دور البنوك الإسلامية في تجاوز الأزمات المالية وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية
بقلم مريم الخياري باحثة في القانون الدولي والعلاقات الدولية
عرف العالم العديد من الأزمات المالية والاقتصادية التي ارتبطت بنشأة الرأسمالية والفكر الليبرالي الذي ينبني على حرية التبادل وغياب الرقابة على آليات هذا التبادل.
غير أن ما ميز الأزمة المالية التي اندلعت منذ سنة 2008 هو انتشارها السريع الذي طال جل دول المعمور، وكذا تأثيرها على مجموع الاقتصاد، إذ بدأت بأزمة مالية وسرعان ما تحولت لأزمة اقتصادية، لم يسلم من آثارها أي قطاع من القطاعات الاقتصادية، بل حتى القطاعات الاجتماعية تأثرت لدرجة أن رئيس البنك الدولي السابق روبرت زوليك قال في إحدى اجتماعات الدول الثمانية لسنة 2009 أن العالم سيصبح أمام أزمة إنسانية.
كان من نتائج العولمة زيادة أوجه الترابط والتشابك بين دول العالم، ترابط تعددت مظاهره واتسعت مجالاته ليشمل كل القطاعات الاقتصادية، إذ لم يعد التبادل يقتصر على تبادل السلع والخدمات،
بل تعداه إلى عولمة الأسواق المالية التي تتم من خلالها عمليات تبادل وتداول الأصول المالية والنقدية، وكذلك تصفية الديون المالية، وقد تزايد الترابط على هذا المستوى بشكل كبير لدرجة أصبح معه العالم يبدو كأنه سوق مالي واحد.
لقد شهد العالم العديد من الأزمات التي أثرت في الكثير من الأسواق في دول عدة، فالأزمة المالية العالمية الحالية بدأت في سوق الرهن العقاري، وانتشرت بعد ذلك إلى بقية القطاعات لتشمل بقية دول العالم من خلال عولمة الأسواق المالية الدولية.
إن تكرار هذه الأزمات وشدة انعكاساتها على مجمل القطاعات الاقتصادية، يدفعنا للتساؤل عن أسبابها، وكيف يمكن تجاوزها؟ وهل تشكل آليات الاقتصاد الإسلامي المتمثلة في البنوك الإسلامية حلا بديلا للتمويل الذي تتزايد الحاجة إليه باستمرار، إن على المستوى المحلي أو العالمي؟.
الفقرة الأولى : أسباب الأزمة المالية العالمية الراهنة
قبل التطرق للأسباب التي تقف وراء اندلاع الأزمات المالية العالمية، يجدر بنا في البداية أن نعرف الأزمة المالية العالمية.
أولا : تعريف الأزمة المالية العالمية
هناك العديد من التعاريف التي تناولت الأزمة المالية نقتصر على ما يلي :
1- الأزمة المالية هي التدهور الحاد في الأسواق المالية لدولة ما، أو مجموعة من الدول، والتي من أبرز سماتها فشل النظام المصرفي المحلي في أداء مهامه الرئيسية، والذي ينعكس سلبا في تدهور كبير في قيمة العملة وأسعار الأسهم، مما ينجم عنها من إعادة توزيع الدخول والثروات فيما بين الأسواق المالية الدولية.
2- الأزمة المالية هي تلك التذبذبات التي تؤثر كليا أو جزئيا على مجمل المتغيرات المالية، وعلى حجم الإصدار وأسعار الأسهم والسندات، وإجمالي القروض والودائع المصرفية، ومعدل الصرف، وتعبر عن انهيار شامل في النظام المالي النقدي.
3- الأزمة المالية هي حالة تمس أسواق البورصة وأسواق الائتمان لبلد معين، أو مجموعة من البلدان، وتكمن خطورتها في آثارها على الاقتصاد، مسببة بدورها أزمة اقتصادية، ثم انكماش اقتصادي، عادة ما يصاحبها انحصار في القروض وأزمات في السيولة النقدية، وانخفاض في الاستثمار، وحالة من الذعر والحذر في أسواق المال”.[1]
يلاحظ من خلال التعاريف السابقة، أنه رغم تعدد التعريفات التي تناولت الأزمة المالية إلا أن معظمها يكاد يتفق على أن الأزمة المالية هي الاختلال العميق والاضطراب الحاد والمفاجئ في بعض التوازنات الاقتصادية، يتبعها انهيار في المؤسسات المالية ومؤشرات أدائها، ويمتد آثار ذلك كله إلى القطاعات الأخرى.
وتتميز الأزمة المالية العالمية الراهنة بكونها انطلقت في البداية من التداعيات الناجمة عن أزمة الرهون العقارية التي ظهرت على السطح في عام 2007، بسبب عجز الملايين من المقترضين لشراء مساكن وعقارات في الولايات المتحدة الأمريكية في تسديد ديونهم للبنوك، هذا الوضع خلف هزة قوية في الاقتصاد الأمريكي، ولم يقتصر الأمر على الولايات المتحدة الأمريكية بل امتد أثر الأزمة إلى اقتصاديات أوربا وآسيا،
مطيحة في طريقها بعدد كبير من كبريات البنوك والمؤسسات المالية العالمية، ولم تنجح مئات مليارات الدولارات التي ضخت في أسواق المال العالمية في وضع حد لأزمة الرهون العقارية التي تحولت إلى أزمة مالية عالمية لم يخف معها الكثير من المسؤولين خشيتهم من أن تطيح بنظم اقتصادية عالمية، وأن تصل تداعياتها إلى الكثير من أنحاء العالم.
وبالتالي فالأزمة المالية العالمية الراهنة تتميز بخاصيتين : فهي أزمة مالية بالدرجة الأولى، نجمت عن التوسع الكبير في الأصول المالية على نحو مستقل إلى حد كبير عما يحدث في الاقتصاد العيني. كما أنها تعد محصلة لخلل العديد من السياسات والممارسات ولاختلالات هيكلية مزمنة في الاقتصادات الرأسمالية.
بشكل عام، وبإلقاء نظرة على الأزمات المالية التي عرفها العالم، نلاحظ أنها سرعان ما تتحول إلى أزمة اقتصادية شاملة تؤثر في مجموع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية. فقد جاء على لسان رئيس البنك الدولي السابق خلال مشاركته في قمة دولية اقتصادية بألمانيا “انتقلنا من أزمة مالية إلى أزمة اقتصادية، والآن في العام 2009 أصبحت أزمة بطالة في بعض مناطق العالم وخصوصا في الدول النامية، ستصبح أزمة إنسانية”.
ثانيا : أسباب الأزمة المالية العالمية الراهنة
تعد الأزمة المالية العالمية (2008) أسوأ أزمة مالية عالمية منذ مائة عام،[2] تلك الأزمة التي ضربت الاقتصاد العالمي بصورة واضحة في الربع الأخير من عام 2008، وخاصة بعد انفجار أزمة الرهون العقارية الأمريكية، والتي قادت إلى سلسلة من التداعيات والانهيارات أدت إلى إفلاس كثير من المؤسسات المالية والمصرفية في الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها،[3] وأحدثت ما يشبه زلزالا ماليا واقتصاديا قاد إلى الأزمة المالية والاقتصادية العالمية المذكورة.
تلك التي فاقت تداعياتها أزمة “الكساد الاقتصادي العظيم” في ثلاثينات القرن العشرين (1929-1933) حيث أعقب ذلك الحرب العالمية الثانية.
ويمكن تقسيم أسباب الأزمة المالية الراهنة إلى أسباب مباشرة وأخرى غير مباشرة.
