وسائل توثيق الديون وتأمينها في الشريعة والنظام السعودي
بشار بن عمر المفدى
تتميز المعاملات المالية بالاعتماد على الثقة والائتمان في تعاملاتها. فالفرد لا يمنح فرداً آخر أجلا للوفاء بقيمة ما اشتراه أو أقرضه إلا إذا كان لدى الأول ثقة بوفاء الثاني لالتزامه عند حلول الأجل. لكن قد تختل هذه الثقة تبعاً للأزمات المالية التي تعصف بالأفراد والتجار. في هذه المقالة، سأذكر بشكل مبسط وسائل توثيق الديون وتأمينها في الشريعة والنظام السعودي.
وفيما يلي تفصيل ذلك: يهدف توثيق الدين إلى منع المدين من إنكار دينه، كما يهدف إلى رد دعاواه بأن الدين أقل من المطلوب أو دعوى الدائن بأن الدين أكثر منه. كذلك بهدف إلى رد دعوى عدم حلول أجل الوفاء بالدين. فيعتبر توثيق الدين وسيلة أساسية لإثبات أصل الدين المتنازع فيه. ولتوثيق الديون وسائل عدة يمكن إجمالها في الآتي:
1. الكتابة: تعد الكتابة من أهم وسائل توثيق الديون، فقد أكدتها الشريعة في قوله تعالى: “يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه”. كما أكدت على أن يقوم عدل بكتابة هذه الوثيقة، قال تعالى: “..وليكتب بينكم كاتب بالعدل..”.
وأفرد نظام المرافعات الشرعية الصادر عام 1435 الفصل السابع لبيان أحكام الكتابة كوسيلة من وسائل الإثبات. وأفضل وسائل توثيق العقود نظاماً توثيقه عن طريق الجهات الرسمية ذات الاختصاص وهي كتابات العدل اعتماداً على المادة الرابعة والسبعين من نظام القضاء الصادر عام 1428هـ، التي أسندت اختصاص توثيق العقود إلى كتابة العدل. لكن – مع الأسف – العمل في كتابة العدل على عدم قبول طلب التوثيق إلا في أنواع محددة من العقود. لذا من الأفضل الأشهاد على الكتابة حتى تكتسب الورقة قوة إضافية في الإثبات. وما ينصح به خبراء العقود أن تتم كتابة أسماء طرفي العقد بأيديهم حال توقيع الوثيقة حتى يتمكن القاضي – عند إنكار أحد الأطراف- من عرض خط المنكر على الخبراء لإثبات نسبة الخط إلى الكاتب.
2. الشهادة: عرف البهوتي الحنبلي – رحمه الله – الشهادة بأنها: “الإخبار بما علمه الشاهد بلفظ خاص”. ونظراً لأهمية الشهادة في الإثبات فقد أفرد الفقهاء لها باباً من أبواب الفقه وسموه “كتاب الشهادات”. كما أفرد نظام المرافعات فصلا تحدث فيه عن الشهادة كونها طريقاً لإثبات الحق المتنازع فيه، وذلك في الفصل الخامس من الباب التاسع. وحتى تحظى الشهادة بالقوة الإثباتية، يجب أن تتوافر فيها شروطها المقررة شرعاً ونظاماً. ومما يخطئ فيه البعض أن يقوم بإشهاد من لا تقبل شهادته في حقه كوالده، ابنه، وكيله، محاميه، موظفيه، أو عدوٍ للمشهود عليه، فهؤلاء الأشخاص لا تقبل شهادتهم – مع عدالتهم – لوجود التهمة. يقصد بتأمين الدين: الوسائل التي تزيد في ضمان سداد المدين لدينه حال اعتذاره عن الوفاء، ومن دون الحاجة إلى اللجوء إلى القضاء غالباً. ووسائل تأمين الديون هي:
1. الرهن: الرهن كما عرفه البهوتي الحنبلي – رحمه الله: توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه منها أو من ثمنها. وحثت الشريعة على توثيق الدين بالرهن، قال تعالى: “وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة”. وقد أفرد الفقهاء في كتبهم باباً لأحكام الرهن. كما أصدر مجلس الوزارة أنظمة تنظم عملية الرهن في المملكة كنظام الرهن التجاري ونظام الرهن العقاري. فيمكن للتاجر أو الفرد توثيق دينه برهن شيء يملكه المدين بحيث يحق للدائن بيعه واستيفاء دينه من ثمنه حال تعذر المدين عن الوفاء بدينه. وعادةً ما يشيع الرهن في البيئات الاقتصادية الواعية.
ففي أمريكا مثلاً، نسبة المعاملات المالية المؤمنة برهون قرابة 70 في المائة بينما في جارتها المكسيك 10 في المائة فقط. وللرهن صور كثيرة منها حيازته، نقل ملكيته، إثباته في صك العقار. وتختص كتابة العدل بتوثيق الرهون وفكها كما جاء في المادة الثانية من اللائحة التنفيذية لاختصاصات كتاب العدل. كما يختص قاضي التنفيذ بالتنفيذ على الرهن وبيعه كما في المادة الحادية والعشرين من نظام التنفيذ.
2. الضمان: الضمان شرعاً: التزام ما وجب على غيره مع بقائه وما قد يجب. فالضامن ضم ذمة المضمون إلى ذمته في الالتزام بالدين، فيثبت في ذمتهما جميعا. وقد أفرد الفقهاء باباً لأحكام الضمان. ويقابل الضمان في الفقه “الكفالة الغرمية” في القانون كما في نظام المرافعات الشرعية في المواد 169، 196، 202. فيمكن للدائن إلزام المدين بتضمين العقد طرفا ثالثا يكون للمدين ضامناً حال عدم وفائه. وتختص كتابة العدل بتوثيق الضمان وفكه كما جاء في المادة الثانية من اللائحة التنفيذية لاختصاصات كتاب العدل.
3. الكفالة: عرف الفقهاء الكفالة بأنها: التزام رشيد إحضار من عليه حق مالي لربه. وجعلوا لها فصلاً يندرج تحت باب الضمان. والكفالة في الفقه هي “الكفالة الحضورية” في القانون. لكن ما يعيبها أنها تسقط بموت المدين. وتختص كتابة العدل بتوثيق الكفالة وفكها كما جاء في المادة الثانية من اللائحة التنفيذية لاختصاصات كتاب العدل.
4. الكمبيالة: يعرف القانونيون الكمبيالة بأنها “صك محرر وفقاً لشكل قانوني معين، يتضمن أمراً صادراً من الساحب (المدين) موجهاً إلى شخص آخر (الذي سيستوفى منه الدين) بأن يدفع مبلغاً معيناً لدى الاطلاع، أو في تاريخ معين، أو قابل للتعين إلى شخص ثالث (الدائن)”. وهي تشبه “السفتجة” عند الفقهاء. وهي بشكل مبسط ورقة يكتبها الطرف الأول موجةً إلى طرف ثاني بأن يسلم الثاني مبلغاً من المال في تاريخ معين لطرف ثالث.
وتحظى هذه الورقة بتنظيم وحماية قانونية في نظام الأوراق التجارية ونظام التنفيذ. فإذا أتى زمن السداد ولم يتمكن الثاني من سداد المبلغ للثالث وفقاً لقواعد الأوراق التجارية، فيمكن للدائن الاستعانة بقضاء التنفيذ لإلزام المدين بسداد دينه بالقوة الجبرية عن طريق الحبس، إيقاف الخدمات الحكومية، تجميد الحسابات البنكية، بيع أملاكه أو غيرها كما نص عليه نظام التنفيذ.
5. السند لأمر: السند لأمر عبارة عن “صك يتعهد بموجبه محرره (المدين) بأن يقوم بدفع مبلغ معين في تاريخ معين أو قابل للتعيين أو بمجرد الاطلاع إلى شخص آخر (الدائن)”. أي أن المدين يقوم بكتابة ورقة وفق شروط شكلية معينة يتعهد فيها بدفع مبلغ من المال في وقت معين للدائن. وتخضع هذه الورقة للضمانات النظامية نفسها والتنفيذ الجبري للكمبيالة.
6. البيع بشرط الفسخ حال المماطلة: للبائع اشتراط أحقيته في فسخ العقد في حال مماطلة المشتري في سداد دينه. قال البهوتي الحنبلي: “(و) إن قال البائع: (بعتك) كذا بكذا (على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث) ليال مثلا أو على أن ترهنه بثمنه (وإلا) تفعل ذلك (فلا بيع بيننا) وقبل المشتري (صح) البيع والتعليق”. وفي حال الفسخ، يجب على المشتري رد السلعة. وفي حال عدم ردها له، يكون حكمه حكم الغاصب ويده يد ضمان. فيضمن منافع المغصوب، وعليه أجر المثل عما فاته، سواء استوفى الغاصب المنافع أم لا.
هذه أهم الوسائل الشرعية والنظامية لتوثيق والتأمين الديون. ومما ينبغي التحذير منه هو اعتماد الثقة المجردة بتوثيق الدين، فهذه أضعف وسائل توثيق الديون. وينبغي على المدين أن يتذكر قول النبي – صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) وأن الفقهاء نصوا على أن للدائن الرجوع في مصروفات الدعوى – كأجرة المحامي – على المدين المماطل. فبتأخر السداد، يتحمل المدين الضرر الدنيوي والأخروي.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً