اقتناع القاضي الجزائي عند الحكم بالبراءة
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
استصحابا لأصل البراءة في المتهم لكون الإنسان يولد بريئا ، فإنه لا يجوز قلب هذا الأصل وهدمه بالحكم بالإدانة ما لم يثبت على نحو يقيني وقوع الجريمة ونسبتها إلى المتهم ، فإذا لم يستطع القاضي الجزائي من خلال وزنه وتقديره لأدلة الإثبات من أن يرقى باقتناعه إلى درجة الاعتقاد ، كان معنى ذلك أن اقتناعه متأرجح يبين بثبوت التهمة ومسؤولية المتهم عنها ، وعدم ثبوتها أو عدم مسؤولية المتهم عنها ، وهذا الاقتناع المتأرجح بين الأمرين لا يقوى على نفي ما كان ثابتا في الأصل ، لأن اليقين لا يزول بالشك ، بل المنطق يقضي بأن يعد عاملا يزكي هذا الاصل ويؤكده ، ومن ثم يتعين على القاضي ان يستصحب هذا الأصل ويبقى عليه ، فيحكم ببراءة المتهم .
فالحكم بالبراءة يتأسس من فرضان ، هما :
الفرض الأول : أن ينجح الدفاع في تفنيد وسائل النيابة العامة في تأييد دعواها “أدلة الثبوت” بينما تفشل هذه الأخيرة من النيل بوسائل الدفاع “أدلة النفي” .
ففي هذا الفرض نجد ان القاضي الجزائي ، يصل إلى إعتقاد كامل في براءة المتهم فيصد حكمة بالبراءة . وهذا واضح لا جدال فيه .
الفرض الثاني : أن يقف نجاح الدفاع إلى حد التشكيك في أدلة الثبوت التي ساقتها النيابة العامة فقط .
ففي هذا الفرض تبرز لنا “قاعدة تفسير الشك لصالح المتهم” ، والتي يتعين بموجبها على القاضي الجزائي أن يصدر حكمه بالبراءة ، وهذا ما سوف تقوم ببيانه وفقا للآتي :
مفهوم قاعدة تفسير الشك لصالح المتهم ومداها :
الشك هو التردد بين فرضين – فرض مع وفرض ضد – وهي النقطة المضادة للاعتقاد الكامل ، فالشك الذي يفسر لصالح المتهم يعني تردد القاضي بين ثبوت التهمة أو احد عناصرها ومسؤولية المتهم عنها .
وتعتبر الشريعة الاسلامية المصدر الأول لقاعدة أن الشك يفسر لصالح المتهم ، والتي يمكن ردها إلى الحديث النبوي الشريف “ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله ، فإن الإمام يخطئ في العفو خير أن يخطئ في العقوبة
وهذه القاعدة مأخوذ بها في جميع التشريعات الجزائية ، ومن بينها التشريع الجزائي الأردني.
وفي هذا تقول محكمة التمييز الاردنية الموقرة “يكفي في المحاكمات الجزائية أن تشكك محكمة الموضوع في صحة إسناد التهمة للمتهم لكي تقضي بالبراءة لأن مرجع الأمر في ذلك إلى ما تطمئن إليه في تقدير الدليل “.
وتقول أيضا “إن تطبيق قاعدة أنه من الأفضل أن تبرئ المحكمة ألف مجرم من أن تدين بريء واحدا يكون محله عندما تكون البينة محل الشك”.
فهذه القاعدة تعد أحد النتائج المباشرة لقرينة البراءة ، فالشكوك التي تحوم حول شخص معين والتي تعتبر الأساس لإحالته إلى المحكمة الجزائية في مرحلة التحقيق الابتدائي ، فإن مرحلة المحاكمة تستهدف إما إلى تبديدها ، وإما تحويلها إلى يقين قضائي ، فالشك هو الذي يحكم قرار القاضي بالإدانة أو بالبراءة ، فإذا ما فشل الدفاع في تنفيذ وسائل النيابة العامة في إثبات ادعائها “أدلة الثبوت” بينما نجحت الأخيرة في تقديم الأدلة التي تدحض وتفند وسائل الدفاع، وتشكل بها الاعتقاد الكامل لدى القاضي الجزائي بأن المتهم هو الذي ارتكب الجرم ،فإن المنطق والمعقول الحكم بإدانة المتهم .
