التراشق بكشف قضايا الفساد دون التبليغ بها للسلطات القضائية : مساس بمصداقية دولة القانون.
كل من يضع القانون و احترامه في خانة المبادئ المقدسة أصيب بصدمة حينما قرأ تصريح لوزير الصناعة و المناجم مفاده أنه يحوز ملفات فساد ضد الأمينة العامة لحزب العمال وهذا كرد فعل عن الاتهامات التي وجهت له من طرف هذه الأخيرة.
اعتاد المواطن الجزائري سماع تصريحات و مواقف أقل ما يقال عنها أنه ا تمس بصميم مصداقية دولة القانون فعلى سبيل المثال نذكر التصريحات و المقالات التي أعقبت إحالة ضباط سامين للجيش أمام العدالة العسكرية أو المدنية و لا سيما تلك التي طعنت في كفاءة و شفافية المحاكمات القضائية، و تصريحات الأمين العام لحزب الافالان الذي يتهم فيها رئيس حزب باستغلال نفوذه للإثراء و الحصول على أموال طائلة ، و اتهام بعض المسئولين منهم وزراء بتهريب أموال أو اقتناء عقارات و أملاك بالخارج ، وتصريحات وزير حول ممارسات أحد رجالات الأعمال البارزة بشأن تضخيم فواتير استيراد تجهيزات من الخارج بقيمة عدة ملايين بالعملة الصعبة الكل في ظل عراك في أعلى السلطة
المسألة التي تكون قد جلبت اهتمام المواطن و نحن على أبواب دخول قانون المالية لسنة 2016 حيز التنفيذ مع كل ما سيتضمنه هذا القانون من إجراءات تقشفية هي المسألة التي تخص قضايا الرشوة و الاختلاس و الإثراء غير المشروع و هي القضايا التي يتبادل بها بعض المسئولين في الدولة و خارجها الاتهام المتبادل. أخطر التصريحات التي صدرت في هذا المجال هو تصريح وزير الصناعة و المناجم الذي اتهم فيه رئيسة حزب العمال لويزة حنون باستغلال منصبها و نفوذها للإثراء و الغنى و هددها بكشف ملفات عنها تثبت هذا الإثراء غير المشروع. من جهتها فإن هذه الأخيرة و إثر بث حصة تليفزيونية حول الممتلكات التي تكون قد اكتسبتها هي و عائلتها منذ تقلدها رئاسة الحزب هددت بكشف ملفات فساد تخص بعض المسئولين في الدولة و أبنائهم.
لو صدر هذا التصريح من مواطن بسيط أو حتى من مسئول سياسي في حزب فالأمر قد يمر و لكن أن يصدر عن وزير أثناء تأدية مهامه فإن ذلك يطرح تسائلات نظرا لخطورة هذا التصريح و عواقبه القانونية.
لا شك أنه حينما يصدر تصريح من وزير أو من مسئول في الدولة حول تورط شخص أو مسئول في قضية فساد فإن ذلك يعني أنه توجد بحيازة من أدلى بهذا التصريح أدلة قاطعة حول هذه الواقعة ففي هذه الحالة لماذا لم يبلغ بهذا الفعل الذي يشكل جنحة أو حتى جناية للسلطات القضائية للتحري و البحث في المسألة؟
القول أن شخص لا سيما شخص له مسؤوليات سياسية رسمية أو غير رسمية منسوب له ملفات تتعلق بالفساد و بالإثراء غير الشرعي يعني أن هذا الشخص ارتكب جريمة يعاقب عليها لا فقط قانون العقوبات و لكن كذلك قانون الوقاية من الفساد باعتبار أن هذا الإثراء لا يمكن أن يتم إلا بمشاركة أعوان و مسئولين في الدول أو في المؤسسات و الهيئات العمومية.
إن كشف وزير الصناعة عن حيازته أو علمه بملفات فساد تورطت فيها الأمينة العامة لحزب العمال و الاكتفاء بهذا التصريح دون طلب تحريك الدعوى العمومية من طرف النيابة المختصة هو بحد ذاته جريمة يعاقب عليها القانون.الجزائر التي تتباهى بأنها اتخذت الإجراءات القانونية اللازمة لقمع الفساد لا سيما بإصدارها القانون رقم 06-01 المؤرخ في 20/02/2006 المتعلق بالوقاية من الفساد و مكافحاته ، و هذا ما لا يمكن إنكاره بالنظر إلى النصوص الردعية لهذا القانون و آليات تطبيقه المتطورة ، قد تجد صعوبة في إقناع الرأي العام بجدية إرادتها في محاربة هذه الآفة و ذلك عندما يمتنع وزير عن تطبيق أحكام هذا القانون و يجهر بذلك علنا في وسائل الإعلام.
