إذا صدر قانون جديد , أثناء إجراءات المساءلة التأديبية , و تم موجبه إلغاء بعض العقوبات التأديبية التي كانت منصوص عليها في القانون الساري وقت وقوع المخالفة التأديبية , فهل يجوز تطبيق العقوبة التأديبية الجديدة , على المخالفات التأديبية التي ارتكبت قبل صدور القانون فقد تقع المخالفة التأديبية أبان سريان قانون أو لائحة جزاءات تحدد عقوبات تأديبية معينة , يجوز توقيعها على من يرتكب جرم تأديبي , ثم يتغير هذا القانون و يصدر قانون جديد أثناء التحقيق أو أثناء المحاكمة التأديبية يتضمن تعديل في العقوبات التأديبية باستحداث عقوبة تأديبية جديدة لم يكن منصوص عليها في القانون الساري وقت ارتكاب المخالفة , أو بإلغاء عقوبة تأديبية كأن منصوص عليها وقت ارتكاب المخالفة التأديبية , فيثور التساؤل حول كيفية سريان القانون التأديبي من حيث الزمان
و الواقع لقد كثر الجدل مؤخرا حول ذلك الموضوع , بمناسبة صدور قانون الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم 18 لسنة 2015 , المنشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 12 مارس 2015 , و الذي ألغى بموجبه قانون العاملين المدنيين بالدولة الصادر بالقانون رقم 47 لسنة 1978 , و الذي يسرى قانون الخدمة المدنية على العاملين بالوزارات , و المصالح و الأجهزة الحكومية , ووحدات الإدارة المحلية , والهيئات العامة إذ عدل المشرع بموجب القانون رقم 18 لسنة 2015 من أحكام الجرائم و العقوبات التأديبية التي كانت سارية بقانون العاملين المدنيين بالدولة الملغى , فثارت في هذا الصدد عدد من التساؤلات عن نطاق السريان الزمني للقانون التأديبي , إذ يثور التساؤل حول ما إذا كان يجوز معاقبة الموظف العام الذي مازالت إجراءات التحقيق و المحاكمة التأديبية معه مستمرة و لم تنتهي وقت صدور القانون الجديد و سريانه , بالعقوبات التأديبية التي كانت سارية بقانون العاملين المدنيين بالدولة وقت ارتكابه الجريمة التأديبية , أم لا يجوز توقيع هذه العقوبات التأديبية عليه الآن بعد صدور القانون رقم 18 لسنة 2015 , فلا يعاقب إلا بالعقوبات التأديبية المنصوص عليها بالقانون رقم 18 لسنة 2015
كما يثور التساؤل حول فرضية إذا كان هناك موظفين محل تحقيق أو محاكمة تأديبية حاليا عن أفعال كانت مؤثمة تأديبيا في ظل أحكام قانون العاملين المدنيين بالدولة , و الذي كان ساريا وقت ارتكابهم هذه المخالفات التأديبية , ثم لم يتم النص على ذات الأفعال في القانون الجديد رقم 18 لسنة 2015 , فهل يجوز مساءلة الموظف العام تأديبيا عن هذه الأفعال التي لم يرد النص على تأثيمها في القانون الجديد , أم لا …
أولا .. فيما يتعلق بالجرائم التأديبية , أرست المحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 445 لسنة 14ق , بجلسة 27/11/1971 مبدأ مفاده ان الاصل ان المخالفات التأديبية لا تقع تحت حصر , فلا يتم النص عليها في أي قانون تأديبي على نحو جامع للمخالفات التأديبية المؤثمة قانونا على خلاف ما هو مقرر في الجرائم الجنائية , و من ثم لا يسوغ القول بأنه يترتب على عدم النص صراحة على تأثيم ذات الأفعال التي تجرى إجراءات التحقيق و محاكمة الموظف تأديبيا عنها في القانون الجديد عدم معاقبة الموظف عنها تأديبيا , إذ لا يسوغ التسليم بأن هناك مخالفات تأديبية كان مؤاخذ عليها في ظل قانون , و لا تأخذ هذا الحكم لعدم النص عليها في قانون لاحق , فالمخالفة التأديبية هي التي تعد بطبيعتها خروجا على مقتضى واجبات الوظيفة العامة بغض النظر عن القانون الذي وقت هذه المخالفات في ظله.
