مقال قانوني متميز حول النظريات المفسرة للسلوك الإجرامي
لقد عمد عديد من الباحثين و العلماء إلى محاولات في تفسير هذه الظاهرة منطلقين من رؤى مختلفة حينا ومتضاربة أخرى و متداخلة أحيانا أخرى . ولعل أولى الخطوات في تفسير الجريمة كانت تلك المتعلقة بالمدرسة الفلسفية التي ربطت مشكلة الجريمة بالأخلاق ، ومن روادها كانط حيث يقول “أن إرادة الخير هي الشيء الوحيد الذي يعد خيرا على الإطلاق دون قائد أو شرطي وترتبط إرادة الخير بمفهوم الواجب “. ثم تلتها خطوات أخرى حاولت أن تسلط الضوء على الجريمة و أن تمنحها التفسير العلمي الجزئي أو المتكامل للظاهرة . ومن هذه النظريات :
1- النظرية البيولوجية المفسرة للجريمة:
هذه النظرية حاولت إعطاء الجريمة تفسيرا انطلاقا من وجود تكوينات عضوية محركة للفعل الإجرامي، و أهم روادها العالم سيزار لمبروزو (1835- 1909) الذي اشتغل طبيبا بالجيش الإيطالي و عمل بالمستشفيات العقلية وهذا ما أكسبه خبرة في الميدان و أتيحت له فرصة التعامل مع المجرمين و غير المجرمين من حيث التكوين الجسماني .
وقد مكنته أبحاثه من وضع نظريته التي عرضها في كتابه ” الرجل المجرم ” الصادر سنة 1876. وقد غلب لمبروزو دور العوامل الوراثية التي تؤدي بصاحبها إلى ارتكاب الأفعال الإجرامية وقد انتهى إلى أمرين اثنين :
1- أن الصفات الارتدادية الخالقة معه تتوافر لدى معظم المجرمين لا لدى جميعهم
2- أن الوراثة وحدها لا تؤدي إلى الجريمة و إنما تؤدي إلى توافر ميل نحو الجريمة ما لم يكن مقترنا بعوامل معينة قد تكتسب بعد الميلاد .
وقد صنف لمبروزو المجرمين إلى خمسة أنماط هي :
المجرم بالميلاد ، المجرم المجنون ، المجرم بالعادة ، المجرم بالصدفة ، المجرم بالعاطفة .
وقد أرسى بذلك قواعد و دعائم الاتجاه الأنثروبولوجي في علم الاجتماع حيث وضع نمط بيولوجي أساسي و نفسي تبعي واعتبره أساس لتمييز المجرم عن غيره
– اتجاه الكروموزوم والعامل الوراثي :
ثم تلت أعمال لمبروزو محاولات أخرى حاولت ربط الجريمة بنشاط الغدد و المورفولوجيا و الكروموزومات ، ومما ساعد على ذلك هو التقدم الكبير الذي أحرزته العلوم و الدراسات العلمية الخاصة بوظائف الغدد و الوراثة و علم الأجنة ( شيلدون ، جلوك ).فالاتجاه البيولوجي هو الذي يعطي الدور الجوهري للعوامل الوراثية و الجسمية للفرد في إحداث السلوك الإجرامي ، وقد ذهب في ذلك وليام شيلدون . H. Sheldon إلى تأييد هذا الاتجاه حيث ابتدع طريقة للتمييز بين المجرمين و غير المجرمين من حيث نوع الخلايا الجسمية لدى 200 حالة من الأحداث الجانحين ، حيث خلص إلى أن الجانحين يختلفون عن غير الجانحين من حيث الخلايا الجسمية و الأنماط المزاجية و النفسية المرتبطة بها و التي تتجه لدى الجانحين نحو انحطاط موروث .
هذا الاتجاه يذهب أيضا إلى اعتبارات أخرى هي أن الاستعدادات التكوينية التي توجد لدى الفرد من تشوهات و ضعف في القدرات العقلية و نقص في القدرات الجسمية ؛ هي عائق من توافق صاحبها مع البيئة المحيطة به و التي يعيش فيها، مما يجعلها كمحركات للخروج عن تواضعات المجتمع و التمرد عليه بإتيان السلوك الإجرامي . كما تحدث أنصار هذه النظرية عن اضطرابات الغدد و إفرازاتها وبخاصة الغدة الكظرية و التي تكون سببا في دفع الفرد إلى الفعل الإجرامي .