جاء في المادة 47 من الفانون رقم 06-01 السالف الذكر ما يلي : ” يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى خمس سنوات و بغرامة من 50000 دينار إلى 500000 دينار كل شخص يعلم بحكم مهنته أو وظيفته الدائمة أو المؤقتة بوقوع جريمة أو أكثر و لم يبلغ عنها السلطات العمومية المختصة في الوقت الملائم “. هذا النص ما هو في الواقع سوى تكرار لنص موجود في قانون آخر و هي 181 من قانون العقوبات التي تنص أنه :” يعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات و بغرامة من 20000 دينار إلى 100000 دينار كل من يعلم بالشروع في جناية أو بوقوعها فعلا و لم يخبر السلطات فورا “. إذا كان الشخص الذي امتنع عن التبليغ بوقوع جريمة من جرائم الفساد قاضيا أو موظفا يمارس وظيفة عليا في الدولة ( حالة الوزير) فإن العقوبة ترتفع حسب المادة 48 من نفس القانون إلى عشرين سنة حبس.لا شك أن امتناع الوزير بإبلاغ السلطات القضائية بالأفعال التي نسبها لأمينة حزب العمال تدخل في تعريف المادتين المذكورتين.الأمينة العامة لحزب العمال هي كذلك معنية بتطبيق هذه النصوص القانونية إن لم تبلغ السلطات الفضائية بالمعلومات التي قالت أنها بحيازتها و تخص أفعال فساد و إثراء لبعض المسئولين و أبنائهم.
في الواقع فإن هذا التراشق في أعلى هرم السلطة حول مسائل الفساد و الاختلاس و الرشوة و الإثراء غير المشروع يثير الإشكال الأساسي الذي تعاني منه الجزائر أي مصداقية مكافحة هذه الآفات التي أرهقت الاقتصاد الوطني و أخمدت كل المحاولات الرامية إلى تكريس دولة القانون. لجوء وزير إلى أسلوب التهديد بكشف الفساد المرتكب من طرف مسئول حزب سياسي في حالة مواصلة هذا الأخير تهجماته على بعض رموز الدولة لا يعدو أن يكون إلا قطرة ماء في عدد الخروقات المرتكبة على قوانين الجمهورية لا سيما قانون مكافحة الفساد.
قانون مكافحة الفساد المؤرخ في 20 فيفري 2006 و القوانين الأخرى التي تعالج هذه الآفة لا سيما القانون رقم 05-01 المؤرخ في 06/02/2005 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال و النظام الصادر عن بنك الجزائر رقم 12-03 المؤرخ في 28/11/2012 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال هي قوانين مستوحاة من أسمى التشريعات الدولية التي تعالج ظاهرة الفساد مع العلم أن الجزائر صادقت ( بتحفظ)على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك بتاريخ 31 أكتوبر 2003 كما صادقت على اتفاقية الاتحاد الإفريقي حول الوقاية من الفساد و مكافحته المعتمدة في مابوتو بتاريخ 11 جويلية 2003.
حسب بعض الملاحظين فلو طبق قانون مكافحة الفساد تطبيقا جديا و سليما لقضي على ظاهرة الفساد بكل أنواعه في أجل لا يتعدى الخمس سنوات. إن هذا القانون الذي كما قلنا مستلهم بقسط كبير من مضمون اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد يتضمن إجراءات و نصوص من شأنها جعل حد لكل ما من شأنه أن يؤدي إلى الفساد و أهم هذه المواد:
– الارتكاز في توظيف مستخدمي القطاع العام على مبادئ النجاعة و الشفافية و الكفاءة و منحهم أجر ملائم و تعويضات كافية ( المادة 3).
– إلزامية التصريح بالممتلكات العقارية و المنقولة في الوطن و خارج الوطن بالنسبة لكل الموظفين العموميين تحت عقوبة تصل إلى 10 سنوات حبس( المادة 4).
– مراقبة الأموال المودعة لدى البنوك و المؤسسات المالية لمحاربة تبييض الأموال ( المادة 16).
– المتابعة القضائية من أجل الإثراء غير المشروع في حالة عدم تقديم الموظف العمومي للزيادة المعتبرة التي طرأت على ذمته المالية مقارنة بمداخله المشروعة ( المادة 37)
– معاقبة تلقي الهدايا من طرف الموظف العمومي ( المادة 38).
– النص على معاقبة تبييض العائدات الإجرامية ( المادة42).
– إمكانية الحجز أو تجميد العائدات و الأموال غير المشروعة ( المادة 51).
– إقرار عدم تقادم الدعوى العمومية في جرائم الفساد إذا تم تحويل عائدات الجريمة إلى الخارج ( المادة 54)
– تقرير قواعد التعاون الدولي في مجال الجرائم المتصلة بالفساد لا سيما متابعة و حجز أموال الأشخاص المتورطين في ارتكاب هذه الجرائم ( المادة 57 و ما يليها).