أما إذا عجزت النيابة العامة من تقديم الدليل على وقوع الجريمة ونسبتها إلى المتهم ، بارتكابه لها أو استطاع الدفاع أن يقف عند حد التشكيك في أدلة الثبوت التي ساقتها النيابة ، فإن القاضي الجزائي يصبح ملزما بإصدار حكمه ببراءة المتهم ، ذلك أن ” الشك ” في ثبوت التهمة أو في ثبوت نسبتها إلى المتهم – الذي لم تستطع النيابة العامة أن تحوله – إلى يقين – يعتبر للمتهم والأصل فيه البراءة دليلا ايجابيا على براءته،لأن حالة الشك بقية كما هي ، واليقين لا يزول إلا بالشك .
وهذا الشك ينظر إليه من حيث درجته أو قوته – شك – مستوى الطرفين “تساوت فيه أدلة الثبوت مع أدلة النفي ” – شك – ترجع فيه أحد طرفيه ” رجحان أدلة الثبوت على أدلة النفي أو العكس ” ، أما إذا نظرنا إلى المحل الذي يرد عليه الشك نجده قد يتعلق بمسألة من مسائل القانون “الشك في مضمون النص أو في معناه الدقيق ، وشك متعلق بمسألة من مسائل الواقع”، وهذا النوع الأخير من حيث مداه قد يرد على ثبوت التهمة ذاتها ، أو قد يرد على أحد الظروف الملابسة لها “كالشك في وجود نية القتل أو الإصرار السابق مثلا” ، كما أنه من حيث طبيعته قد يكون موضوعا ” وهو الشك الذي يتأرجح بين معنيين متناقضين ” ، وقد يكون شخصيا “وهو الشك الذي يوجد عندما لا يطمئن القاضي إلى صدق الدليل”.
فأي من هذه الأنواع هو الذي ينبغي تفسيره لصالح المتهم ؟
إن النوع الوحيد للشك الذي يلزم القاضي بتفسيره لصالح المتهم هو الشك الذي يكون محله إحدى الوقائع التي تتأسس عليها المسؤولية الجزائية للمتهم، سيان كان موضوعة التهمة ذاتها “فيكون مبرئا من المسؤولية كلية ، أو عنصرا أو ظرفا فيها ، ففي هذه الحالة يكون الشك مخففا للمسؤولية فقط ، كما أنه يستوي ان يكون هذا موضوعا أو شخصيا ، كما يستوي في أعمال هذه القاعدة درجة الشك – سيان كان مستوى الطرفين أو أحدهما أرجح ، وبالعموم أيا ما كان مصدر الشك وأيا ما كان سببه ما دام متعلقا بمسألة واقعية تعد عنصرا من عناصر ثبوت التهمة أو نسبتها إلى المتهم، ففي جميع الحالات يتردد اقتناع القاضي الجزائي بين الإدانة والبراءة يجب عليه أن يفسر هذا الشك لصالح المتهم ومن ثم الحكم بالبراءة استطحابا للأصل .
النتائج المترتبة على قاعدة تفسير لصالح المتهم
إن قاعدة تفسير الشك لمصلحة المتهم هي قاعدة قانونية إلزامية للقاضي الجزائي يتعين عليه أعمالها كلما ثار لديه الشك في الإدانة ، فإذا ما خالها واعتبر الواقعة محل الشك ثابتة وقضى بالإدانة كان حكمه باطلا ، ويجوز أن يستند الطعن في الحكم إلى هذا السبب ، وهذا ما استقر عليه الفقه والقضاء ، بل يجوز في رأينا ان تنقض محكمتنا العليا الحكم استنادا لهذا السبب ، وهذا ما استقر عليه الفقه والقضاء، بل يجوز ان تنقض محكمتنا العليا الحكم استنادا لهذا السبب حتى ولو لم يرد الطاعن ضمن أسباب طعنه لكونه مخالفة للقانون وللتطبيق القانوني السليم وفقا لنص المادة 280/2 من أصول المحاكمات الجزائية الاردني ، فتبسط محكمتنا العليا رقابتها على قناعة القاضي الجزائي ، وتنقض حكمه وتعيده إلى الطريق القويم ، لأن الحكم بالإدانة يتطلب اعتقاد كامل بثبوت التهمة ، أو ينقض قرينة البراءة ويدحضها في حين أن الشك بثبوت التهمة أو نسبتها إلى المتهم أو عدم اطمئنانه للأدلة أو لعدم كفايتها هو مؤكدا لها ، لأن وجود الشك معناه تأرجح اقتناع القاضي بثبوت التهمة ومسؤولية المتهم عنها، وبين عدم ثبوتها أو عدم مسؤوليته عنها ، وهذا ما يؤدي إلى استصحاب الأصل وبالتالي يترتب على الشك أثره في كونه دليلا ايجابيا للبراءة فيصبح الحكم بالبراءة لازما.
وفي هذا تقول محكمة التمييز الاردنية الموقرة “تبنى الأحكام الجزائية على الجزم واليقين وليس على الشك والتخمين ، وإن تأكيد الشاهد أن المتهم هو الذي اشترك في جريمة السلب وأنه يؤكد ذلك بنسبة “90%” ما يفيد وجود شك ، والشك يفسر لصالح المتهم”.
ومما تجدر إليه الإشارة أن حكم البراءة المؤسس على الشك بثبوت التهمة أو على الاعتقاد في انتفاء قيام الجريمة أو عدم ارتكاب المتهم لها ، لا يختلف من حيث الآثار المترتبة عليه – كونه حجة أمام القضاء المدني – سندا لنص المادة 332 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني والتي جاء فيها ” ………….. ويكون الحكم بالبراءة هذه القوة – قوة الشيء المحكوم به أمام المحاكم المدنية الدعاوى التي لم يكن قد فصل فيها نهائيا وذلك فيما يتعلق بوقوع الجريمة وبوصفها القانوني ونسبتها إلى فاعلها – سواء بني على انتقاء التهمة أو على عدم كفاية الأدلة ” .
أما النتيجة الثانية التي تترتب عليها على تطبيق قاعدة الشك لصالح المتهم ، فهي تعديل “وصف التهمة ” ، التكييف الجرمي للواقعة المبنية في قرار الاتهام والمطروحة في الدعوى إلى وصف قانوني آخر لصالح المتهم إذا تعلق شك القاضي الجزائي بعنصر من عناصر تلك الواقعة ، كما لو استبعد نية القتل أو سبق الإصرار أو إذا لم يطمئن القاضي الجزائي إلى أ، المتهم هو صاحب الضربة القاتلة ، فعلى القاضي الجزائي أن يعطي الواقعة الشكل الذي ثبت فيه وصفها القانوني لصالح المتهم .
وفي هذا تقول محكمة التمييز الاردنية الموقرة ” إن عدم قناعة محكمة الموضوع بأن نية القتل كانت متوفرة لدى المميز ضده الذي طعن المجني عليه بسكين طعنة واحدة ولم يكرر الطعنة ، ولأن الشهادة الفنية أثبتت أن الطعنة لم تخترق كامل جدار البطن ولم تحدث نزيفا داخل البطن ، وإنما أفضت إلى تعطيل المجني عليه من عمله مدة ثلاثة أسابيع ، فإن الحكم بتعديل وصف الجريمة المسندة إلى المميز ضده من جريمة الشروع بالقتل إلى جريمة الإيذاء يكون متفقا وأحكام القانون”.
وتقول أيضا ” شهادة الطبيب الشرعي بأن وفاة المغدور نتجت عن الإصابة بعيارين ناريين وأنه يشك في أن الطعنات قد تسببت بوفاتها هي خبرة فنية ، ويفسر الشك لصالح المتهم ولا يشكل بينة على إدانة المميز بالاشتراك في الجريمة .
شروط تطبيق قاعدة تفسير الشك لصالح المتهم
إذا كان صحيحا أن حرية القاضي الجزائي في الاقتناع سواء في الاستعانة بكافة وسائل الإثبات أو في مجال تقديرها ، تتقيد في مضمونها بتحقيق العدالة الجزائية وذلك بإقامة التوازن بين مصلحة المجتمع في العقاب ومصلحة المتهم في حريته الشخصية وعدم المساس بها وفقا لأحكام القانون ، مما دعا الفقه والقضاء إلى وضع الضوابط التي من شأنها أن تجنب القاضي الجزائي مخاطر الإدانة أو البراءة المستعجلة أو المبتترة والقائمة على الهوى ، وإذا كانت القاعدة تفسير الشك لصالح المتهم تقف في مواجهة حرية القاضي في الاقتناع ، لقيم التوازن الدقيق في مجال تقدير الأدلة لهاتين المصلحتين المتعارضتين في الدعوى الجزائية ، إلا أن الشك المبرئ أو المخفف للمسؤولية ليس هو الشك العاطفي أو الغير قائم على أسباب، الدكتور محمد زكي أبو عامر فالقاعدة أنه يكفي لسلامة الحكم بالبراءة أن يشكك القاضي الجزائي في صحة إسناد التهمة إلى المتهم بيد أن ذلك مقيد بشرط هام مفاده أن يورد القاضي الجزائي في أسباب حكمه ما يفيد أنه محض عناصر الدعوى جميعا وأحاط بها عن بصر وبصيرة ، ووازن بين أدلة الثبوت والنفي فداخله الشك في عناصر الاتهام.
وفي هذا تقول محكمة التمييز الاردنية الموقرة “لمحكمة الموضوع مطلق الحرية في تقدير الدليل وتكوين عقيدتها ، وأن لها أن تقضي بالبراءة متى تشككت في صحة الدليل أو عدم كفاية أدلة الإثبات إلا أن ذلك مشروطا بأن يشتمل حكمها ما يفيد أنها محصت وقائع الدعوى بكافة جوانبها واحاطه بظروفها وأدلة الإثبات التي اعتمدتها النيابة في إسناد التهمة”.
تم الرجوع للمراجع التالية في هذه الدراسة
القراراالقضائية
قرار تمييز جزاء رقم 26/93 ، ص 349 ، سنة 1995 ، مجموعة المبادئ القانونية لمحكمة التمييز الأردنية .
قرار تمييز جزاء رقم 62/87 ، ص 816 ، سنة 1977 ، مجموعة المبادئ القانونية لمحكمة التمييز الأردنية .
تمييز جزاء رقم 286 /95 ، ص 341 ، سنة 1996 ، مجموعة المبادئ القانونية لمحكمة التمييز الأردنية .
تمييز جزاء رقم 196/85 ، ص 351 ، سنة 1987 ، مجموعة المبادئ القانونية لمحكمة التمييز الأردنية .
المراجع الفقهية
1-الدكتور حسن جوخدار ، شرح قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني ، المكتبة الوطنية ، عمان ، الطبعة الأولى 1993 .
2-الاستاذ فاروق الكيلاني ، محاضرات في قانون أصول المحاكمات الجزائية والمقارن ، دار المروج ، بيروت الطبعة الثالثة ، 1995 .
3-الدكتور محمد زكي أبو عامر
أ.الاجراءات الجنائية ، منشأة المعارف ، الطبعة الثانية ، الاسكندرية،1984
ب. الاثبات في المواد الجنائية ، الفنية للطباعة والنشر ، الطبعة الاولى، الاسكندرية، 1985.
4- الدكتور محمد عبد الشافعي إسماعيل ، مبدأ حرية القاضي الجنائي في الاقتناع، دار المنارة ، الطبعة الأولى ، 1992 .
5- الدكتور هلالي عبد الاله احمد عبد العال، النظرية العامة للاثبات في المواد الجنائية، دراسة مقارنة بالشلريعة الاسلامية ، 1995
رسائل الماجستير
1-الاستاذ زبده اسماعيل ، مبدأ الاقتناع الشخصي للقاضي الجزائي ، جامعة الجزائر
2- الاستاذ طواهري اسماعيل ، النظرية العامة للاثبات في القانون الجزائري ، جامعة الجزائر
0 لا تعليقات بعد
1 التنبيهات