كتابة الضبط… الواقع و آمال الاصلاح
في خضم الحديث عن ضرورة إصلاح منظومة القضاء إصلاحا شاملا ومتكاملا، وفي سياق التصريحات المتتالية لوزارة العدل، تصريحات توحي
برغبة ملحة في فتح ورش حقيقي يهدف إلى تجاوز أخطاء الماضي في التعامل مع هذه المنظومة ولا يقصي أحدا من المتدخلين، لنا أن نتساءل
عن الموقع الذي يجب أن تحتله هيأة كتابة الضبط باعتبارها مكونا أساسيا من مكونات المشهد القضائي، وهل يمكن الحديث عن إصلاح شامل
وبنيوي دون مراعاة التغيير الكبير الذي عرفته تركيبة هذه الهيأة منذ ما يربو على عقد من الزمن ؟ وما هي الوسيلة الأنجع لتحصيل قضاء في خدمة
المواطن ؟ أسئلة كثيرة تلاحق كل المهتمين بشأن العدالة في المغرب ونحن على مسافة زمنية قصيرة من انطلاق أشغال المناظرة الوطنية، يُفترض
أن تجد لها أجوبة حقيقية ينخرط في إنضاجها كل المتدخلين وبدون استثناء، وفي أفق تحقيق ذلك لا بأس من أن نقدم مقاربة أولية على أن تكون لنا
عودة إلى تفصيل القول فيها لاحقا من خلال ما يلي:أولا: لعل المدخل الأساس لتحديد موقع هيأة كتابة الضبط أو الإدارة القضائية هو النص الدستوري
الذي جعل إحدى مهامها مهمة دستورية في الفصل 124 الذي جاء فيه: «تصدر الأحكام وتنفذ باسم الملك وطبقا للقانون»، ولا يخفى على أحد أن تنفيذ
الأحكام عمل خالص للإدارة القضائية في شق كبير منه، ومشترك مع هيأة المفوضين القضائيين في الشق الآخر، مما يفرض التعامل مع هذه الهيأة
باعتبارها مؤسسة دستورية، بل وحلقة من أهم حلقات المشهد القضائي، إذ ما قيمة صدور الأحكام إن لم تقم هذه الفئة بالمهمة الدستورية الموكولة إليها ؟
وكيف ستعرف الحقوق طريق أصحابها ؟ ثانيا: لا نريد تعداد المهام الملقاة على عاتق هيأة كتابة الضبط، الشيء الذي سبق أن نشرناه في بحث سابق،
ويكفينا في هذا المقام التذكير بما يعتبر معلوما من القضاء بالضرورة، وهو ثقل أعباء هذه الفئة وجسامتها، بل وخطورة ما يترتب على أيّ تهاون،
مقصودا كان أو غير مقصود، فضياع وثيقة واحدة قد يعصف بحقوق المواطن ويجعل مؤسسة العدالة وبالا عليه عوض أن تكون في خدمته، ولا يقتصر
الأمر على هذا، بل يتجاوزه إلى أبعد منه بكثير، على اعتبار أن ما يربو على ثمانين في المائة من الأعباء تتحملها هيأة كتابة الضبط، ومن ثم فأي حديث
عن الإصلاح في غياب هذه المؤسسة ضرب من العبث، مما يُلزم دعاة الإصلاح عموما والوزارة الوصية على القطاع بإشراكها أفرادا ومؤسسات في كل
مشاريع الإصلاح مهما علا شأنها أو صغر، وتلكم إحدى ضمانات التفعيل السليم لتلك المشاريع.ثالثا: بالرجوع إلى عالم الأرقام، سنقف على حقيقة مفادها أن
الموارد البشرية داخل وزارة العدل مقسمة على الشكل التالي: أ : حوالي أربعة آلاف قاض يشتغلون بجانب حوالي أربعة عشر ألف موظف بهيأة كتابة
الضبط، أي أن هذه الأخيرة تشكل من حيث العدد كما من حيث الأعباء، حوالي ثمانين في المائة من الموارد البشرية للقطاع.ب : من حيث الشهادات العلمية،
ومنذ السنوات الأخيرة للقرن العشرين، تبنت وزارة العدل وتحت ضغط الشارع كما هو شأن باقي القطاعات، سياسة إدماج حاملي الشهادات العليا، مما كان
له أثر إيجابي كبير على بنية هيأة كتابة الضبط، التي أصبحت تضم مئات من حاملي شهادة الدكتوراه، وإذا أضيف إليهم عدد الحاصلين على شهادة الماستر
أو دبلوم الدراسات العليا المعمقة أو دبلوم الدراسات العليا التطبيقية أو المهندسين أو غير هؤلاء من حاملي الشهادات العليا، فسنكون أمام ما يزيد عن ألف
وخمسمائة إطار من حاملي هذه الشهادات بشتى أنواعها، الشيء الذي أثّر إيجابا على الأداء الوظيفي وعلى جودة المنتوج إن صح التعبير الذي تقدمه هذه
الفئة إلى عموم المتقاضين، وكذا كل الوافدين على القطاع.ونسجل في هذا المقام بارتياح واعتزاز كبيرين الحركة المماثلة التي يعرفها جسم القضاة، إذ اتجه
عدد كبير منهم إلى التحصيل العلمي، الشيء الذي لا نشك في أنه سيكون له أثر إيجابي على أدائهم الوظيفي، مع الإشارة إلى أن عددهم لا يزال أقل بكثير من
زملائهم في كتابة الضبط على اعتبار نسبة هؤلاء ضمن الموارد البشرية في القطاع.رابعا: إن التغييرات الكبيرة التي عرفتها الإدارة القضائية هيأة كتابة
الضبط في العقد الأخير، تجعلنا مقتنعين أن إنجاح مشروع إصلاح القضاء رهين بتغيير النظرة الدونية إليها من قبل شركائها في القطاع، ورهين أيضا برفع
الحجر والوصاية عليها، الشيء الذي وإن نفاه المسؤولون، نجد بصماته في كل القرارات التي تنزل من فوق، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر، مشروع
الدليل المرجعي لتوصيف المهام والكفاءات الذي سلمت الوزارة نسخة منه لممثلي الموظفين لإبداء الرأي، ففوجئ الجميع ليس فقط بأنه لا يراعي ما أشرنا
إليه من تغييرات، بل إن اللجنة التي سهرت عليه أخرجت لنا بعد طول انتظار منتوجا مشوها يسلب من هذه المؤسسة كل ما اكتسبته من مكانة اعتبارية داخل
القطاع، بل ويسحب منها عددا من الاختصاصات ليرهق بها كاهل السادة القضاة مع أنها أكبر خبرة منهم فيها، كما ضم المشروع خلطا فظيعا بين ما هو إداري
وما هو قضائي، الشيء الذي نرجعه إلى عدة أسباب، أهمها أن اللجنة التي أشرفت عليه تضم أحد عشر إطارا كلهم يعملون بالإدارة المركزية مع أن العدد الأكبر
من الوظائف النوعية التي تحدثوا عنها توجد بالمحاكم والمديريات الفرعية ومراكز الحفظ، لكن تبقى هذه المبادرة المتعلقة بإبداء الرأي خطوة إيجابية في المسار
الصحيح، شريطة ألا يكون الغرض منها إقامة الحجة على هيأة كتابة الضبط وإخراج هذا الدليل على علاته، مما قد تكون له عواقب وخيمة نحن في غنى عنها
.لا يعني هذا تضخيما لموقع هيأة كتابة الضبط بقدر ما هو إعادة للأمور إلى نصابها، إذ على الجميع أن يتحمل مسؤوليته كاملة فيما هو منوط به، وتجنب صراع
المواقع الذي لن يساهم في تحقيق آمال جميع المغاربة في قضاء نزيه، لأننا سنكون حينها كالتي تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثا.ولنا عودة إن شاء الله
اترك تعليقاً