية عن المتفاوض حتى ولو أدى ذلك إلى جعل تنفيذ الالتزام مرهقا بالنسبة للمدين، بل أكثر من ذلك فإن القاضي لا يمكنه التدخل لتعديل بنود العقد وإعادة توازنه، ولتفادي هذا الوضع فإن الأطراف التجارة الدولية المستمرة، يتنبهون إلى إمكانية حدوث طوارئ من شأنها عرقلة تنفيذ العقد، كاندلاع الحروب وغيرها، فيدمجون بندا في العقد بمقتضاه يلتزم الأطراف بالتفاوض من جديد حول شروط العقد، وهو ما يسمى فقها بشرط إعادة التفاوض .
وبالإضافة إلى ما ذكر فإن المتفاوض المدعى عليه يمكنه دفع المسؤولية المدنية بخطأ المتضرر نفسه أو فعل الغير، على اعتبار أن الشخص لا يسأل إلا في حدود الضرر الناتج عن فعله، نعم يمكن أن نتصور في الحالتين المذكورتين ألا يتم دفع المسؤولية إلا بشكل جزئي فقط متى تداخلت عدة عوامل في إحداث النتيجة الضارة ، فهنا نكون أمام فرضية المسؤولية المشتركة والتي توجب البحث عن معايير تشطيرها بين الأطراف.
وبالإضافة إلى حالات الإعفاء القانوني أعلاه، فإنه يمكن للأطراف الاتفاق على شرط الإعفاء من المسؤولية مما يطرح معه السؤال حول شرعية هذا الاتفاق وأثره ؟
أما الفصل الثاني من هذا الباب فقد خصصناه لآثار المسؤولية المدنية في مرحلة التفاوض، وقسمناه بدوره إلى فرعين عالجنا في الأول أحكام دعوى المسؤولية المدنية في مرحلة التفاوض، من خلال الحديث عن ضوابط الاختصاص الوطني والدولي ، وحدود إرادة الأطراف في سلب الاختصاص عن القضاء الوطني ، بل وسلبه عن القضاء عموما من خلال اللجوء إلى خيار التحكيم ، كوسيلة من شأنها الحفاظ على أسرار التفاوض، وإضافة إلى ما ذكر فإنه تطرح مجموعة إشكالات على مستوى أطراف الخصومة، ووسائل الإثبات المعتمدة ، وتقادم الحق في اقتضاء التعويض.
أما الفرع الثاني من هذا الفصل فقد عنوناه بالحكم في دعوى المسؤولية المدنية في مرحلة التفاوض، ووقفنا من خلاله على أن الأصل هو الحكم بتنفيذ الالتزام عينا متى كان ذلك ممكنا، وعند تعذر التنفيذ العيني فإنه يسار إلى التعويض، فهل يمكن تصور إمكانية إجبار المدين على تنفيذ الالتزامات الناتجة عن قبوله الدخول في المفاوضات بطريقة عينية؟ أم أن إقرار جواز التنفيذ العيني سيصطدم بمبدأ أقوى وهو مبدأ سلطان الإرادة ، ومبدأ مكمل له وهو أن المحكمة لا دور لها في إكمال العقد وتكوينه، ويتفرع عن هذه النقطة تساؤل آخر يرتبط بحالة التزام أحد الأطراف بالتفاوض تطبيقا لشرط التفضيل، ومع ذلك أبرم عقدا مع طرف ثالث خرقا للاتفاق ، فهل يمكن للموعود المطالبة بإبطال العقد المبرم مع الغير خرقا لشرط التفضيل،أو أن يحل محل المتعاقد في العقد بحيث يصير هذا الأخير كما لو تعاقد معه مباشرة .
أما فيما يخص التعويض النقدي فإنه يخضع مبدئيا للسلطة التقديرية لقضاة الموضوع، مع إمكانية اتفاق الأطراف على تحديده ،علما أن هذا التحديد الذي يسمى فقها بالشرط الجزائي يخضع للرقابة القضائية حفاظا على التوازن الاقتصادي للعقد.
تلكم هي أهم النقط والخطوط العريضة، والإشكالات التي عرضت لها من خلال الأطروحة التي قمت بمناقشتها، ولا أدعي في هذا العمل الكمال، فكل عمل إنساني تبقى سمته القصور، إذ لا عصمة لبشر، ولا كمال إلا لشريعته تعالى .
اترك تعليقاً