– إنشاء هيئة وطنية للوقاية من الفساد و مكافحته مكلفة بتنفيذ الإستراتيجية الوطنية في مجال مكافحة الفساد لا سيما التحري في الوقائع ذات العلاقة بالفساد و عند الاقتضاء تحويل الملف إلى وزير العدل لتحريك الدعوى العمومية
هذه النصوص التي يتضمنها قانون مكافحة الفساد المؤرخ في 20 فيفري 2006 كفيلة لوحدها إن طبقت تطبيقا سليما و جديا بالقضاء على ظاهرة الفساد بنسبة معتبرة. رغم مرور قرابة 10 سنوات عن صدور هذا القانون فإنه للأسف لم نسمع بعد أن القضاء حقق في آلاف إن لم نقل عشرات الآلاف من القضايا المشبوهة . فعلى سبيل المثال فإن الإثراء الفاحش لبعض الموظفين العموميين و إطارات الدولة لم يكن في أي وقت محل تحقيقات قضائية لمسائلة هؤلاء الموظفين عن مصدر هذه الثروة و مبرراتها. نقص الإرادة في محاربة الفساد بكل أنواعه يظهر من إقرار بعض القواعد التي لا تعكس أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لا سيما ما يتعلق بتقادم جرائم الفساد. المادة 29 من هذه الاتفاقية تنص على أن كل دولة طرفا في هذه الاتفاقية تحدد في إطار قانونها الداخلي فترة تقادم طويلة بالنسبة لمتابعة مرتكبي جرائم الفساد. الملفت للانتباه أن القانون المؤرخ في 20 فيفري 2006 و إن نص في المادة 54 عن عدم تقادم الدعوى العمومية بالنسبة لجرائم الفساد فعلى شرط أن تكون عائدات الجريمة قد تم تحويلها إلى خارج الوطن.و يفهم من هذا النص أنه في حالة ما كان فعل الفساد لم يترتب عليه تحويل أموال إلى الخارج و لكن هذه الأموال و الممتلكات بقيت داخل الوطن فإن قواعد التقادم العادية هي التي تطبق فالدعوى العمومية تصبح تتقادم بمضي 3 سنوات بالنسبة للجنح و 10 سنوات بالنسبة للجناية.
باعتبار أن كل الجرائم التي نص عليها القانون المؤرخ في 20 فيفري 2006 هي جرائم يعاقب عليها بالحبس و ليس بالسجن و من ثمة تشكل جنح و ليس جنايات فإن مدة تقادم الدعوى العمومية التي يسري عليها هي 3 سنوات و ليس 10 سنوات. إضفاء طابع الجنحة على جرائم الفساد رغم أن معظمها معاقب عليه بعشرين سنة حبس حينما يكون الجاني موظف عمومي يطرح تساؤلات عن مغزى هذا الخيار الذي لا يخدم المصلحة العامة و الذي قد يفسر بإرادة المشرع في التهرب عن إخضاع مرتكبي هذه الجرائم للمتابعة القضائية.
قد لا يقدر من ليس له تكوين قانوني أهمية مسألة التقادم في محاربة الفساد لا سيما في الجزائر.كون القانون المؤرخ في 20 فيفري 2006 أقر مبدأ عدم تقادم جرائم الفساد فقط بالنسبة لجرائم الفساد التي تم تحويل عائداتها للخارج يعني أن % 90 من هذه الجرائم يسري عليها التقادم القصير أي 3 سنوات. إذا علمنا أن أفعال الفساد لا سيما الرشوة و الاختلاس و الإثراء غير المشروع و استغلال الوظيفة و النفوذ كانت تشكل ظاهرة متفشية منذ عهود و أن أغلبية الأثرياء الحاليين كانوا أصلا إطارات أو حتى موظفين بسطاء في مختلف مؤسسات الدولة المدنية أو العسكرية فإن كل هؤلاء الأشخاص أصبحوا يتمتعون بحصانة بقوة القانون كون لا يمكن مسائلاتهم عن مصدر ثرائهم المفاجئ و الغير المبرر بعد مرور 3 سنوات من تاريخ ارتكاب الإثراء غير الشرعي.
إن التراشق بملفات الفساد بين مسئولين في الدولة و خارجها باستعمال القنوات الإعلامية بكل أنواعها و نشر أخبار و معلومات عن إثراء غير مشروع لبعض المسئولين السامين كان من المفروض أن يدفع أجهزة الدولة المخول لها قانونا مكافحة الفساد بالخصوص النيابة العامة و مصالح الأمن و كذا الهيئة الوطنية لوقاية من الفساد و مكافحته إلى تحريك أو طلب تحريك الدعوى العمومية و هذا تنفيذا لأحكام القانون المؤرخ في 20 فيفري 2006.
الخلاصة أنه لا يكفي إصدار قوانين حتى و إن كانت مثالية للتغلب على آفة الفساد التي أرهقت الاقتصاد الوطني و أسقطت معنويات المواطن و لكن يجب تطبيقها الصارم بغض النظر عن رتبة و مكانة مرتكب الجريمة. فتصريح مسئول سامي في الدولة بأنه يحوز على ملفات فساد في حق مسئول حزب سياسي دون الإبلاغ بذلك للسلطات القضائية للتحقيق في القضية لا يعدو فقط أن يكون خرق للقانون و لكن يشكل بحد ذاته مشاركة في الفساد.
الأستاذ براهيمي محمد
محامي لدى المجلس
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً