موقف القوانين الوضعية من جريمة الإجهاض
المحامية: منال داود العكيدي
يعرف فقهاء القانون الاجهاض بصورة عامة على انه (اسقاط جنين المرأة الحامل ما دام في بطنها ميتا او حيا قبل أوانه بحيث يؤدي ذلك إلى وفاته ويسند الفعل الجنائي إلى المرأة ذاتها ومن تسبب باجهاضها عمدا.)
واختلف موقف التشريعات الحديثة من الاجهاض حسب نظرة المجتمعات الانسانية المختلفة الى الاجهاض والذي يعكسه درجة الوعي الصحي والنضوج العقلي عند افرادها وكذلك نظرة الشرائع السماوية الى الاجهاض وخصوصا ان اغلب تلك الشرائع تشجع على زيادة النسل وتعتبر ان حياة الانسان قيمة عليا لها قدسيتها واحترامها.
لذلك فقد ذهبت تلك الشرائع السماوية الى الوقوف بالضد من عملية الاجهاض واعتباره اثما كبيرا وانهاء حياة انسان بريء حباه الله بالحياة ولا يجوز لاي شخص انهائها لان ذلك بمثابة اعتراض على مشيئة الله لذلك كانت اغلب التشريعات الوضعية تضع عقوبات مشددة لكل من يقوم بجريمة الاجهاض تأثرا بتلك الشرائع السماوية وقد تصل العقوبة الى الاعدام، ولكن واعتبارا من اواخر القرن التاسع عشر بدأت القوانين الوضعية تأخذ منحى اخر نحو التخفيف من عقوبة مرتكب هذه الجريمة فاصبحت تعاقب عليها بالسجن المؤبد او المؤقت بدلا من الاعدام وكان القانون الفنلندي اول قانون يبيح الاجهاض من اذا كان الهدف منه انقاذ حياة الام من الموت او تلافيا لمشاكل صحية بدنية او نفسية يمكن ان يسببها الحمل للمرأة بل ان هناك تشريعات وضعية اباحت الاجهاض دون قيد او شرط مثل قانون العقوبات الدنماركي عام 1933 وحذت حذوها في ذلك سويسرا عام 1942 واليابان عام 1950 ثم انتشر هذا القانون في بعض دول اسيا واوربا التي تخلت عن موقف الكنيسة المتشدد من جريمة الاجهاض فاصبح فعلا مباحا وفقا لقوانينها العقابية .
اما بالنسبة للدول العربية وتأثرا منها بمبادئ الشريعة الاسلامية فما زالت تحرمه الا اذا كان الدافع اليه حماية حياة الام وانقاذها من خطر الموت لان ( درء المفاسد اولى من جلب المصالح وان الضرورات تبيح المحظورات ) ولو ان بعض الدول العربية اخذت تتوسع في اباحة هذا الفعل في حالة الرغبة في المحافظة على الصحة العامة للام او الخشية من ولادة اطفال مشوهين على ان يتم ذلك اي الاجهاض قبل مرور اربعة اشهر على الحمل كما في قانون العقوبات الكويتي .
وبصورة عامة فان التشريعات الوضعية التي تعتبر الاجهاض او بعض حالاته جريمة تستوجب العقوبة تختلف نظرتها الى طبيعة الحق المعتدى عليه وكذلك في العقوبة التي تفرضها على الفاعل فترى بعض التشريعات الوضعية ان الحق المعتدى عليه في جريمة الاجهاض هي الام الحامل مثل قانون العقوبات العراقي والمصري ، بينما ترى تشريعات اخرى ان جريمة الاجهاض واقعة على الاسرة مثل قانون عقوبات روسيا الاتحادية، في حين تذهب تشريعات اخرى الى انها جريمة تمس الاخلاق والاداب العامة مثل قانون العقوبات اللبناني والسوري والاردني ، وتذهب تشريعات اخرى الى ان جريمة الاجهاض تمس السلالة التي ينتمي اليها المواطن مثل قانون العقوبات الايطالي .
ويؤيد قانون العقوبات السوداني الصادر سنة 1991 اتجاه الشريعة الاسلامية التي تذهب الى ان جريمة الاجهاض هي اعتداء على حق الجنين في الحياة . وهناك تشريعات اخرى اعتبرت ان فعل الاجهاض للمرأة الحامل هو عبارة عن حق من الحقوق اللصيقة بها فتلك التشريعات منحت المرأة حق اسقاط الحمل غير المرغوب فيه على اعتبار ان الجنين هو جزء من جسد المرأة الحامل تتصرف به بالكيفية التي تراها وقيامها باجهاض نفسها هو بمثابة قيامها بالتصرف بجزء من جسدها طبقا لذلك .
ومن التشريعات التي ايدت هذا الموقف قانون العقوبات الفرنسي في المادة ( 244 / الفقرة 2 ) وكذلك بعض قوانين عقوبات الولايات المتحدة الامريكية شرط ان يسبق ذلك تقديم طلب الى لجنة طبية وان تتم عملية الاجهاض على يد طبيب متخصص، وبصورة عامة فانه بالنسبة للقوانين التي تعتبر ان فعل الاجهاض هو جريمة يحاسب عليها القانون فان هذا الفعل يبقى مجرما ولا تنتفي صفة الاجرام عنه حتى وان كان الاجهاض تم برضا المرأة الحامل فالرضا لا يحول الفعل المجرم الى مباح ولا يعد سببا من اسباب الاباحة. بيد ان هناك من التشريعات العقابية ما تعده عذرا مخففا فالاجهاض الرضائي ( وهو الذي تقوم به الحامل بنفسها او توافق ان يجريه لها الغير ) والذي لم يفض الى الوفاة يعد جنحة لدى غالبية التشريعات العقابية ماعدا قانون العقوبات القطري لسنة 1971 والذي عد جميع صور الاجهاض جناية وليست جنحة وذلك في المادة ( 170 ) منه .
اما الاجهاض غير الرضائي فيعد جناية حتى وان لم يؤد ذلك الى وفاة الحامل اما في حالة الاجهاض الذي يؤدي الى موت المراة الحامل فانه يعد جناية سواء تم برضاها او من بدون رضاها . وهناك بعض التشريعات قد تشددت في عقوبة جريمة الاجهاض اذا كان الفاعل طبيبا او له علاقة بالمهن الطبية وذلك لان هذه الفئة يسهل عليها ارتكاب الجريمة وطمس معالمها لخبرتهم ومعرفتهم في هذا المجال وهذا يغري الحامل باللجوء اليهم بيد ان القانون الروسي اتخذ موقفا مغايرا لذلك تماما فقد ذهب في المادة ( 116 ) من قانون العقوبات .
على ان الفاعل اذا لم يكن من ذوي المهن الطبية فيعتبر فعل الاجهاض الذي صدر عنه مع عدم تمتعه بصفة الطبيب او من في حكمه عذرا مشددا له لاستخفافه بحياة المرأة الحامل وتعريضها الى الخطر فلو كان طبيبا لكان اقدر من غيره على تلافي الاثار المتفاقمة لعملية الاجهاض وهذا يدل على مافي نفسية الفاعل ( غير الطبيب ) من اثم وخطورة تستحق ان تشدد عليها العقوبة. ولكن هناك تشريعات اخرى ذهبت الى منح المجرم عذرا مخففا اذا قام بالفعل حفاظا على شرف احدى قريباته او فروعه مثال ذلك القانون الايطالي لسنة 1930 وقانون العقوبات الاسباني الصادر سنة 1943 وكذلك قانون العقوبات السوري لسنة 1949 والاردني الصادر سنة 1960.
اترك تعليقاً