التلبس في الجرائم – دراسات مغربية
حالـــة التلبـــس بالجريمـــة – استشارات قانونية
تختلف طريقة البحث في حالة التلبس عن البحث التمهيدي العادي في بعض النقط الرئيسية،حيث يتيح القانون لضابط الشرطة القضائية مرونة في ممارسة بعض صلاحياته،إذا تعلق الأمر ببحث يجريه بشأن جناية أو جنحة متلبس بها،ولا يتيحها له إذا تعلق الأمر بالبحث في غير حالة التلبس.
إن اختصاصات الشرطة القضائية تنحصر في التثبت من وقوع الجريمة وجمع الأدلة عنها.والبحث عن مرتكبيها،أما أعمال التحقيق فهي خارجة عن نطاق عملها،غير أن المشرع خرج عن هذا الأصل في بعض الأحيان،إما بناء على قيام طرف خاص لا يحتمل الشك،في قيام الجريمة،وفي نسبتها إلى فاعلها،فأعطى لضابط الشرطة القضائية الحق في إجراء تحقيق كما هو الحال في حالة التلبس.
يرى الدكتور الحسن البوعيسي أن المشرع المغربي نفسه لم يعط – في الحالات المنصوص عليها في الفصل 55 من قانون المسطرة الجنائية الجديد- للتلبس معناه الدقيق،أي كونه حالة تمنح لضابط الشرطة القضائية سلطات واسعة للتثبت من الجريمة،وهكذا نجد المشرع المغربي يقصد بالتلبس،إحالة المتهم للمحاكمة في حالة الاعتقال.
ويرى الأستاذ حسن الفكهاني أن الفصل 58 من قانون المسطرة الجنائية المتعلق بأحوال التلبس يقابل نفس المادة 30 من قانون الإجراءات المصرية،والتي تقول بأن الجريمة يكون متلبسا بها حال ارتكابها أو عقب ارتكابها ببرهة يسيرة،ويرى أن التلبس يتميز بحلة عينية تلازم الجريمة نفسها ولا تتعلق بالشخص،والخروج عن القواعد البطيئة للتسيير التي يجب اتباعها في الأحوال العادية ضمانا لحرية الأفراد،فالجريمة واقعة والأدلة قائمة،فيجب الإسراع في جمعها وفحصها قبل أن تضيع وتمتد إليها يد التستر،وقبل ذهاب معالمها.
ويرى الأستاذ أحمد الخمليشي أن مفهوم التلبس يقصد به الجريمة المشهودة التي تضبط وقائعها وأفعالها أثناء تنفيذ الفعل الإجرامي أو بعد تنفيذه في ظروف حددها القانون. ويرى أن التلبس وصف عيني يلحق الجريمة، لذلك اعتبرت جناية أو جنحة متلبس بها، فإن الوصف يسري على جميع المشاركين و المساهمين فيها حتى وإن لم يضبط منهم شخص في حالة التلب.
وعلى العموم فإن التلبس هو حالة تتعلق باكتشاف الجريمة بأركانها القانونية، وتعتمد إما على مشاهدتها وقت ارتكابها أو بعده بوقت يسير، فالمشاهدة الفعلية للجريمة أو التقارب الزمني بين اكتشافها لوقوعها هو مناط حالة التلبس.
وهكذا فالتلبس يقصد به ضبط الفاعل أثناء تنفيذ الفعل الإجرامي أو الجريمة التي تضبط وقائعها بعد تنفيذها في ظروف خاصة حددها القانون.
ويقتصر وصف التلبس على الجنايات والجنح،لأنها تتسم بالخطورة التي تتطلب الإجراءات المسطرية الإستثنائية الخاصة بحالة التلبس،أما المخالفات فتخضع دائما للمسطرة العادية .
الفقرة الأولى : الأحوال و الشروط العامة للتلبس
أولا : الأحوال العامة للتلبس
لم يعرف المشرع المغربي التلبس،وإنما اكتفى بتعداد حالات ذكرها على سبيل الحصر،تتحقق فيها حالة التلبس بالجناية أو الجنحة،وهي أربع حالات أشارت إليها المادة 56 من قانون المسطرة الجنائية التي حلت محل الفصل 58 من قانون المسطرة الجنائية الملغى،ويتعلق الأمر ب :
1- مشاهدة الجريمة حال إنجاز الفعل الإجرامي أو على إثر إنجازه :
أي أن تكون المشاهدة في حالة ارتكاب الجريمة،كمشاهدة الفاعل أثناء ارتكابه لجريمة القتل وإن كانت المشاهدة أغلب ما تكون بالرؤية،إلا أن ذلك ليس شرطا،وإنما يكفي إدراك وقوع الجريمة بأية حاسة من الحواس،لذلك حكم بأن سماع العيارات النارية من الجهة التي شوهد المتهم قاد ما يجري منها عقب ذلك مباشرة،يعتبر من حالات التلبس.
أما مشاهدة الجريمة إثر إنجاز الفعل الإجرامي بفترة يسيرة،ولم تحدد مقدار هذه الفترة،ولكن من المفروض أن تشاهد آثار ارتكاب الجريمة،كأن يرى المقتول ومازالت دمائه تنزف.
إضافة إلى ذلك فالتلبس يعنى به في هذه الحالة ضبط المتهم من طرف رجال الشرطة القضائية،وهو يسرق أو يقتل أو يرتكب فعلا إجراميا آخر،إذا كان الضبط يتم عادة بالمشاهدة،فإن حالة التلبس يمكن إدراكها بكل الحواس كالسمع والشم.
هذه هي الصورة العامة أو العادية للتلبس بالجريمة، حيث يطلع ضابط الشرطة القضائية على الأعمال التنفيذية للجريمة أثناء ارتكابها أو عقب الإنتهاء من تنفيذها مباشرة.
والأعمال التنفيذية للجريمة هي التي يتكون منها الركن المادي سواء في صورة الجريمة التامة أو في صورة المحاولة، فوصف التلبس يلحق بالجريمة التامة، ويلحق محاولتها كذلك، كما تشمل الأعمال التنفيذية الظروف المشددة، مثل مشاهدة التكسير.
ولا يحدد القانون من يقوم بضبط الفاعل وهو يرتكب الجريمة،ولكن إطلاق اللفظ يؤدي إلى أن العبرة هي ضبط شخص معين هو الفاعل،وهو يقترف فعلته بغض النظر عمن ضبطه،سواء كان ضابطا للشرطة أو مأمورا للقوة العمومية أو شهود عيان،أو الضحية نفسها.
وفي اجتهاد لمحكمة النقض الفرنسية، اعتبرت التفتيش الذي تم دون موافقة المعني بالأمر قانونيا، لأنه أنجز على إثر ارتكاب جريمة السرقة وبالتالي في وقت جد قري.
2- مطاردة الفاعل بصياح الجمهور أثناء وقوع الجريمة :
ويرى أبو المعاطي حافظ أبو الفتوح أن المقصود بمطاردة الفاعل بصياح الجمهور إثر وقوع الجريمة،أن يشاهد الجاني عقب ارتكابه للجريمة بفترة قصيرة،والجمهور يتبعه بصياح لإلقاء القبض عليه.
إن المشرع المغربي لم يحدد مقدار الفترة بين هذه الرؤية وبين ارتكاب الجاني لجنايته،ولكن المفروض أن يكون ذلك إثر ارتكاب الجريمة،فيحكم بأنه إذا كان الجندي أثناء قيامه بعمله قد قام بمشاهدة الجاني يجري في الطريق ويتبعه نفر من العامة مع الصياح طالبين القبض عليه لارتكاب سرقة.فتقدم الجندي وأمسك به، وعندئذ ألقي بورقة في الأرض فالتقطها الجندي ووجدها مادة تبين بعد ذلك أنها مخدرات، فأجرى ضبطه واقتاده إلى مركز الشرطة، فقام الضابط بتفتيش مسكنه، فالواقعة على هذا النحو تجعل رجال الشرطة إزاء جريمة متلبس بها.
ويعتبر الدكتور أحمد بسيوني أبو الروس تتبع المجني عليه أو تتبع الناس له مع الصياح إثر وقوع الجريمة شرط ضروري لقيام حالة التلبس بالجريمة المشهودة.ولا يقصد بالتتبع العدو وراء الجاني وإنما يكفي ملاحظته بالصياح.
وقد اعتبر القانون المصري هذه الصورة من ضمن حالة التلبس لأن المتابعة التي تتطلبها تتضمن اتهاما صريحا من الأفراد قد يكون بينهم شهود رؤية،ولا تلزم المتابعة بمطاردة الجاني والجري وراءه،بل تكفي المطاردة بالصياح والإشارة بالأيدي.
وعلى العموم، فالحالة التي يكون فيها الفاعل ما يزال مطاردا بصياح الجمهور على إثر ارتكاب الجريمة، وهي حالة تفترض أن مرتكب الفعل الإجرامي لم يتم إيقافه بمكان الجريمة، وأنه تمكن من الإفلات.ولكن الجمهور طارده في الحين سواء تم توقيفه آنذاك أم لم يتم توقيفه،فإن الجريمة تعتبر جناية متلبس بها.
3 – مشاهدة أدلة الجريمة وآثارها :
ورد في الفصل 56 من قانون المسطرة الجنائية مايلي ” إذا وجد المجرم بعض مرور زمن قصير على ارتكاب فعلته حاملا أسلحة أو أشياء يستدل منها على أنه شارك في الفعل الإجرامي أو وجدت عليه إمارات تثبت مشاركته.”
ويرى الدكتور فاضل محمد أن لهذه الحالة صورتان :
الأولى : وهي التي يوجد فيها المجرم حاملا أسلحة أو أشياء يستدل منها على أنه شارك في الفعل الإجرامي.
الثانية : وهي التي يوجد فيها المجرم بعد مرور زمن قصير على ارتكاب فعلته وعليه آثار أو إمارات تثبت مشاركته في الجريمة.
أما في القانون المصري فقد نصت المادة 308 من قانون الإجراءات الجنائية على ما يلي ” …فإنها تتحقق إذا وجد مرتكبها بعد وقوعها بوقت قريب حاملا آلات أو أسلحة أو أمتعة أو أوراق أو أشياء أخرى يستدل بها على فاعل أو شريك فيها،وإذا وجدت في هذا الوقت آثار أو علامات تفيد ذلك.
وعلى هذا فالحالة التي يعثر فيها على الفاعل بعد مرور وقت قصير على ارتكاب الجريمة حاملا أسلحة أو أشياء يستدل بها على مشاركته في الجريمة أو توجد عليه آثار أو علامات تثبت مشاركته في الجرم.
4 – التثبت من إبلاغ صاحب المنزل بارتكاب الجريمة في داره :
تتسم صفة التلبس بالجناية أو الجنحة، ارتكاب جريمة داخل منزل في ظروف غير المنصوص عليها في الفقرات الثلاث للمادة 56 من قانون المسطرة الجنائية، إذا التمس مالك أو ساكن المنزل من النيابة العامة أو من ضابط للشرطة القضائية معاينتها.والمفروض في هذه الحالة أن صاحب المنزل شاهد الجريمة حال ارتكابها في داره،أو بعد ذلك بقليل،ثم التمس من وكيل الملك أو أحد ضباط الشرطة القضائية الإنتقال إلى منزله للتأكد من وقوع الجريمة،فهو قد أباح لضابط الشرطة القضائية دخول منزله.ويتضح مما سبق أن للتلبس خمس حالا، منها ما يتسم بالتلبس الحقيقي أو الفعلي أما باقي الحالات فالتلبس فيها حكمي أو افتراضي،إذا لم تشاهد الجريمة حال ارتكابها وإنما تدل الشواهد عليها.والملاحظ بالنسبة للحالات الثلاث الأولى، أن الفترة الزمنية الفاصلة بين ارتكاب الجريمة و العثور على المجرم.هي العنصر الحاسم لتحديد حالة التلبس،وأثناء هذه الفترة تصبح في كل حالة أطول من سابقتها،فإذا كان الأمر في الحالة الأولى مشاهدة الجريمة حال إنجاز الفعل الإجرامي أو على إثر إنجازه يتعلق بلحظة فورية،أي يتزامن فيها ارتكاب الجريمة مع ضبط الفاعل،فإنه في الحالة الثانية،مطاردة الفاعل بصياح الجمهور إثر وقوع الجريمة يكون المجرم قد ارتكب فعلته بعد برهة قصيرة وفر وهو عرضة لمطاردة الجمهور،وفي هذه الحالة يتأخر اكتشاف الفاعل لحظات قليلة على ارتكاب الجريمة،وأما في الحالة الثالثة (مشاهدة أدلة الجريمة وآثارها) فيكون قد مر زمن ما بين ارتكاب الجريمة أو الفعل الإجرامي،وبين التاريخ الذي يوجد فيه الفاعل ،ويكون الدليل على علاقته بالجريمة هو الأسلحة والأشياء التي تضبط معه،أو الأمارات و العلامات التي توجد عليه،كآثار الدماء أو اللباس الذي كان يرتديه مثلا.
والمشرع عبر عن الفترة الزمنية التي تفصل بين ارتكاب الجريمة،وبين اكتشاف المشتبه فيه بتعبير”بعد مرور زمن قصير” دون أن يحدد زمنا معينا لقيام حالة التلبس،حتى يمكن أن نقول أن حالة التلبس قد انتفت بمروره،وانعدام هذا التحديد يطرح عدة إشكاليات من الناحية العملية،سيما فيما يتعلق بالمسطرة الواجب اتباعها في البحث من طرف الشرطة القضائية(إما مسطرة التلبس أو مسطرة البحث التمهيدي العادي) .
وقد حاول بعض الفقهاء المغاربة تحديد زمن معين لسلوك مسطرة التلبس، فحددها البعض في عدة ساعات، في حين حددها البعض الآخر في 24 ساعة.
ويرى بعض الفقهاء أن زمن قيام حالة التلبس موكول إلى اجتهاد القاضي الذي يمكن اعتبار مجرد ساعات بمثابة زمن طويل تنتفي معه حالات التلبس، كما يمكنه اعتبار يوم كامل زمنا قصيرا تتحقق خلاله حالة التلبس.كما يمكنه اعتبار يوم كامل زمنا قصيرا تتحقق خلاله حالة التلبس. والواقع أن ترك هذا التقدير للقاضي قد تنتج عنه عدة تجاوزات، إذ يمكن للقاضي أن يعتبر حالة التلبس قائمة خلال عدة أيام،بل وحتى خلال عدة أسابيع أو شهور. كما أن الفقه اختلف بشأن المدة الزمنية للتبليغ عن وقوع الجريمة لعدم تحديدها بالنص،بينما يرى البعض عدم جدوى وأهمية الفترة الزمنية،وبالتالي تبقى الجريمة خاضعة للبحث التلبسي،ولو لم يتطلب التثبت فيها إلا بعد شهور أو سنوات على التنفيذ.وذهب البعض الآخر إلى خلاف ذلك ورأى أنه إذا لم يقع التبليغ إلا بعد فترة طويلة، ووقع تغيير في الأمكنة وتبديد كل الآثار، فإن حالة التلبس تنتفي.
اترك تعليقاً