مستقبل القضاء السعودي
مستشار قانوني BakerHa@
المستقبل هو الصفحة البيضاء التي تمتلىء بما زُرِعَ في الماضي، لذا يقول الفيلسوف الفرنسي سارتر «لا يوجد شيء اسمه المستقبل فالمستقبل هو ما تصنعه أيدينا الآن، هو ما يجري إعداده فى المطبخ حالياً». فإذا أردنا أن نستطلع مستقبل القضاء السعودي في عام 2030م مثلاً، فعلينا أن ندرك أنه مرآة للواقع وحصاد للسنوات التي تسبقه. من الكلمات الملهمة للملك عبدالعزيز -رحمه الله-: «فإذا أصلحنا المحاكم هانت الأمور واستقامت الأحوال»، لذا كان اهتمام الملك عبدالعزيز بالقضاء بالغاً فكان يصحب في غزواته قاضٍ؛ لأنه يعد القضاء اللبنة الأولى في الإصلاح والتقدم.
وقد مرّت مسيرة القضاء في المملكة بمراحل بدأت بالتأسيس على يد المؤسس عام 1925م بإصدار مواد إصلاحية مؤقتة للمحاكم «الداوئر» الشرعية، وتقسيم المحاكم إلى محاكم شرعية وأخرى إدارية. وطوّر الملك سعود نظام «تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي» عام 1953م واستكمل نظام تنظيم الأعمال الإدارية في الدوائر الشرعية، وأصدر تعليمات هيئة التمييز عام 1961م. وشهد القضاء في عهد الملك فيصل نقلة مؤسساتية بإنشاء وزارة العدل عام 1961م؛ لتتولى الإشراف على دوائر القضاء، وأصدر نظام القضاء المتضمن إنشاء مجلس للقضاء الأعلى عام 1975م.
وبَذَر الملك خالد أولى الخطوات الدستورية حيث أمر بتشكيل لجنة حكومية لوضع «النظام الأساسي للحكم»، و«نظام مجلس الشورى» تمهيدًا لإقرارها ووجه بتطوير «نظام القضاء» و«ديوان المظالم» في 1982م، لترى النور في عهد الملك فهد الذي استكمل بناء منظومة الأنظمة القضائية المتمثلة في: «نظام القضاء»، و«نظام هيئة التحقيق والادعاء العام»، و«نظام المرافعات»، «ونظام الاجراءات الجزائية»، «ونظام المحاماة».ويعد عهد الملك عبدالله نقلة إصلاحية رائدها رغبته -رحمه الله- بتذليل الإجراءات القضائية؛ دعماً للتمنية ومراعاةً لمواطنيه وتحصيلا لمصالحهم وحقوقهم من خلال إصدار حزمة من الأنظمة والإجراءات عام 2007م جعلت من القضاء السعودي أكثر تخصصاً، وعلى درجتين من التقاضي، وبمرجعية محكمة عليا مختصة، ودعم ذلك كله بمشروع خاص لتطوير القضاء وبميزانية تاريخية لإحداث نقلة نوعية واعدة في القضاء السعودي. إنّ المستعرض لتأريخ مبادرات تطوير القضاء منذ توحيد البلاد؛ ليدرك أن نهج ولاة الأمر هو تعزيز المؤسسات القضائية وتطويرها لتحقيق العدالة، ومواكبة التغيرات التي تمر بها المملكة.
ومن جهة أخرى، يلاحظ أن مبادرات التطوير تأتي من خارج السلطة القضائية، وأنها انفاعلية لمعالجة وضع قائم وليست استباقية للتنبؤ بما سيكون عليه الحال في المستقبل «Reactive not Proactive»، وهذا ناتج عن عدم وجود استراتيجية للسطلة القضائية من شأنها تحقيق أهداف القضاء في الدولة بحيث يشترك في إعدادها الأشخاص والجهات ذات الصلة، ونتج عن هذا أن الحاجة تُلجئ الجهات التنفيذية إلى إنشاء لجان شبه قضائية لحل مشكلة غياب استراتيجية قضائية شاملة من شأنها مواكبة تطور وتيرة الأعمال والأحداث في المملكة. لقد عزل القضاء الشرعي نفسه لعقود في موروث الكتب الفقهية رافضاً الانفتاح على ما تتطلبه الحياة المدنية من إلمام بالأنظمة ومواكبة لمتطلبات التنمية المتسارعة المحلية والدولية، لذا نشأت مقاومة داخل المؤسسة القضائية تجاه ما من شأنه التعامل مع متطلبات الحياة المدنية الحديثة، وانعكس هذا على نظام التأهيل العلمي الذي ظل تقليدياً نائياً بنفسه عن دراسة الأنظمة ومتطلبات الحياة المدنية؛ مما خلق «فصاماً تشريعياً» تجلى بمواقفٍ مناهضةٍ لتطوير المؤسسة القضائية في عدة شواهد تاريخية من أبزرها عدم تقبل مبدأ القضاء بموجب مواد مقنّنة «نظام» «Codify System»، وتبع ذلك استمرار إجهاض محاولات تقنين الشريعة لدرجة نزع لقب «قاضي» ممن يمارس القضاء في ديوان المظالم في بدايات نشأته، حيث عُهِدَ إليه بالنظر في المنازعات الناشئة عن بعض الأنظمة. إن صدور نظام المرافعات عام 2000م سبقه محاولات لتعليق العمل بذات النظام عام 1994م؛ لعدم تقبل «تقنين» الإجراءات أيضاً. من أبرز معضلات تطوير القضاء الشمولي هو عدم مزاوجة متطلبات الدولة المدنية مع تطوير العمل بالشريعة، الأمر الذي خَلَقَ «هامشاً تشريعياً افتراضياً» تَمثَل في ولادة «قضاء اللجان القضائية»، وانفصال التطوير الإجرائي عن التطوير التشريعي باستمرار عدم الرغبة في إيضاح معالم القضاء المدني والجزائي العام على نحوٍ يقضي على التفاوت من خلال «تقنين الشريعة»؛ مما حصر تطوير القضاء في الجانب الإجرائي الذي لا يمكنهُ رسم تطوير شمولي يكون قادراً على تلبية متطلبات الفترة الحالية وتحديات الفترة القادمة.
طموحاتُ الدولةِ كبيرةٌ لتطويرٍ حقيقيٍّ للقضاء، وأعناقُ الحقوقيين تشرأبُ لأعمال اللجنة الشرعية التي أمر بها الملك عبدالله -رحمه الله- في ديسمبر 2014م لوضع مدونة تحوي الأحكام القضائية في القضايا الشرعية خلال 180 يوماً والتي تنتهي في يوليو 2015م؛ كبوابة لتقنين الأحكام الشرعية. إن المؤمل أن يُحزَم أمر التقنين بقيادة الملك سلمان حفظه الله «بعاصفة حزم قضائية»؛ ليشهد القضاء السعودي نقلةً نوعيةً في تاريخه تماثل التطوير في الهيكل المؤسساتي للقضاء. آمالُ المواطنين والمستفيديين من القضاء السعودي أكبر من الإمكانيات المتاحة، وتحديات أسعار النفط المستقبلية تلقي بظلالها على تطوير المؤسسة القضائية بذات الميزانية المليارية، الأمر الذي يتطلب استراتيجية تطوير من شأنها الرقي بمستوى الخدمات التي تقدمها المحاكم بتبني مبادرة: «خصخصة الخدمات القضائية المساندة التي تقدمها المحاكم» كما أشرت إليه في مقالي السابق.
فالتطوير الحكومي الحالي لا يستطيع مواكبة تطوير الشركات المختصة في الأعمال المساندة للقضاء، ولا أحد يراهن عن وجود فجوة بين ما تحقق من تطوير وبين ماهو مأمول للحاق بدول العالم التي ننافسها بذات القوة الاقتصادية، فإن لم يستطع القضاء اللحاق بالتقدم الاقتصادي فإنه سيكون حجر عثرة أمام تقدمه وازدهاره. أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً، فالعالم الآن يضع أمام عينيه جدياً «خصخصة الخدمات القضائية المساندة»، فرائعٌ أن نبدأ من حيث ما انتهى الآخرون، وأن نسلك الطريق التي تختصر علينا الكثير من المسافات، وتوفر الكثير من الوقت والجهد.
أتمنى صادقاً أن يشهد عهد الملك سلمان -حفظه الله- نقلةً في تطوير القضاء من خلال تطوير التشريعات القضائية بتقنينٍ يحفظُ تطبيق الشريعة مستقبلاً ويزاوجُ بها متطلبات الدولة المدنية الحديثة، ويجعل التطبيقات القضائية أكثر رصانةً وأقلَ تفاوتاً. إنّ المؤسسات القضائية ممثلةً في المحاكم واللجان تحتاجُ لإعادة هندسة إجرائية من خلال توحيد مستوى الخدمات، والاحترافية في أسلوب تقديمها، والأهم خفض التكلفة وزيادة الفعالية والكفاءة، والتي هي خصائص التشغيل التجاري من خلال خصخصة الخدمات المساندة، تلك الفكرة التي تخمّرت وآت أؤكلها في قطاعات عدة: كوزارة الداخلية، والتجارة، والصحة، العمل، وقطاع الاتصالات، والكهرباء، والنقل، والإعلام، والمؤسسات والصناديق الاستثمارية السيادية، فقطاع العدالة أحد الأجهزة التنفيذية التي تَتَطلب نقلةً نوعية مماثلة.
فقد أكدّت أطروحة دكتوراة تقدمت بها د. صفاء يوسف صدقي عن «أثر الإصلاح المؤسسي والتنظيمي على كفاءة الخدمات العامة المقدمة للجمهور في الجهاز القضائي» المقدمة في أكاديمية السادات للعلوم الإدارية «وهي أكاديمية تماثل معهد الإدارة العامة في المزاوجة بين النظرية والتطبيق»، حيث أكدّت على أنه لا سبيل لتحقيق الإصلاح المؤسسي إلا من خلال عملية تطوير شاملة فى جهاز إدارة العدالة، حيث أظهر الاستفتاء أن ٥٩% من المواطنين والعاملين في المؤسسات القضائية يقبلون «خصخصة خدمات الجهاز القضائي»؛ كحل لمشاكل التنظيم الإداري فى جهاز القضاء المصري. فخصخصة الخدمات القضائية ليست رفاهية أو ترفاً، وإنما هي خيارٌ استراتيجيٌ ذكيٌ لمستقبلٍ سيواجه دول العالم قريباً. الهبوب
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً