صفحة مطوية من تاريخ القضاء الشرعي بمصر
للأستاذ الشيخ محمود عرنوس القاضي بالمحاكم الشرعي
(1)
من يتأمل لائحة المحاكم الشرعية القانون رقم (31) سنة 1910 يرى أنه ألحق به بيانًا للأوامر العالية الملغاة من قوانين هذه المحاكم ويلفت نظره أمر عالٍ صدر في 5 المحرم سنة 1317هـ، 15 مايو سنة 1899م قضى هذا الأمر بإلغاء المادتين (8)، و(9) من لائحة المحاكم الشرعية الصادرة في سنة 1897، والاستعاضة عنهما بمادتين جديدتين تقضيان بوجود اثنين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية في عضوية المحكمة العليا الشرعية ويلفت نظره أيضًا بصفة أخص أمر عالٍ آخر صدر في 24 المحرم من السنة نفسها 3 يونيه سنة 1899 بوقف تنفيذ الأمر السابق.
وقليل من رجال المحاكم الشرعية الآن من يعرف الظروف التي أحاطت بصدور الأمر الأول والحركة التي أعقبتها حتى أنتجت صدور الأمر الثاني الذي قضى على الأول في مهده والمشادة التي حصلت بين حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسونة النواوي شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية في ذلك الوقت،
وبين سعادة بطرس باشا غالي ناظر الخارجية في حكومة ذلك العصر التي ترتب عليها تضحية فضيلة الأستاذ بمركزية الجليلين في سبيل حرية الرأي وإراحة الضمير محتفظًا بالشرف والكرامة، ومن يعلم منهم السبب ربما لا يكون اطلع على ما كتب في هذا الموضوع وما ألقي في مجلس النظار من رجال الحكومة، وقد أتاحت لي الفرص العثور على صور هذه الخطابات والمذكرات التي حوت بيانًا وافيًا عن تاريخ القضاء الشرعي في مصر من لدن المرحوم محمد علي باشا وإلى مصر إلى أن قطعت العلاقة بين مصر وتركيا إبان الحرب العالمية سنة 1914.
ولما كان في نشر مثل ذلك من الفوائد الكثيرة التي تعود على المشتغلين بالقضاء الشرعي فضلت إذاعتها حتى يعم النفع بها بواسطة (مجلة المحاماة الشرعية).
من يرجع إلى ما كتبه المستشار القضائي عن المحاكم الشرعية في تقريره سنة 1899 والتقارير التي تقدمته يرى أنه كثيرًا ما يهاجم المحاكم الشرعية وبالأخص المحكمة العليا وكثيرًا ما طلب الإصلاح ولكنه كان يتعجل الزمن فلازمه الفشل في أغلب ما طلب.
حتم المستشار القضائي في سنة 1899 إجراء عمل خطير في محكمة مصر العليا الشرعية بإدخال عنصر جديد – كما يقول – بين قضاتها ولكن قاضي مصر سماحة جمال الدين أفندي وفضيلة الشيخ حسونة النواوي عارضا رغبة الحكومة أشد المعارضة ولم يسع مجلس النظار إلا أن يتمشى مع رغبة المستشار القضائي فعرض على المجلس مشروع أمر عالٍ في ذلك التاريخ بالإصلاح المطلوب وتليت بالمجلس ثلاثة تقارير كل منها يؤيد وجهة النظر في طلب هذا الإصلاح أحدها من ناظر الحقانية إبراهيم باشا فؤاد والثاني من المستشار القضائي، والثالث من ناظر الخارجية بطرس باشا غالي (تقرير ناظر الحقانية).
بنى حضرات قاضي مصر ومفتي الديار المصرية رأيهما في رفض مشروع انتداب قاضيين مسلمين من قضاة محكمة الاستئناف الأهلية ليكونا عضوين بالمحكمة العليا الشرعية على سببين:
السبب الأول: عدم جواز تولية من لم يكن موصوفًا بالقدرة على معرفة القول الراجح من المرجوح والضعيف من الصحيح من مذهب الإمام الأعظم لأن من يتولى الأحكام الشرعية مأمور بالحكم والفتوى بالقول الصحيح من مذهب أبي حنيفة ويكون من الممارسين للمرافعات والأحكام الشرعية.
السبب الثاني: أن سماحة قاضي مصر حيث كان منصوبًا من لدن الخلافة العظمى فإشراك أحد من قضاة محكمة الاستئناف معه في الأحكام لا يسوغ شرعًا ولا يسعه الإذن له كما يستفاد ذلك من النصوص.
فعن السبب الأول: نقول لا شك أن القاضيين اللذين سيندبان للمحكمة العليا يكونان حائزين لما تستلزمه هذه الوظيفة من الدراية بالأحكام الشرعية وإذن يكون انتداب القاضيين المذكورين موافقًا لما تقتضيه القواعد الشرعية فضلاً عن أن رعاية تحقق هذه الأوصاف من الأمور الإدارية التي تختص بالحكومة دون سواها.
أما عن السبب الثاني: وهو الأهم فإنا مع احترامنا التام لرأي هذين الفاضلين وإجلالنا كل الإجلال لأفكارهما وتسليمنا بأن ما أفتيا به موافق للنصوص الشرعية إذا كان ما بني عليه هو الواقع نرى أن عدم تمام وقوفهما على أساس المشروع والاستيضاح من ناظر الحقانية عنه هو الذي ألجأهما للقول بأنه مخالف لنص الشريعة الغراء مع أنه لم يقترح فيه التطبيق على شريعة غير الشريعة الإسلامية ولم يغير شيئًا من النظام الحالي الذي قررته الحضرة الخديوية بأمرها الصادر في 25 ذي الحجة سنة 1314، 27 مايو سنة 1897 وقبله حضرة القاضي وسار عليه العمل ولم يزل يعمل بمقتضاه إلى الآن بل غاية ما اشتمل عليه هو استبدال عضوين بغيرهما فأي مخالفة للشريعة الإسلامية تكون من وراء هذا الاستبدال متى كان القاضيان المراد انتدابهما محرزين للعالمية التي جعلها المشار إليهما شرطًا للتولية
ولكن ما أشرنا إليه من عدم تمام وقوف حضرتهما على أساس المشروع دعاهما إلى الدخول في موضوع مسألة دقيقة تتعلق بحقوق جلالة السلطان والجناب الخديو في تعيين قاضي مصر الأمر الذي ألجأنا بحكم الضرورة وعلى غير اختيار إلى البحث فيه وإذا كان لا مندوحة لنا عن ذلك البحث نقول قد فصلت كتب الشريعة الإسلامية التي منها حواشي العلامة ابن عابدين على الدر المختار والفتاوى الهندية ومعين الحكام وكتاب الأحكام السلطانية [(1)]،
وبينت حدودها وانقسام ولاية الأمراء إلى عامة تنظم تولية القضاء، وخاصة على خلاف ذلك، ولا شك أن الخديوية ولاية عامة يندرج فيها ولاية القضاء الشرعي بالقطر المصري فحينئذٍ تكون تولية القضاة الشرعيين للجناب العالي الخديوي وحقًا من حقوقها الشرعية، على أن الحقيقة في ذلك تنكشف بشرح سير القضاء الشرعي بالقطر المصري، فإليكم بيان الحالة والواقع، إن حكومة مصر كانت تتولى بمعرفتها تعيين القضاة في عموم المديريات والمحافظات إلا في القاهرة فقط فإنه كان يرسل لها سنويًا من الآستانة العليا قاضٍ بموجب فرمان شاهاني واستمر الحال على هذا المنوال إلى تولية المغفور له إسماعيل باشا الخديوي الأسبق ففي عهده انقطع إرسال ذلك القاضي وشكلت لجنة من أكابر العلماء الأفاضل كان من بينهم العلامة المرحوم الشيخ محمد العباسي المهدي مفتي الديار المصرية وشيخ الجامع الأزهر وانتخبت هذه اللجنة قاضيًا لمصر وقد أصدر المغفور له الخديوي الأسبق مباشرةً،
وبدون أدنى تدخل من الباب العالي أمره الكريم بتعيينه وإذنه بالفصل في الأحكام الشرعية بما له من الولاية العامة، ووقع هذا التعيين على القاضي السالف المرحوم الشيخ عبد الرحمن نافذ أفندي الذي مكث في وظيفته أكثر من خمس عشرة سنة أصدر هو ومن كان معه من أعضاء المحكمة في خلالها أحكامًا شتى اعتبرت صحيحة في نظر المرحوم الشيخ محمد العباسي المهدي مفتي الديار المصرية، وشيخ الجامع الأزهر وحضرات العلماء بدليل ما اشتملت عليه الفتاوى المهدية من التصديق على كثير منها وذلك بالضرورة لم يكن إلا لاعتبارهم إياها صادرة من أهلها في محلها فلو كان ذلك التعيين من قبل الجناب الخديوي محلاً لأدنى ريب لما وسع حضرات من ذكروا اعتبار تلك الأحكام والتصديق عليها.
كل هذا والباب العالي يعلم ذلك ولم يصدر منه أدنى ملاحظة عليه فضلاً عن إقراره على تلك التولية بما تضمنه فرمان ترقية المرحوم المشار إليه لدرجة قضاء مكة حيث أرسل له ذلك الفرمان ولم يصدر له أمر بتولية قضاء مكة لعلمه باشتغاله بوظيفة قاضي مصر التي نالها من قبل الخديوية المصرية غير أن هذه الأحكام بأسرها التي صدرت في كل هذه المدة الطويلة رغمًا عن اعتبارها صحيحة وموافقة لأحكام الشرع الشريف بمعرفة جهابذة العلماء الأعلام تكون حتمًا لاغية مخالفة للنصوص الشرعية لو سلمنا بأن الجناب الخديو لا يملك حق تعيين قاضي مصر.
وبعد وفاة المرحوم الشيخ عبد الرحمن نافذ أفندي نحت الحكومة نحو إسماعيل باشا في انتخاب بدلة بمعرفتها، ولذلك طلب المغفور له توفيق باشا إرسال نجل عبد الرحمن أفندي الذي كان يشغل وقتئذٍ وظيفة بالآستانة العليا فأرسلت الصدارة العظمى تلغرافًا للخديو السابق اقتصرت فيه على الأخبار بأن سماحة جمال الدين أفندي عين لمأمورية أمور مصر الشرعية وأنه سافر لمصر بدون أن تذكر شيئًا عن قضاء مدينة مصر أو عن وفاة عبد الرحمن أفندي كأنها أوجدت مأمورية جديدة وعينت لها سماحة جمال الدين أفندي فما كان من الخديوي السابق إلا أنه أصدر أمرًا بأن الأفندي المشار إليه تعين قاضيًا لمصر بدلاً من عبد الرحمن أفندي مخالفًا في ذلك نص التلغراف الوارد إليها، هذه هي حادثة تعيين سماحته التاريخية، ولكن ما هو سند ولايته لقضاء مصر ؟ لا يجوز أن يقال إنه إخطار الصدارة العظمى المشار إليه لأن ما يتضمنه يدل على أن اللفظ الذي صدر له ليس من الألفاظ الصريحة لتولي القضاء شرعًا وهو لفظ مبهم كناية خالية من القرائن فلا يفيد تعيينا ولا تملك به ولاية.
وذلك أن ألفاظ التعيين على ما نطقت به عامة كتب الفقه الشرعية التي منها ما سبق تسميته، تنقسم إلى صريح لا يحتاج إلى قرينة ومنه وليتك القضاء وعينتك قاضيًا ونحوها.
وإلى كناية، ومنه عهدت إليك ونحوه تحتاج إلى قرينة تعين المراد منها.
ومع كونه كناية قد احتفت به قرائن تصرفه عن إرادة ولاية القضاء به نوردها هنا لمزيد الإيضاح:
أولاً: سابقة تعيين المغفور له الخديو الأسبق للشيخ عبد الرحمن أفندي نافذ بما له من الولاية الشرعية العامة واستمرار القاضي المذكور متولي الأحكام نافذها من غير نكير ثم طلب نجله بعد وفاته بمعرفة المغفور له الخديوي السابق بقصد تعيينه بدلاً من أبيه.
ثانيًا: نطق الفرمانات الشاهنية وبالأخص منها فرمان الجناب الخديو الذي وضحت به هذه الولاية تمام الوضوح حيث اشتمل على ما نصه:
(وأن الخديوية المصرية ملزمة بإدارة أمور المملكة الملكية والمالية والعدلية) بشمول ولاية الخديوية للقضاء فضلاً عن صراحة الفرمانات المشار إليها بتخويل الخديوية المصرية حق سن اللوائح والقوانين أهـ.
(2)
ثالثًا: عدول الآستانة العليا عن تقاليدها القديمة التي بموجبها كانت تصدر الفرمانات الشاهانية المتعلقة بقناصل الدول بمصر باسم الخديوي، وقاضي مصر في سنة 1308هـ، وهي السنة التي عين فيها سماحة جمال الدين أفندي بصفة كونه مأمورًا كنص التلغراف.
رابعًا: صدور فرمان شاهاني بتوليته القضاء على خلاف العادة التي كانت قبل تعيين عبد الرحمن أفندي من المغفور له إسماعيل باشا.
خامسًا: نص المادة الرابعة من لائحة المحاكم الشرعية الصادرة في سنة 1880 التي جرى تحضيرها بمعرفة المرحوم العلامة الشيخ محمد العباسي شيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية، وحضرة عبد الرحمن أفندي نافذ قاضي محكمة مصر وقتذاك حيث جعلت هذه المادة انتخاب وتعيين قاضي العاصمة المحروسة منوطًا بالحضرة الخديوية.
سادسًا: قبول حضرة القاضي لتصرف الحكومة المصرية في وظيفة القضاء الشرعي بالتخصيص والتعميم والتغيير والإطلاق وقبول إعادة النظر في الأحكام مما تضمنته لائحة سنة 1897 إذ هذا التصرف لا يصح العمل به إلا إذا كان صدوره ممن له ولاية تعيين القضاة في مصر.
سابعًا: قبول سماحته مشاركة قضاة لم يستمدوا تعيينهم إلا من الجناب الخديوي في سلطته القضائية وفي الفصل في الدعاوى بمقتضى نصوص لائحة ترتيب المحاكم الشرعية التي جاء بالمادة السادسة منها ما نصه (تتألف محكمة مصر من قاضي مصر وخمسة أعضاء وتصدر الأحكام من ثلاث منهم)، وبالمادة الثامنة منها المعدلة بالأمر العالي الصادر في 14 رمضان سنة 1315، الموافق خمسة فبراير سنة 1898 ما نصه (تشكل بمحكمة مصر الشرعية محكمة عليا مؤلفة من خمسة وهم قاضي مصر بصفة رئيس ومفتي نظارة الحقانية وثلاثة أعضاء)،
وبالمادة (74) منها ما نصه (الأحكام التي تصدر يلزم أن تكون مشتملة على الوجه الشرعي الذي بنى عليه الحكم وصدورها من المجالس الشرعية يكون باتحاد الآراء أو بالأغلبية) إذ قد يجوز بمقتضى هذا النص – الذي قبله سماحة القاضي وسار عليه – أن يكون سماحته في الفريق الذي لم تكن الأغلبية في جانبه ومع ذلك يصدر الحكم بالأغلبية ولا يعد نفاذه مخالفة لرأي سماحته، وقبول سماحته لتلك المشاركة عملاً بهذه اللائحة لا ينطبق على القول بأن ولاية قضائه مصدرها الخليفة الأعظم.
ثامنًا: ما اشتملت عليه الفتاوى المهدية من أن لخديو مصر ولاية التصرف في القضاء على ما تضمنته أجوبته في الحوادث التي تتعلق بنحو هذا الموضوع.
تاسعًا: اعتراف المرحوم عبد الرحمن نافذ أفندي بمثل ذلك على ما تضمنته تلك الفتاوى (راجع فتاوى الشيخ المهدي جزء سادس صفحة 596) اتضح بهذا عدم جواز أن يكون سند تعيين سماحته لقضاء مصر تلك الإشارة التلغرافية التي تصلح لوظيفة لا وجود لها في السابق كما قدمنا وتعين إذن أن يكون سند ولاية سماحة القاضي في وظيفة قضاء مصر التي عين فيها
واستمر على تأديتها للآن قاصرًا على الأمر الكريم الصادر من الخديوية المصرية في أول إبريل سنة 1891 السابق الإشارة إليه عن ولاية عامة كان بمقتضاها تعيين عموم القضاة الشرعيين في سائر ولايات القطر المصير وهم لا يقلون عن قاضي مصر في السلطة والاختصاص وبمقتضاها أيضًا سنت لوائح للمحاكم الشرعية وتعينت هيئة لمحكمة مصر للفصل في القضايا بالاتحاد مع قاضيها بإقرار ورضا حضرات العلماء وبدون أن تبدو منهم أي معارضة كل هذا براهين تدل الدلالة الصريحة على أن كلا السببين اللذين بنى عليهما رفض المشروع لا يصح التمسك بهما في رفضه
فضلاً عن معارضة أساس الرفض لما جرى عليه القضاء الشرعي في الأقطار المصرية من نحو نصف قرن وأما إذن سماحة القاضي لمن يقتضي مشروع الحكومة انتدابهما للمحكمة العليا فحيث يكون استمداد ولايتهما الشرعية من الجناب الخديو الذي هو مصدر ولاية كل قاضٍ في مصر فذلك الإذن يكون بالطبع لا محل له على أن المشروع الذي نحن بصدده لم يحدث تغييرًا في نظام الأحكام الشرعية الذي تقرر بلائحة سنة 1897،
وبمقتضاها صار سماحة قاضي مصر رئيسًا للمحكمة العليا التي تفصل في الأحكام المطعون فيها وخولته بذلك حقًا زاد في سلطته واختصاصه القضائي حيث كان العمل قبل هذا النظام جاريًا على عرض الأحكام التي تصدر منه ويطعن فيها على جمعية تشكلها نظارة الحقانية، وتتولى انتخاب أعضائها الذين منهم شيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية (راجع المادة الثالثة من لائحة المحاكم الشرعية الصادر سنة 1880)، ولهذا فأملنا وطيد بعد هذا البيان وإيراد الأدلة التي استنارت بها الحقيقة وبعد علمنا بأن حضرات الفاضلين من خيرة من يتمسك بالحقائق ويقتدي به في تقريرها أنهما يوافقاننا فيما أنتجته تلك الأدلة، والأوراق المؤيدة لما أبدينا موجودة معنا في 7 مايو سنة 1899 الإمضاء إبراهيم فؤاد.
هذا ما كتبه سعادة ناظر الحقانية، أما ما كتبه سعادة ناظر الخارجية بطرس باشا غالي فنصه هو الآتي:
أيها السادة، إن المسألة التي نحن بصددها هي من أدق المسائل لأن من مقتضاها البحث في علاقات الخديوية المصرية مع الآستانة العليا، وبعبارة أخرى معرفة الامتيازات الممنوحة من جلالة السلطان الأعظم لمصر، وهذه المسألة لا يعزب على المجلس أنها خارجة عن حدود دائرته إلا أنه لما كان التكلم عنها أصبح ضروريًا بعد ما قيل من المجلس في شأن مسألة ضم عضوين على المحكمة العليا أردت أن أدخل فيها لا من بابها الشرعي لأن رفيقي ناظر الحقانية تكلم عن ذلك بل من بابها السياسي، وحينئذٍ أقول:
من المسلم أن القضاء هو حق لكل حاكم مطلق التصرف في بلاده يتولاه بنفسه أو ينيب فيه من يشاء، وعليه ننظر هل الخديوي يملك ذلك الحق ؟ لا شك في أنه يكفي للإجابة عن هذا السؤال أن نبحث عن الفرامانات الصادرة من لدن جلالة السلطان المعظم فنرى أنه نص فيها صريحًا بأن للخديوي حق التصرف في الأمور المالية والإدارية والقضائية، وهذه اللفظة الأخيرة هي ما يعبر عنها في الآستانة بلفظ عدلية وهنا لفظ حقانية، أما التعبير الفرنسي فإنه شامل لكافة أنواع القضاء، وبمقتضى هذا الحق تشكلت في البلاد باتفاق مع الدول محاكم مختلطة تصدر أحكامها على الأهالي والأوربيين الموجودين في القطر المصري باسم الخديوي المعظم بعد أن كانت الأحكام لا تصدر على الأوربيين إلا من قنصلياتهم باسم ملوكهم
فهذا الوجه وحده كان سياسيًا في إثبات الولاية العامة للحضرة الخديوية كذلك شكلت الحكومة المصرية محاكم أهلية وصرحت لها فيما عدا الأحوال الشخصية بالنظر في كل المسائل التي تقع بين الأهالي مدنية كانت أو تجارية أو جنائية وأجازت لها إصدار جميع الأحكام بما في ذلك من الحكم بالإعدام وجميع هذه الأحكام تصدر أيضًا باسم الحضرة الخديوية، وبعد هذا ما الذي يكون باقيًا بالمحاكم الشرعية، إني لا أخبر بغير واقع إذا قلت إن جل أحكامها بل كلها لا تعلق لها إلا بالأحوال الشخصية فهل يعقل سياسيًا أن يكون للخديو الحق في تعيين قاضٍ يكون له أن يحكم بالإعدام ولا يكون له الحق في تعيين قاضٍ الحكم في الأحوال الشخصية،
حاشا والواقع يصدقنا، فإنه قبل أن يكون لولاة مصر الولاية المطلقة كان تعيين القضاة من الآستانة ثم تقرر دفع مبلغ معلوم لأجل أن تكون تولية قضاة المديريات والمحافظات بمعرفة الحكومة المصرية ولم يبقَ للآستانة إلا تعيين قاضٍ لمدينة مصر فقط كما قال سعادة ناظر الحقانية إلى أن تعين المرحوم الشيخ عبد الرحمن أفندي نافذ، فبطل الإرسال وتكلفت الحكومة المصرية بأن تدفع مبلغًا لمن يعين قاضيًا سنويًا ويبقى بالآستانة وهذا ما هو جارٍ عليه العمل للآن، فكيف يصح للآستانة حينئذٍ أن تعين قاضيين لجهة، واحدة أن سلمنا جدلاً أن سماحة جمال الدين أفندي عين قاضيًا لمصر من الآستانة في سنة حضوره،
فمأموريته تكون قد انقضت بمضي سنة لأنا دفعنا في كل السنوات التي أعقبت عام تعيينه المبلغ المقرر لمن تولى القضاء والقاعدة في الآستانة كما هو معلوم وكما كان جاريًا قبل تعيين الشيخ عبد الرحمن أفندي نافذ أن القاضي لا يمكث في القضاء الذي يعين له زيادة عن سنة.
ألا يظهر بأجلي بيان مما ذكر أنه لا يمكن تعيين قاضٍ لمصر من الآستانة وأنه كما حصل في باقي قضاة المديريات والمحافظات حصل أيضًا في قضاة مدينة مصر ولهذا ساغ للمغفور له إسماعيل باشا أن يصدر أمرًا بتعيين عبد الرحمن أفندي نافذ ويذكر فيه أن له الولاية العامة فهذا أيضًا هو السبب الأقوى في تعيين جمال الدين أفندي لمأمورية الأمور الشرعية بالقطر المصري لا لقضاء مصر.
بقي علينا أن ننظر إذا كانت هذه الولاية العامة التي كانت لإسماعيل باشا اعتراها نقص من بعده.
نبحث في كل الفرمانات فلا نرى أثرًا لذلك بل نجد أن الامتيازات الخديوية بقيت كما هي بما فيها حق سن القوانين واللوائح وغيره وترتب على هذا الحق أن الحكومة عملت ترتيبًا بمحكمة مصر وجعلت الأحكام تصدر من ثلاثة قضاة لا من قاضٍ واحد وأوجدت محكمة عليا تستأنف أمامها أحكام تلك المحاكم وبهذا الحق أشركت رجال الإدارة مع القضاة بما فيهم قاضي مصر في تعيين الأوصياء والقوام وجعلت استئناف قضايا الحجر أمام محكمة الاستئناف الأهلية فلماذا قبل كل هذا ولا يقبل تعيين عضوين لمحكمة مصر العليا ؟ أن تعيين عضوين تحت رئاسة سماحة القاضي مع وجود عالمين آخرين معهما لأهون بكثير من نزع جزء من الأحوال الشخصية من المحاكم الشرعية وإعطائه لجهة أخرى هي المحاكم الأهلية.
بقي علينا أن نتكلم في إذن القاضي بالحكم هذا الأمر وإن كان من الأمور الشرعية إلا أنه من أهم الأمور السياسية إذ ينبني عليه الإخلال بمستلزمات الولاية المطلقة بل ينبني عليه محو وإفقاد الولاية المذكورة ولهذا لا نجيب عنه إلا بالواقع وهو أن سماحة قاضي مصر إما أن يقبل أنه معين من قبل الخديو وحينئذٍ لا يكون هناك احتياج لإصدار إذنه لمن يعينه الخديوي كما هو الواقع وإما أن يقول إنه معين من قبل جلالة السلطان وحينئذٍ يكون موضع إشكال ولكي تعلم وجه ذلك الإشكال ها هي صورة التلغراف الوارد من الآستانة للمغفور له إسماعيل باشا بشأن الاتفاق الذي حصل قبل تعيين عبد الرحمن أفندي نافذ ومنها يظهر أنه تقرر دفع مبلغ مائتين وخمسين ليرة عثمانية شهريًا لمن يعين قاضيًا لمصر سنويًا،
ويبقى في الآستانة وأن النائب الذي يكون بمصر ينتخب بمعرفة الخديوي ويعين بفرمان، هذا نص التلغراف ولكن الظاهر أنه صار تعديله لأن تعيين عبد الرحمن أفندي كان بمقتضى أمر من إسماعيل باشا لا بفرمان فلو فرضنا الرجوع للاتفاق المذكور لاستوجب أن يكون القاضي بمصر نائبًا وأن يكون تعيينه بفرمان ولم يرد بفرمان بشأن سماحة القاضي كما أنه لم يكن مأذونًا من قبل القاضي الذي يعين سنويًا لأننا لم نرَ في جميع أحكامه ذكرًا لذلك الإذن أو لاسم القاضي الأصلي.
هذه أيها السادة هي الإيضاحات التي أردت إضافتها لما قاله سعادة ناظر الحقانية وإني لمتأكد بعد أن وقفتم على هذه البيانات أن حضراتكم ترون أن للحكومة حق وضع هذا المشروع من الوجهة السياسية كما أبان لكم ناظر الحقانية حقها من الوجهة الشرعية أهـ.
اترك تعليقاً