إن ما ذهبت إليه المدرسة البيولوجية من رؤى قائمة على أفكار و دراسات علمية و على الرغم من أنها فتحت الأبواب للبحث العلمي المتخصص في هذا المجال ؛ إلا أنها لم تسلم من النقد الذي وجهه عديد من العلماء ، مثل ما تقدم به فولد جورج B. VOLD. GEORGE (1958) الذي رأى أن التفسيرات البيولوجية هي تفسيرات هشة . كما انتقد أيضا ريتشارد كورنR.KORN كل المحاولات التي من شأنها أن تمنح الأهمية القصوى للعوامل العضوية في تفسير ت الجريمة وأكد أنها محاولات تفتقر إلى العلمية و الدقة في البحث . و أن الفروق التي تحدث عنها لمبروزو ترجع إلى الصدفة و لا تعكس فروقا حقيقية بين المجرمين و غير المجرمين , كما كان النقد الذي وجه للمدرسة قائم أيضا على أن أنصارها كانوا يستخدمون أسلوب القمع بحكم السلطة التي يمتلكونها على الجنود ، ومما يضعف أيضا مصداقيتها أن الطفل إذا ما فحص و وجد لديه دلائل مجرم يؤخذ مباشرة إلى السجن حسب تصنيف لمبروزو و أنصار النظرية البيولوجية .
2- النظرية النفسية المفسرة للجريمة :
إن الاتجاه السيكولوجي في فهم الظاهرة الإجرامية كان من خلال التقدم الذي أحرزه علم النفس و خصوصا الخطوات التي خطتها مدرسة التحليل النفسي و تقنيات أبحاثها ، فكانت هناك دراسات رائدة مركزة على الشعور و اللاشعور و الكبت الناتج عن وجود صراع نفسي ، وقد اعتبرت الجريمة تعبير عن طاقة غريزية كامنة في اللاشعور تبحث عن مخرج وهي غير مقبولة اجتماعيا ، ومن هنا يمكننا القول أن النظرية النفسية لم تعطي للفعل الإجرامي أهمية كبرى بل كانت تعطيه قيمة رمزية و قيمة عرضية وحسبها أن هذا السلوك هو التعبير المباشر عن الحاجات الغريزية و التعبير الرمزي عن الرغبات المكبوتة ، أو هو نتاج عن أنا غير متكيف بين متطلبات الأنا الأعلى و الهو . فالبحث في موضوع الجريمة من ضوء التفسير السيكولوجي أصبح من اختصاص علم جديد يعرف بعلم النفس الجنائي La Psychologie Criminelle الذي يبحث في العوامل النفسية للجريمة من خلال مختلف الاتجاهات المختلفة المنتمية للمدرسة النفسية .في هذا الصدد نجد أبحاثا ودراسات و اتجاهات مختلفة منحاها النظرية النفسية وتفسر الجريمة وفق رؤى نفسية مختلفة ومن من هذه الاتجاهات نجد:
– الاتجاه الفرويدي
يرى فرويد مؤسس مدرسة التحليل النفسي و أنصاره أن المجرم شخص لم يتمكن من التحكم كفاية في نزواته أو لم يتمكن من التسامي بها في سلوكات مقبولة اجتماعيا فالسلوك الإجرامي حسب فرويد هو التعبير المباشر عن الحاجات الغريزية و التعبير الرمزي عن الرغبات المكبوتة ، أو هو نتاج لأنا غير متكيف بسبب تمزق هذا الأخير بين متطلبات الهو المتناقضة و الأنا الأعلى . كما يؤكد أيضا أن سيكولوجية المجرم تتوفر على سمتين أساسيتين هما : اندفاعية محطمة كبيرة و أنانية غير موجودة إلى جانب عقدة أوديب التي تفسر الإجرام في شكلين من أخطر أشكاله:
– زنا المحارم : وهو تعدي جنسي غير قانوني يرتكبه ولي أو بديله على طفله ، ومن وجهة النظر الأنثروبولوجية كل المجتمعات تحرم حالات زواج الأقارب و يعد كلود ليفي ستروس من أهم العلماء الذين درسوا هذه الظاهرة و توصل إلى أن كل المجتمعات المعروفة تتوفر على قاعدة سارية تحرم على الرجل اتخاذ بعض النساء كأزواج .
– قتل الولي: حيث يفسر بعض أنواع الأخرى من الإجرام أين يقتل الطفل أباه و قد يكون القتل رمزيا
فالشعور بالذنب و عقدة أوديب حسب فرويد من أهم الدوافع نحو ارتكاب الجريمة و الإحساس يسبقها و ليس كما يعتقد أنه يتبعها ، فحسبه الشاعر بالذنب يبحث عن العقاب عن طريق الإجرام و هذا ما يعرف بالعقاب الذاتي .
– اتجاه الإحساس بالنقص لآدلر : وضعها آدلر (1870-1937) حيث يقوم نسقه النظري على الشعور بالنقص و الصراع من أجل التفوق ، و في مجال الجريمة فإن عقدة النقص قد تؤدي إلى ارتكاب الجريمة ، لأن هذه العقدة هي أحسن الوسائل لجلب الانتباه و ليصبح مركز اهتمام فيعوض الإحساس باقتراف الجريمة وفي هذا الصدد يوجد اتجاه آخر هو اتجاه الإحساس بالظلم لدو قراف و دي تيلو : حيث لفت دوقراف (1950) الانتباه إلى دور الإحساس بالظلم في نشوء الإجرام حيث لاحظ دوقراف حساسية مفرطة للظلم عند بعض المنحرفين المنتكسين وهذه الحساسية تدل على حرمان عاطفي شبه كلي .
– اتجاه الإحساس بالإحباط لدولاردو (1939) وغيره :
ينطلق أنصار هذا الاتجاه من فكرة مفادها أن الإحباط يؤدي إلى العدوان و هذا الأخير يؤدي إلى الإحباط وهكذا تكون الدورة مغلقة ، و يعتقد أنصارها ان النسبة العالية من الإجرام في الجماعات الفقيرة و ازدياد ارتفاع الإجرام في اللحظات الحرجة يفسران برد الفعل عن الإحباط . وجدير بالذكر أن هذه الاتجاه يرجع كثيرا إلى الطبيعة الإنسانية عند تفسيره للظواهر الإنسانية المختلفة ومـن هنا أخذ اسم النظرية الإنسانية . فالإجرام حسب هذه النظرية ناتج عن ردود أفعال تجاه الإحباطات بسبب التعلم الاجتماعي ، هذه الإحباطات مفروضة علينا من طرف أشخاص آخرين لا يريدوننا أن نطور كل قدراتنا . وقد تحدث فـي مليجرام (1974)Milligrammesمن نوعين مـن الضغوطات الاجتماعية التي تجـبر الناس على ممارسة الإجرام :
– ضغط اجتماعي من موقع السلطة (تنفيذ أوامر سلطوية)
– ضغط من خارج السلطة يصدر عن الأقران و المعارف وحتى عن مجموع الناس العاديين .
وفي بحثها عن الأسباب التي تجعل الفرد مجرما أو عدوانيا تجاه الآخرين ، ترى هذه النظرية أنه لما يكون الناس أحرارا في اختيار مسار حياتهم والتعبير عن انفعالاتهم فإنهم لا يختارون الإجرام .
– اتجاه الكائن ابشري معدوم الأنا الأعلى لـ إشهورن AICHHORN: كان رائد إعادة تربية المنحرفين ، وقد حاول تفسير الإجرام بالرجوع إلى سن الطفولة وتمكن رفقة علماء آخرين بتمييز أربع أنواع من المجرمين : النمط العصابي ، الذين يجرمون تحت ضغط سيرورات عضوية محطمة وسامة كالمدمنين ، و المجرمين الأسوياء غير العصابيين كالمتسولين ، و المجرمون الحقيقيين معدومي الأنا الأعلى . وذهب بولبييBoulby إلى حد اعتبار أن نقص العاطفة الأبوية تجاه الأطفال أو مواقف صارمة ضدهم بسبب أنا أعلى قاس لدى الأولياء من شأنه أن يؤدي إلى صراعات وأحاسيس يحاول الشخص إشباعها عن طريق وضعيات تجعل منه موضوع العقاب .
– اتجاه انعدام الشعور للجماعة لمايو
Mailloux : يرى مايو أن كل جريمة تشكل جرح مقصود للآخرين لأجل مصلحة شخصية ، فالمجرمين هم أفراد تكون عندهم المصلحة الجماعية و المشاعر للجماعة معتمدان أو غير متطوران ، وهو راجع إلى أخطاء في التنشئة الاجتماعية ، لذلك يقترح أصحاب هذا الاتجاه للوقاية من الإجرام تطوير القدرة الفطرية عند الطفل للإحساس بالجماعة .
فحسب مايو (1962) الصراع في أن يكون الفرد خاضعا أو متمردا على المجتمع يلعب دورا في النمو النفسي اجتماعيا يماثل ما يلعبه الصراع الأوديبي في النمو النفسي الجنسي ، و يحل هذا الصراع إيجابيا أو سلبيا بالمكانة التي يأخذها الفرد داخل المجتمع ، فالفرد إما أن يقبل أن يقدم خدماته لمجتمعه أو أن يحس بالاستلاب فيقاومه .
وعلى الرغم من التطور الكبير الذي أحرزته البحوث النفسية في هذا المجال إلا أن تفسيراتها للجريمة ظل تفسيرا جزئيا غير متكامل ، أضف إلى ذلك كون علماء النفس كثيرا ما يعمدون عند تفسيرهم الظواهر إلى الاتكال على مرضاهم وتعميم نتائج هؤلاء المرضى على الأسوياء ، ففي ربطهم الأعراض المرضية بالسلوك الإجرامي وجهت لهم انتقادات حادة مؤداها عدم وجود صلة حتمية بين الخلل النفسي و الجريمة ، فكثيرا ما يكون الشخص مريضا نفسيا ؛ لكنه لا يرتكب أي فعل إجرامي ، إضافة إلى كون ما أتت به مدرسة التحليل النفسي غير مبني على العلمية .
3- النظرية السلوكية : ( نظرية التكيف الاجتماعي )
يرى العلماء المتبنون لنظرية التعلم أن معظم السلوكيات الإجرامية هي ثمرة تعلم تلك السلوكيات أكثر ممـا هي ناتجة عـن المخزون الوراثـي فالإجرام حسب نظرية التعلم الاجتماعي”سلوك مكتسب بالتعلم ويتوطد بالتعزيز الإيجابي” ومعنى هذا أن الأشخاص لا ينشئون مجرمـين طبيعيا(فطريا)بل يتعلمون الإجرام عن طريق ملاحظة النماذج أو بالتجربة المباشرة .
في هذا الصدد يشير باندورا Bandur (وهو من أهم المنظرين لنظرية التكيف الاجتماعي ) إلى أنه بالإضافة إلى التعزيز توجد عملية أخرى هي عملية التقمص Identification حيث يتعلم الناس أنواع السلوك المختلفة من خلال مراقبة أفعال الآخرين .
ولقد طور بـاندورا (1965) بحوثه وتوصل إلى المصادر التي تعلم السلوكيات الإجرامية وقدم تصنيفا للنماذج التي يتبناها الأطفال (Marie-Hélène et All(1999) وصنفها إلى ثلاث نماذج :
1- يمكن أن يتعلم الطفل الإجرام من عائلته .
2- يمكن أن يتعلم الطفل الإجرام من محيطه المباشر(الرفاق،الحضانة،المدرسة..)
3-يمكن أن يتعلم الطفل الإجرام من وسائل الإعلام التي ما فتئت تشغل حيزا أكبر من الوقت
و تـأخذ السلوكات الإجرامية التي يتعرض لها الطفل أهمية كبرى ، ويمكن أن تعزز عن طريق :
المكافأة ، قبول استحسان اجتماعي لسلوك انحرافي … وهذا ما يساهم في تكوين طبع الفرد في المستقبل ؛ و من هنا يميل الذين تعلموا الإجرام إلى ممارسته فـي مـواقف خاصة ، عندما يكون الإجرام والسلوكات العنيفة ملائمة ظرفيا .
4- النظريات الاجتماعية المفسرة للإجرام
لقد حاول العديد من العلماء تفسير ظاهرة الإجرام ، كما عملوا على تحديد المؤشرات التي تعمل على إبراز الظاهرة في المجتمع ، ومن بين هؤلاء العلماء نجد علماء الاجتماع فلقد كان لهم دور كبير في محاولات تفسير الجريمة و حاولوا حصر الأسباب الاجتماعية أو المؤشرات الاجتماعية التي تساعد بشكل مباشر أو غير مباشر على نمو الجريمة أو انطفائها
اترك تعليقاً