ثانيا .. فيما يتعلق بالعقوبات التأديبية , فقد أرست المحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 1311 لسنة 10ق , بجلسة 12/3/1966 مبدأ مفاده أن العقوبات التأديبية الواردة بالقانون الجديد هي التي تطبق وحدها بأثر مباشر على الموظفين المتهمين الذين لم تستقر مراكزهم القانونية إلى وقت العمل بالقانون الجديد , فإذا كان القانون الجديد قد ألغى جميع الأحكام المخالفة لأحكامه , فإن من مقتضى ذلك ألا توقع عقوبة تأديبية على الموظف في ظل القانون الجديد , لم يرد نص بشأنها فيه , حتى لو كانت منصوص عليها في القانون السابق الذي كان ساريا وقت حدوث الفعل محل التحقيق أو المحاكمة التأديبية .
و قد استقرت المحكمة الإدارية العليا على هذا المبدأ في العديد من أحكامها , و من ذلك حكمها في الطعن رقم 702 لسنة 10ق , جلسة 15/5/1965 , و حكمها الصادر في الطعن رقم 193 لسنة 12ق , جلسة 14/1/1969 , الطعن رقم 130 لسنة 11ق , جلسة 26/4/1969 , و حديثا الطعن رقم 481 لسنة 26ق , جلسة 9/6/1984 , و الطعن رقم 965 لسنة 25ق , جلسة 15/6/1985 , الطعن رقم 104 لسنة 25ق , جلسة 24/1/1978 و في كل الأحكام استقرت المحكمة على سريان القانون التأديبي بأثر فوري و مباشر على الموظفين الذين لم تتحدد مراكزهم القانونية بصفة نهائية وقت صدور القانون الجديد , و يتحدد المركز القانوني للموظف بصفة نهائية بصدور حكم تأديبي نهائي ضده , أو صدور قرار تأديبي نهائي ضده , و من ثم إذا كان الموظف مازال محالا للتحقيق أو للمحاكمة التأديبية , فإن مركزه القانوني لم يتحدد بعد بصفة نهائية , و من ثم لا يجوز مجازاته بالعقوبات التأديبية التي كانت سارية وقت وقوع المخالفة التأديبية , و تم إلغائها أثناء التحقيق أو المحاكمة بموجب قانون جديد , صدر في تاريخ لاحق على ارتكاب المخالفة التأديبية .
ومن ثم فإن القاعدة الأصولية هي وجوب توقيع العقوبات التأديبية المنصوص عليها في القانون الساري وقت توقيع الجزاء , فالعبرةِ في توقيع الجزاء يكون بلائحة الجزاءات المطبقة وقت صدور قرار الجزاء , و ليس باللائحة السابقة علي صدور قرار الجزاء , و لو كانت المخالفات قد وقعت في تاريخ سابق علي صدور لائحة الجزاءات الموقعة
( المحكمة الإدارية العليا , الطعن رقم 2924 لسنة 40 ق , جلسة 11/3/2001 , منشور بمجموعة مبادئ الأحكام الصادرة عن المحكمة الإدارية العليا , القاعدة رقم 119, العدد رقم 46 )
و قد ذهب رأى إلى تطبيق قواعد القانون الأصلح للمتهم في المجال التأديبي , على الوجه الذي وردت به في القانون الجنائي , و هو ما لا نوافق عليه على الإطلاق , إذ إنه و لئن كانت المحكمة الإدارية العليا قد أخذت بفكرة الأثر الرجعى للقانون التأديبي إعمالا لمبدأ القانون الأصلح للمتهم في احد
( المحكمة الإدارية العليا , الطعن رقم 1682 لسنة 31ق , جلسة 4/3/1989 , المكتب الفني صفحة 613, القاعدة رقم 34 )
إلا أن هذا الحكم للمحكمة الإدارية العليا , لا يمكن أن يوصف بأنه يمثل منهجها المستقر عليه في هذا الشأن , إذ اضطرد قضاءها على النحو السالف بيانه في عشرات من أحكامها على سريان القانون التأديبي بأثر فوري و مباشر على الموظفين الذين لم تتحدد مراكزهم القانونية بصفة نهائية وقت صدور القانون الجديد , فضلا عن أن مناط سريان فكرة القانون الأصلح للمتهم وفقا لما ورد بأسباب ذلك الحكم إن التعديل في العقوبة التأديبية يكون لصالح المتهم في مرحلة الطعن أمام المحكمة الإدارية العليا , إذا رأت المحكمة الإدارية العليا إلغاء الحكم المطعون عليه , و أن تتصدى بنفسها للحكم في موضوع الدعوى التأديبية و توقيع العقوبة التأديبية المناسبة على المتهم , و هو ما ينبئ عن فرضية محددة تتمثل في أن يتم إلغاء العقوبة التأديبية المحكوم بها على الموظف من المحكمة التأديبية , أثناء نظر الطعن أمام المحكمة الإدارية العليا , ففي هذه الحالة توقع المحكمة الإدارية العليا عند الحكم في الطعن , العقوبة الأصلح للمتهم , و تعدل العقوبة المحكوم بها , و هو ما لا يمثل – من وجهة نظرنا – استثناء على فكرة الأثر الفوري و المباشر للقانون التأديبي , بحسبان انه في مرحلة الطعن يكون المركز القانوني للموظف لم يحسم بعد بصفة نهائية و باتة , طالما أن المحكمة الإدارية العليا مازالت قادرة على توقيع العقوبة التأديبية , و من ثم يكون بإمكانها إنزال العقوبة المناسبة لكن مع مراعاة مبدأ أن الطاعن لا يضار من طعنه , و من ثم أجازت المحكمة للتوفيق بين الأمرين توقيع العقوبة الأخف , و هو ما نرى انه يمثل استثناء قاصر على مرحلة الطعن أمام المحكمة الإدارية العليا , أملته ضرورات احترام مبدأ عدم الإضرار بالطاعن كمبدأ قانوني أساسي , لكن يظل ذلك استثناء لا يمثل خروجا على مبدأ المحكمة المستقر في تطبيق القانون التأديبي بالأثر الفوري و المباشر , إذ أننا نرى إن فكرة القانون الأصلح للمتهم المعمول بها في مجال قانون العقوبات , لا تصلح للتطبيق في مجال القانون التأديبي , لاختلاف مفهوم مبدأ شرعية العقوبة الجنائية عن مبدأ شرعية العقوبة التأديبية , اختلافا جذريا يجعل من المستحيل تطبيق فكرة القانون الأصلح للمتهم في المجال التأديبي , فمبدأ شرعية العقوبة الجنائية معناه أن المشرع يحدد عقوبة جنائية محددة لجريمة معينة , ومن ثم يعلم بتلك العقوبة المحددة المتهم قبل ارتكابه الجريمة الجنائية , و هو الأمر الذي لا يتحقق في مفهوم شرعية العقوبة التأديبية , إذ لا يحدد أصلا المشرع عقوبة تأديبية واحدة , و محددة للعقاب على جريمة تأديبية معينة , حتى نقول أن الموظف كان يعلم قبل ارتكابه الجريمة التأديبية بالعقوبة التأديبية التي يمكن أن توقع عليه إذا ارتكب الجريمة , و من ثم لا يجوز أن يضار إذا تم تشديد هذه العقوبة بعقوبة تأديبية لاحقه , إنما تقتضى العدالة بمعاقبته بالأخف منهما , حتى لو كانت الأحدث , فشرعية العقوبة التأديبية تعنى الالتزام بتوقيع أي عقوبة تأديبية من قائمة العقوبات التأديبية التي أجاز القانون توقيعها على الموظف العام , دون تحديد لعقوبة معينة توقع لمخالفة تأديبية محددة , و من ثم فإن إلغاء أحدى العقوبات التأديبية بموجب قانون لاحق بعد ارتكاب المخالفة لا يشكل أي ضرر للمتهم , الذي لم ينشا له حق في توقيع هذه العقوبة الملغاة عليه دون غيرها العقوبات التأديبية الأخرى الواردة بقائمة العقوبات التأديبية , و من ثم فإن فكرة القانون الأصلح للمتهم لا تتناسب و طبيعة القانون التأديبي و ذاتيته الخاصة .
و بالتالي فإنه وفقا لما نصت عليه المادة 58 من القانون 18 لسنة 2015 فإن العقوبات التأديبية التي يجوز توقيعها على الموظف العام من غير شاغلي الوظائف العليا هي الإنذار , الخصم من الأجر لمدة أو مدد لا تجاوز ستين يوما في السنة , تأجيل الترقية عند استحقاقها لمدة لا تزيد عن سنتين , الإحالة إلى المعاش و الفصل من الخدمة , فقط أما جزاءات الوقف عن العمل , و تخفيض الدرجة الوظيفية , الحرمان من نصف العلاوة الدورية , خفض الأجر في حدود علاوة , فلا يجوز توقيعها على أي موظف عام من اليوم التالي لتاريخ نشر القانون 18 لسنة 2015 في الجريدة الرسمية بتاريخ 12 مارس 2015 إعمالا للمادة 225 من الدستور التي أجازت أن يحدد القانون تاريخ سريانه .
بقلم المستشار الدكتور / إسلام إحسان
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً