«بيتكوين» والعملات الرقمية .. مع أو ضد
د. محمد آل عباس
انتهيت إلى أن مواقع الإنترنت تمكنت من بيع منتجات “حقيقية” والدفع بأرقام إلكترونية، ثم ظهر ما تمت تسميته في كتب مختلفة بما وراء الأسواق Metamarkets، وللتعامل من خلالها عليك شراء “رصيد” ثم تستبدل رصيدك بسلعة، والرصيد الذي تراه أرقاما ليس أكثر من “برمجة” لا يمكن مشاهدتها خارج هذه المنصة “مشفرة”، ومن المستحيل عليك استعادتها إلى أرقام مصرفية. كيف يمكن تحرير الأرقام في العالم الافتراضي، حيث تبقى معك دائما ويمكنك استخدمها وتحويلها واستردادها دون قيد؟ هنا ظهرت “بيتكوين” كأرقام رصيد “برمجة” لكنها حرة في عالم افتراضي لا ترتبط بأي منصة ولا يسيطر عليها أي موقع، وبقي السؤال كيف وثق بها الجميع؟
العملة هي مقياس لحجم إنتاجك، ولكن أصعب ما في العملة -وفقا لهذا المفهوم- هو الثقة في قيمة إنتاجك، فكيف نثق مثلا أن ساعتك في العمل فعلا تستحق 100 ريال؟ الإجابة تكمن في “العقود” والنظام الذي يقف خلف هذه العقود.
فكل رقم في الإنتاج هو عقد بين طرفين، والأصل أن الإنسان راشد اقتصاديا، بمعنى أنه لا يمكن أن يتفق مع الآخرين على ضرره، فلن ترضى بقيمة أقل مما تستحق ولن يرضى هو بدفع أكثر. “ملاحظة عندما تفشل الثقة في العقود تفشل العملة معها تماما، ويفشل الاقتصاد، ولهذا يجب إعادة فهم القوة الشرائية للعملة ليس على أساس زيادة عرض النقود بل هو الفشل في آليات تسعير العقود، وهذا له شاهد في ورطة اليونان، فالمبالغة في سعر ساعة العمل “الأجور” له أثر سيئ جدا على القوة الشرائية للعملة، والعكس بالعكس وتأمل في الصين”
بالعودة لسياق العملات الإلكترونية نجد أن العقود هي محل إنتاج الرقم الذي يعكس القيمة “سواء بالريال أو الدولار أو حتى رصيد في “أمازون”، فالثقة في التعاقد بين طرفين هي الأساس وليس وجود سلعة حقيقية، ولنضع مثالا على ذلك، لو أن منصتين في عالم أسواق الإنترنت اتفقتا على أن تقوم “أ” مثلا برفع إعلان لـ”ب”، وتقوم “ب” بوضع رصيد لـ”أ” تستبدله بما تشاء في أي وقت، ويمكنها التحقق من هذا الرصيد عبر ما أسميناه بالتشفير، “صفحة مثل البريد الإلكتروني لن يطلع عليها سواها”. والآن لنفترض أن “أ” عقدت اتفاقا مع “ج”، تقوم بإرسال الرصيد المشفر إليها فإن ذلك سيتم بسهولة طالما أن لـ”ج” صفحة مشفرة عند المنصة الأساس “ب”، وهنا عقد جديد تدركه “ب” لكن لا يمكنها التملص منه، وإلا فقدت قيمتها في عالم الثقة، وانهارت.
هكذا أصبحت “ب” تنتج الأرقام لأنها مصدر للثقة بين منصات عدة وهذا هو ما أسميناه في المقال السابق “البلوك تشين”، فهي عقود تتراص بعضها فوق بعض في منصة إذا أنكرت واحدة أنكرت كلها وتكبدت خسائر فادحة جدا، فلا يمكن مثلا أن تقفل حساباتك في البريد الإلكتروني وتنكر الرسائل التي سبق وأرسلتها للآخرين، إنها تبقى طالما بقيت المنصة.
هكذا ظهرت “بيتكوين” فجأة، وبسهولة، عندما فكر مجموعة من العاملين في عالم الأسواق الافتراضية، أنهم يستطيعون إنتاج منصة للاتفاق “مثل وول ستريت في الحقيقة” يجتمعون فيها ويتفقون على تبادل إنتاجهم وكل اتفاق ينتج رقما يستخدمونه بينهم دون الحاجة إلى البطاقات الائتمانية والتحويلات بين المصارف، فالمسألة كلها أرقام تدعمها عقود ومنصة ثقة، فإذا اتفق طرفان من المشتركين بعقد إلكتروني على المنصة أن يقوم أحدهما ببيع منتجاته الإلكترونية “ألعاب أو تطبيقات، أو رموز” تقوم المنصة بإنتاج رقم “بقوة الاتفاق” يستطيع البائع استخدامه في مواقع كل المشتركين، فلا أحد يجبره ولا أحد يمنعه، ولا أحد يرفض ذلك، إنها مجرد الثقة، وهكذا فكل اتفاق جديد ينتج “بيتكوين” جديدة، والمسألة هي التمييز بين الاتفاق الذي ينتج “بيتكوين” والاتفاق الذي يرسلها فقط، والمسألة نظريا بسيطة، فإذا كنت منتجا في عالم الإنترنت “لديك برامج وتطبيقات أو مساحة للإعلان”، فقد تطلب من بين العملات التي تتطلبها “بيتكوين”، وإذا تم منحك “بيتكوين”، فإن برمجة “بيتكوين” الأساسية في مصدرها “يسمونه التعدين” تقوم بإنتاج رقم مقابل ما تم منحك، وكانت الأمور هذه سهلة في بدايات “بيتكوين” ثم تعقدت جدا الآن، وهنا أضعف حلقات “بيتكوين”، “فالمصدر الذي يكتشف العقود الجديدة وينتج في مقابلها أرقاما هو مصدر غير معروف، وليس تحت سيطرة أي جهة أو دولة وتم إخفاؤه لهذا الغرض، لمنح الثقة في قوة نظامه”، ولكن هذا لا يهم في مسألة الثقة في “بيتكوين” التي تحصل عليها من خلال التبادل، لكن المسألة تتعلق بدقة البرنامج في إنتاجها وقراءة العقود الجديدة في “البلوك تشين”، فقد يحدث شح شديد فيها ما يتسبب في ندرتها. “وهو ما حدث فعلا ما جعل برامج أخرى كثيرة تظهر وتنتج أرقاما أخرى مثل “بيتكوين”.
في البدايات كانت “بيتكوين” تسعر نفسها بنفسها، بمعنى أنه لا يمكن القول: إن “بيتكوين” تساوي دولارا، ذلك أنها كانت مجرد رصيد رقمي في المنصات المشفرة للمجموعات المشتركة، ثم حدثت التحولات المدهشة عندما بدأت بعض الموقع المشهورة جدا تقبل أرقام “بيتكوين” “اشتركت هذه المواقع في “البلوك تشين” الخاص بـ”بيتكوين”، لكنها أضافت شيئا مسليا جدا، أنه يمكن شراء رصيد “بيتكوين” إذا لم يكن لديك، وهكذا تم تسعير “بيتكوين”، ثم دخلت منصات تبادل العملات تدرجها حيث يمكن المضاربة عليها، هنا برزت مشكلة عدم قدرة البرمجة الأصلية على إنتاج عملة كافية في مقابل الطلب الكثيف. ذلك أن البرمجة الأصلية لـ”بيتكوين” لا ننتجها إلا على أساس عقود الثقة بين المواقع المشتركة التي يتم فيها بيع منتج إلكتروني وليس دولارا، (تذكر معي أن “بيتكوين” تقيس إنتاج العالم الافتراضي فقط وليس العالم الحقيقي).
وعندما تم تسعير “بيتكوين” بالدولار تم مقارنة حجم الإنتاج في العالم الحقيقي بحجم الإنتاج في العالم الافتراضي. ولأن العملة “بيتكوين” لا يسيطر عليها أحد “نظريا” فلم يكن أحد قادرا على زيادة أنتجها لمواجهة هجوم المضاربات، ولأن المفترض هو أن الطلب على “بيتكوين” يأتي بسبب زيادة الطلب على إنتاج الإنترنت، فإن قيمة إنتاج الإنترنت قد تضاعفت بحكم الندرة أضعافا كثيرة، فهل أصبحت بحكم الندرة هذه مخزنا للثروة …
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً