ليس هناك من شك في أن ظاهرة الجريمة والمخالفة، تعد من اخطر الظواهر الاجتماعية التي تهدد الكيان البشري في أمنه، واستقراره، بل وحياته.
وانطلاقاً من الخطورة التي تتسم بها هذه الظاهرة تجد علماء القانون، وعلماء النفس يولون هذه الظاهرة اهتماماً منقطع النظير من حيث الدراسة حتى تمخضت هذه الدراسات عن نشوء علم مستقل باسم علم الاجرام (criminology)، وإن كان هذا العلم بالمعنى الفني للكلمة علماً حديث النشأة شأنه في ذلك شأن العلوم المتصلة بدراسة الإنسان، التي لم تتطور إلا بتطور المنهج العلمي التجريبي في دراسة الظواهر الاجتماعية والبحث في حقائق الحياة
فانه اصبح لهذا العلم قواعده الخاصة به، والتي تتصف بالعمومية التي يمكن اعادة الجزئيات إليها – على الرغم من بعض الجدل المحتدم حول اعتباره علماً -، كما اصبح من العلوم التي تدرس بشكل منتظم في جامعات العالم وقد عرف علم الاجرام بأنه ذلك الفرع من العلوم الجنائية الذي يبحث في الجريمة باعتبارها ظاهرة في حياة الفرد، وفي حياة المجتمع، لتحديد وتفسير العوامل التي أدت إلى ارتكابها
تقسيــم النظريـــات :
هناك نوعان من النظريات التي قيلت في تفسير ظاهرة السلوك الاجرامي وهي:
—
1) النظريات النفسية(الفردية).
2) النظريات الاجتماعية.
النظريــــات الفــردية :
يركز هذا القسم من النظريات على العوامل الفردية الذاتية في تفسيره لمسألة السلوك الاجرامي، فهو يرجع السلوك الاجرامي لدى الأفراد لاسباب ذاتية نفسية ومن هذه النظريات نذكر:
نظرية لومبروزو Lombroso:
يعتبر لومبروزو – أستاذ الطب الشرعي والعقلي في الجامعات الايطالية – الرائد في النظريات الفردية وبحكم امتلاك لومبروزو الروح التأملية فقد ساعده ذلك كثيراً في تفسير ما يدور حوله من الظواهر وخصوصاً السلوك الاجرامي لدى الأفراد.
لقد لاحظ لومبروزو بان الجنود الاشرار يتميزون بعدة مميزات جسدية لم تكن موجودة في الجنود الاخيار. وذلك خلال عمله في مجال الطب الشرعي في الجيش الايطالي لبعض الوقت.
فمن المميزات التي لاحظها لومبروزو في الجنود الأشرار الوشمات والرسوم القبيحة التي كانوا يحدثونها على اجسادهم
هذا ما كان قد لاحظه مما يبدو للعيان على اجساد المجرمين، أما من خلال تشريح جثث الكثيرين من هؤلاء المجرمين فقد تبين له وجود عيوب في تكوينهم الجسماني وشذوذ في الجمجمة… وانتهى لومبروزو من ذلك إلى أن المجرم نمط من البشر يتميز بملامح عضوية خاصة، ومظاهر جسمانية شاذة يرتد بها إلى عصور ما قبل التاريخ أو أن الإنسان المجرم وحش بدائي يحتفظ عن طريق الوراثة بالصفات البيولوجية والخصائص الخلقية الخاصة بانسان ما قبل التاريخ ومن بين هذه الخصائص صغر الجمجمة، وعدم انتظامها، وطول الذراعين، وكثرة غضون الوجه، واستعمال اليد اليسرى وضخامة الكفين والشذوذ في تركيب الأسنان إلى جانب عدم الحساسية في الشعور بالألم.
وبالاضافة إلى تلك الصفات العامة وقف لومبروزو على بعض الملامح العضوية التي تميز بين المجرمين. فالمجرم القاتل يتميز بضيق الجبهة، وبالنظرة العابسة الباردة، وطول الفكين وبروز الوجنتين، بينما يتميز المجرم السارق بحركة غير عادية لعينيه، وصغر غير عادي لحجمهما مع انخفاض الحاجبين وكثافة شعرهما وضخامة الانف وغالباً ما يكون أشولاً.
هذا ملخص لنظرية لومبروزو في السلوك الاجرامي والتي ركز فيها على وجود صفات عضوية يتميز بها المجرم عن غيره، وقد تعرضت نظرية لومبروزو إلى الكثير من الانتقادات القاتلة وتلك التي اضطرته في النهاية إلى إجراء تعديل عليها فادخل تأثير العامل العصبي في تفسير السلوك الاجرامي.
ومن الانتقادات التي وجهت لنظرية لومبروزو نذكر:
1) إن الحالات التي ركز لومبروزو جهوده عليها في تجاربه لم يكن اصحابها من الكثرة بحيث يمكن استخلاص قانون عام يمكن تطبيقه على جميع الحالات الاجرامية، وهذا من الأخطاء الفظيعة التي وقع فيها لومبروزو في صياغة نظريته.
2) تركيزه على الجانب العضوي والمبالغة فيه كعامل للسلوك الاجرامي، واهماله بل انكاره تأثير العوامل الأخرى – بيئية، واجتماعية، وغيرها – في سلوك المجرم.
3) اعتبار بعض المظاهر التي يحدثها أي إنسان فضلاً عن الإنسان المجرم علامة على كون محدثها مجرماً، وذلك من قبيل إحداث الوشم وتحمل الألم لأجله، فهذا دليل – حسب قول لومبروزو – على عدم الإحساس بالألم، وبالتالي فإن عدم الإحساس بالألم من صفات المجرمين.
وكذلك مسألة استخدام اليد اليسرى علامة على السلوك الإجرامي.
لكن ومع الانتقادات الكثيرة التي وجهت لنظرية لومبروزو فسوف يظل لومبروزو (المؤسس الأول لعلم الانتروبولوجيا الجنائية أو الإنسان المجرم كعلم مستقل تجاه العلوم الاجتماعية… أما نظريته البيولوجية في عوامل تكوين الظاهرة الاجرامية فيكفيها أنها الدراسة الأولى التي استخدمت المنهج العلمي في تفسير الظاهرة الاجرامية
نظرية دي تيليو Di Tullio (نظرية التكوين الإجرامي)
جاءت نظرية دي تيليو كرد فعل على نظرية لومبروزو التي ركزت – كما تقدم – على وجود (المجرم بالتكوين) ودي تيليو وإن اتفق مع لومبروزو على وجود المجرم بالتكوين إلا انه أنكر كونه عاملاً وحيداً للسلوك الإجرامي، وإنما يشكل مع غيره من العوامل الاجتماعية عاملاً مركباً للسلوك الإجرامي.
لقد اتفق دي تيليو مع لومبروزو من حيث المبدأ بادئ ذي بدء إلا انه بدأ يتحول تدريجياً ورويداً رويداً من فكرة المجرم الحتمي بالتكوين إلى فكرة المجرم الاحتمالي
وتتخلص نظرية دي تيليو باعتقاده بوجود ميل واستعداد للاجرام لدى الشخص المجرم وذلك إثر تكوين خاص للشخصية الفردية، واتسامها بصفات عضوية ووظيفية وراثية أو طبيعية أو مكتسبة من البيئة لقد فرق دي تيليو (بين صورتين رئيسيتين للاستعداد الإجرامي:
الأولى عرضية الثانية ثابتة.
فالأولى: هي عوامل فردية واجتماعية اقوى من قدرة الجاني على ضبط مشاعره فتحرك عوامل الجريمة ليديه ومن أنواعها الحقد والغيرة.
والثانية: متجسدة في تكوين الإنسان وتتركز في ناحيتي التكوين العضوي والنفسي للشخصية الفردية وهذا ما يسميه أيضا دي تيليو الاستعداد الأصيل للاجرام المنبعث عن شخصية الجاني والذي يمثل مصدراً للجرائم الخطيرة
لقد اعتبر دي تيليو بان لافرازات الغدد اثرها الكبير على سير أجهزة الجسم، والتي لها انعكاساتها في الوقت ذاته على مظاهر الحياة النفسية للانسان، وبالتالي على معالم شخصيته، وقد خلص دي تيليو في النهاية إلى وجود نموذج بشري غددي اجرامي
إن نظرية دي تيليو وان لم تسلم من النقد كذلك إلا أنها تعتبر بالنسبة لعلم الإجرام اكثر النظريات قبولاً، ومن الانتقادات التي تعرضت لها النظرية نذكر:
1) لقد بالغت النظرية في اعتبار تأثير الجانب العاطفي المختل في سلوك المجرم، وهذا يعني أن نظرية دي تيليو كانت كغيرها تقريباً في التركيز على الجانب الواحد.
2) إن دي تيليو وقع فيما وقع فيه لومبروزو في استخلاصه قانوناً عاماً من حالات قليلة اخضعت للتجارب لا ترقى إلى مستوى استخلاص القانون العام.
3) اهماله جانب المقارنة بين المجرمين والأسوياء والذي يعد على جانب كبير من الأهمية
مدرسة التحليل النفسي
ينصرف ذهن الإنسان حين يذكر اسم مدرسة التحليل النفسي إلى مؤسسها العالم سيجموند فرويد (Sigmund Freud 1856 – 1939)، والذي اتفق مع المدرسة التكوينية في ارجاع السلوك الإجرامي إلى العوامل الفردية، إلا انه اختلف معها في كون هذه العوامل نفسية لا عضوية. وللوقوف على حقيقة نظرية التحليل النفسي لابد لنا من ذكر التحليل الذي قام به فرويد للنفس الإنسانية كي يتسنى لنا فهم ما يقوله في نظريته.
لقد قسّم فرويد النفس الإنسانية إلى ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: النفس ذات الشهوة (الذات الدنيا) ويرمز لها بالرمز (ID) والذي يعني (هو) وتحوي هذه المرتبة من النفس الميول الفطرية، والاستعدادات الموروثة، ويتركز اهتمام هذه المرتبة من النفس على الانسياق وراء الشهوات، وارضاء الغرائز بأية طريقة ممكنة بغض النظر عن اعتبارات المثل والقيم والمبادئ النبيلة.
المرتبة الثانية: الذات الشعورية أو الحسية (العقل) ويرمز لها بالرمز (EGO) ويعني (الأنا) وهي (مجموعة الملكات العقلية المستمدة من رغبات النفس بعد تهذيبها وفقاً لمقتضيات الحياة الخارجية)(10) وتتمثل وظيفة هذه المرتبة من النفس بالسعي نحو إيجاد نوع من التوازن بين الميول الفطرية والاستعدادات الموروثة من جهة، وبين متطلبات البيئة الخارجية من المثل العليا، والقيم، والأخلاق، والعادات والتقاليد. إذن فهي بمثابة الكابح بالنسبة إلى المرتبة الأولى، لحملها على التعبير عن نزعاتها بالشكل الذي ينسجم مع مقتضيات البيئة، ولا يتعارض مع ما تأمر به (الأنا العليا) وهي المرتبة الثالثة كما سيأتي.
المرتبة الثالثة: الذات المثالية (الضمير) ويرمز لها بالرمز (super – EGO) الذي يعني (الأنا العليا): وتتجسد هذه المرتبة بمجموعة المثل والقيم والتقاليد والعادات الموروثة عن الأجيال السابقة، وكذلك المكتسبة من البيئة الاجتماعية الحالية.
وتعمل هذه المرتبة (الأنا العليا) على محورين، فهي من جهة تمثل المصدر الحقيقي لردع المرتبة الأولى (هو) عن الانفلات من مقتضيات البيئة الخارجية، ومن جهة أخرى تمد (الأنا) بالقوة اللازمة للقيام بوظيفتها المباشرة في ردع وكبح جماح المرتبة الأولى من النفس.
وعلاوة على هذين المحورين هناك وظيفة ثالثة تتكفل بها الأنا العليا وتتمثل بمراقبة (الأنا) في أداء وظيفتها ومحاسبتها عند أي تقصير في أداء هذه الوظيفة.
وبعد أن قدمنا هذه المقدمة التحليلية الفرويدية للنفس الإنسانية نأتي إلى تلخيص رأي فرويد في عوامل السلوك الإجرامي – فنقول:
(يرى فرويد أن السلوك الفردي يتوقف على مدى العلاقة بين الأقسام الثلاثة السابقة للنفس الإنسانية. فإذا تغلبت الشهوات والميول الفطرية (النفس ذات الشهوة)، فإن السلوك يكون منحرفاً، وتكون شخصية صاحبه غير ناضجة، أما إذا تغلبت المثل والقيم الموروثة، وتحكم الضمير والعقل (الأنا العليا) كان السلوك قويماً وكانت شخصية صاحبه ناضجة).
وللزيادة في التوضيح نقول أن فرويد قسم الذات الشعورية أو العقل (الأنا) – المرتبة الثانية للنفس – إلى ثلاثة أقسام:
1) الشعور: (العقل الظاهر): وهو وسيلة الوعي والإحساس والادراك المباشر.
2) ما قبل الشعور: (العقل الكامن): مجموعة الأفكار والنزعات والذكريات القابلة للاستظهار والتي يمكن للفرد تذكرها واسترجاعها.
3) اللاشعور: (العقل الباطن): وهو مجموعة الأفكار والخواطر التي ليس في وسع الإنسان استرجاعها وتذكرها إلا في الحالات الشاذة كالحلم، والحمى، والتنويم المغناطيسي.
ثم دمج فرويد بين الأول والثاني باسم الشعور (العقل الظاهر) فصارت أقسام الذات الشعورية اثنين فقط هما:
العقل الظاهر، والعقل الباطن.
وعلل فرويد الدمج بوجود قوة خفية من شأنها صد الخواطر والذكريات عن الظهور في منطقة الشعور لسببين:
الأول: كون هذه الذكريات والخواطر ضد العادات والتقاليد وقيم المجتمع.
الثاني: كون هذه الذكريات من النوع الذي لا يقوى الشعور على تحمل ما يصاحبها من الآلام قد اطلق فرويد على هذه القوة الصادة اسم قوة الكبت (Repression).
خلاصة القول: إن فرويد يرى لقوة الكبت هذه ابلغ الأثر في سلوك الإنسان، يفوق في قوته وتأثيره قوة وتأثير الشعور على الإنسان. إن قوة الكبت هذه تحوي ذكريات الطفولة، والحوادث النفسية المكبوتة، (فإذا كانت تربية الإنسان حيث كان طفلاً قائمة على أسس متوازنة توفق بين الرغبات والميول وبين أصول التربية النفسية السليمة، فإن من شأن ذلك تصعيد الرغبات المكبوتة تصعيداً متسامياً صحيحاً، وإلا اصبح الكبت مرضياً، وكان الفرد معرضاً في مستقبل حياته للامراض العصبية، والاضطرابات النفسية والتي قد تؤدي إلى نشأة العقد النفسية)
وقد أعطى فرويد إلى العامل ****** القدر الأكبر من التأثير في السلوك.
نـقــد نظرية فرويـــد:
تعرضت نظرية التحليل النفسي كغيرها من النظريات الفردية إلى العديد من الانتقادات نذكر منها:
1) لقد اخطأ فرويد (في نظريته عن الغريزة الجنسية، واعطى للدافع ****** أهمية تفوق ما يستحق في الواقع فقد اقام فكرته على أساس مبدأ اللذة، واعتبر سعادة الناس وشقائهم منوطين بكيفية اشباع غريزة التلذذ، ونجاحهم أو عدم نجاحهم في إرضاء الشهوة الجنسية).
بعبارة أخرى وقوع النظرية في التركيز على العامل الواحد في تفسير ظاهرة السلوك الإجرامي.
2) (إن الأخذ بمنطق المدرسة التحليلية يقودنا إلى التسليم بحتمية الوقوع في الجريمة تبعاً للصراع الذي يتم في الجانب اللاشعوري من النفس البشرية، وما يصاحبه من خلل أو اضطراب نفسي. ولكن هذا يتعارض مع اعتبار الجريمة مخلوقاً قانونياً يتجاوب مع متطلبات الحياة الاجتماعية) .
النظريـــات الأجتمـاعيـــة في تفسيــر السلـوك الإجـــرامي :
كان ما تقدم عرضاً موجزاً لأهم النظريات الفردية التي انشئت لتفسير ظاهرة السلوك الاجرامي، وقد أعرضنا عن ذكر جميعها اكتفاءاً بذكر الأهم منها.
وفي مقابل هذه النظريات هناك نظريات تفسر ظاهرة السلوك الإجرامي على ضوء العوامل الاجتماعية، وعلى نفس المنوال سوف نتعرض إلى أهم ما قيل من النظريات في هذا المضمار وهما:
أ . نظرية التفكك الاجتماعي.
ب . نظرية العوامل الاقتصادية.
نـظـرية التفكك الاجتماعي :
يعتبر عالم الاجتماع الأمريكي ثورستن سيلين رائد هذه النظرية، وصاحبها، فقد استوحى سيلين نظريته هذه (من واقع المجتمع الأمريكي الذي عاصره، ومن واقع المجتمعات التي عاصرها ولم يعايشها بل طرقت مسامعه الظواهر الاجرامية فيها وقارنها بالمجتمعات الريفية التي وجد فيها انخفاضاً في حجم الظواهر الاجرامية قياساً إلى حجم تلك الظواهر في المجتمعات المتحضرة، مما شجعه على إجراء مقارنة عددية كان نتيجتها ارتفاع حجم الظاهرة الاجرامية ارتفاعاً كبيراً في المجتمعات المتحضرة وانخفاض حجم هذه الظاهرة انخفاضاً كبيراً في المجتمعات الريفية، لهذه العلة ارجع الظاهرة الاجرامية إلى التفكك الاجتماعي).
تتميز هذه النظرية بدعوتها إلى تشبه المجتمع المتحضر بالمجتمع الريفي في حرصه على الحفاظ على الروابط الاسرية والاجتماعية، كما تدعو إلى تربية الطفل وتنشأته نشأة ريفية تسودها القيم، والمثل العليا علاوة على ذلك تستنكر النظرية مسألة فساد الضمير الإنساني وتفككه نتيجة اغراقه بمظاهر الحياة الحضارية المنفلتة، وترى صلاح الضمير بالتعاون والترابط الاجتماعي.
إن هذه الميزات التي تميزت بها النظرية جعلتها مقبولة بدرجة كبيرة بالنسبة للبعض من علماء الاجرام، فهذا البعض يتفق (مع منطق هذه النظرية بالنظر لما تمليه تربية الضمير من معانٍ سامية تدفع الإنسان لسلوك طريق الخير والرشاد، وحبه لأبناء مجتمعه، وقد حث رسول الله (ص) على اشاعة هذا الخير من خلال الربط بينه وبين الإيمان بقوله:
(لا يؤمن احدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
وعلى الرغم من المزايا التي تميزت بها هذه النظرية حيث كانت تحمل بين طياتها دعوة إلى التحلي بالقيم والمثل العليا لمكان أثرها الإيجابي في التخفيف من ظاهرة الجريمة، إلا أنها لم تسلم – مع كل هذا – من الانتقادات، فمن هذه الانتقادات نورد:
1) على الرغم من اتّسام الغالبية العظمى من أفراد المجتمع المتحضر إن لم نقل الكل بسمات التفكك وضعف الروابط الاجتماعية فإن من يقترف الجريمة من هؤلاء هو البعض وليس الجميع ممن يتسم بالتفكك، ولو صح ارجاع السلوك الإجرامي إلى التفكك الاجتماعي للزم أن يكون كل من يتسم بالتفكك من المجرمين وليس البعض فقط.
2) سبق أن قلنا بأن ثورستن سيلين – صاحب هذه النظرية – كان قد استوحى نظريته من واقع المجتمع الأمريكي، وما يتميز به من ظروف خاصة به. فعلى تقدير التسليم بصحة ودقة نتائج هذه النظرية فإن مجال تطبيقها هو المجتمع الذي نشأت وفق ظروفه لا غير. أي أنها لا تصلح للتطبيق إلا في المجتمع الأمريكي، وذلك لأن غيره من المجتمعات قد (لا يتسم بهذه السمات لذا لا يمكن قياسها على المجتمع الأمريكي الذي اجريت هذه الدراسة عليه).
نـظــرية العوامــل الأقتصـــادية :
هناك من العلماء من اتجه (إلى تفسير الظاهرة الاجرامية من خلال الربط بين الأوضاع الاقتصادية السائدة وبين السلوك الاجرامي).
ترى هذه النظرية بان (أفعال الأفراد وسلوكهم، وكذلك نظريات العلماء الاخلاقية، في كل عصر تبين خصائص النظام الاجتماعي والأوضاع الاقتصادية لذلك العصر) .
لقد تبنى كارل ماركس وأصحابه هذه النظرية واستعانوا بها في طرح مذهبهم المناهض للرأسمالية الغربية التي رأوا فيها بانها تجسد الطبقية بين أبناء المجتمع مما يدفع الفئة المقهورة لاتخاذ المنهج المنحرف في سلوكها، وعليه فقد طرحوا نظريتهم بمثابة المنقذ وهي النظرية الاشتراكية.
لقد ارتبط اسم هذه النظرية – نظرية العوامل الاقتصادية – بالمذهب الاشتراكي، حتى اطلق البعض على هذه النظرية ومن يتبناها اسم المدرسة الاشتراكية في قبال النظرية، أو المدرسة الرأسمالية.
(ووفقاً لمفهوم هذه المدرسة: إن الظاهرة الاجرامية ظاهرة شاذة في حياة المجتمع، وإنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظام الرأسمالي بل إنها ثمرة من ثمراته، فتركيبة هذا النظام، وطبيعة العلاقات السائدة فيه تفضي حتماً إلى الظلم الاجتماعي، لأنه نظام لا يتوخى العدالة والمساواة، فتقع الجريمة نتيجة لهذا الظلم، أما في ظل المجتمع الاشتراكي فان مظاهر الجريمة تكاد تختفي تماماً، وإن وقوع بعض الجرائم الضارة برفاهية هذا المجتمع لا يغير من هذا الاتجاه، وإنما يدل على تفشي أمراض معينة في افراده).
نـقــد هذه النظـــرية :
كغيرها من النظريات تعرضت نظرية العوامل الاقتصادية لمجموعة من الانتقادات منها:
1) إن هذه النظرية وقعت في ما أخذ على غيرها من نظريات تفسير الظاهرة الاجرامية، وهو التركيز على العامل الواحد في تفسير ظاهرة السلوك الإجرامي وانكار أو اهمال دور غيره من العوامل الأخرى الذاتية منها وغيرها.
2) اعتماد أصحابهـــا في دعم رأيـــهم على جرائم معينة كـــالسرقة مثلاً، أو الكسب غير المشـــروع كما عند بونجيه، ومن ثم تعميم هذه النتائج الجزئية على جميع مظاهر السلوك الإجرامي الأخرى، (ولكن إذا كانت هذه النظرية تصلح لتفسير جرائم المال، فإنها لا تصلح لتفسير باقي الجرائم كجرائم الاعتداء على الأشخاص وجرائم العرض، فهذه لا تتأثر إلا قليلاً بالتقلبات الاقتصادية) كما أثبتت ذلك الدراسات الاحصائية.
3) إن هذه النظرية تؤكد على أن العوامل الاقتصادية السيئة تمثل عاملاً أساسياً مباشراً في دفع الأفراد إلى السلوك الإجرامي.
كما إنها (اعتبرت الفقر ممثلاً لهذه الظروف باعتباره ظرفاً اقتصادياً سيئاً) حيث اكدت (أن الفقر الذي يصيب الفرد يكون سبباً مباشراً في دفعه نحو اقتراف الجريمة) وهذا يعني أن هذه النظرية ربطت ربطاً مباشراً بين السلوك الإجرامي وبين الفقر.
إن مثل هذا الربط وما يترتب عليه من إبراز لأهمية الفقر، وتأثيره لا يمكن قبوله لسببين:
الأول: إن الفقر حالة نسبية تختلف باختلاف الأشخاص تبعاً لاتساع حاجاتهم وتنوعها ووسائل اشباعها لذا يصعب تحديد الحالة التي يكون عليها الفرد لأنه لا توجد وسائل ثابتة يمكن بموجبها اعتبار شخص ما فقيراً، لاختلاف الأسس والمقاييس بين الأفراد والمجتمعات في تحديد مفهوم الفقر).
الثاني: لقد أثبتت الدراسات في مجال علم الإجرام – للتأكد من صحة الترابط بين الفقر والسلوك الإجرامي – بان (الجريمة كما تقترف من الفقراء يمكن أن تقترف أيضا من غير الفقراء… من أشخاص ينتمون إلى الطبقة العليا في المجتمع ويشغلون المراكز المحترمة فيه وهم رجال الاعمال، وكبار التجار، وأصحاب المشاريع التجارية الضخمة، والمستثمرون).
لقد اثبت أحد أصحاب هذه الدراسات وهو الأستاذ سذرلاند معللاً بكون الوضع المالي الممتاز لمن سبق ذكرهم من الاغنياء، وما يتمتعون به من المزايا، وما يمارسونه من سلطات ونفوذ لا يمنعهم – بنظر الأستاذ سذرلاند – من اقتراف الجرائم بل على العكس ربما تكون عاملاً مساعداً لانحرافهم حيث يشعرون بان هذه المزايا تحقق لهم الحماية المرجوة فيعمدون إلى استغلال هذه الظروف لتحقيق .
اترك تعليقاً