1 : الأسباب المباشرة
يمكن القول أن المراقب للأيديولوجية الرأسمالية يعلم بشكل لا يقبل الشك أن أعمدة النظام الرأسمالي تعتمد أساسا على “التراكم” وحتى يتحقق ذلك، لا بد من رفع المستوى المعيشي للمستهلك كي تتم “الدورة الاقتصادية” بسهولة، وهي تدور في (الربح – التسويق – الاستهلاك – الربح) ولذلك وحتى تكتمل هذه الدورة يجب رفع المستوى المعيشي للمستهلك.
للوصول إلى ذلك الهدف، ظهر في الولايات المتحدة نوعان من المصارف، التي أخذت على عاتقها النهوض بتلك المهمة القومية، النوع الأول هو البنوك الاستثمارية، أما النوع الثاني فيتمثل في البنوك التجارية.[4]
فالبنوك الاستثمارية تلك التي لا تعتمد على ودائع الأفراد والمؤسسات، وإنما تعتمد على أموالها الذاتية، وبالتالي فهي لا تخضع لرقابة البنك المركزي الأمريكي، ومن ثم فهي تتاجر في الأسهم والسندات والعقارات كيفما شاءت. أما البنوك التجارية، فتخضع للبنك المركزي، ويمنع عنها المضاربات أو الرهونات العقارية إلا بنسب محدودة.
ونتيجة للمنافسة بين هذين النوعين من البنوك، وبسبب قلة الرقابة الحكومية على أنشطة هذه البنوك، ظهر ما يعرف “بالمشتقات المالية”، تلك التي يتحدث عنها خبراء الاقتصاد بوصفها من الأسباب الجوهرية للأزمة المالية في الولايات المتحدة. وهذه المشتقات تعتبر من المصادر الجديدة للتمويل.
هكذا ظهرت الأزمة المالية الراهنة في الولايات المتحدة واندلعت من القطاع العقاري نتيجة الغموض وانعدام الشفافية الذي يلف عمل النظام المصرفي عموما في هذا البلد، فضلا عن غياب الرقابة الحكومية الفيدرالية على عملية منح القروض.[5]
فخلال عام 2006 ازدهر العقار الأمريكي وشرعت البنوك الأمريكية في منح القروض الرهنية العقارية المخاطرة بقوة،[6] أي قروض ممنوحة لبيوت أمريكية لا تقدم ضمانات مالية للحصول على قرض عادي، وكانت البنوك تعتقد أنها تستطيع دائما وضع يدها على المنزل وإعادة بيعه ربما بثمن أكبر إن عجز المقترض عن التسديد. ففي عام 2006 حوالي 40% من القروض العقارية التي منحتها البنوك الأمريكية هي قروض فيها مخاطرة، ويمكن إرجاع أسباب هذه الأزمة العقارية إلى العوامل التالية :
أ- توفر السيولة بشروط مغرية
تمثلت مصادر السيولة التي تسببت في الفقاعة العقارية أولا في الولايات المتحدة الأمريكية في تخفيض المصرف الفدرالي الأمريكي لكلفة الاقتراض إلى حوالي 1% بعد أحداث 11 شتنبر 2001 تجنبا لتراجع النمو الاقتصادي، وثانيا، في الاستثمارات الآسيوية، خاصة الصينية منها الناتجة من الفوائض في الموازين التجارية، التي فضلت الصين استثمارها في الولايات المتحدة لتحريك الاقتصاد الأمريكي والحفاظ على الصادرات الصينية إليه، بالإضافة إلى تجنيب الصين التضخم الذي ستواجهه في حال إنفاق هذه الفوائض في الداخل، مما سيقلل بدوره من تنافسية منتجاتها، وأخيرا، في الفوائض النفطية التي تراكمت للدول الخليجية خاصة ذات الطاقة الاستيعابية المحدودة نتيجة ارتفاع أسعار النفط منذ عام 2003.[7]
ب- تراخي قيود الإقراض والتدقيق
قبل التحرير المفرط الذي عاشته أسواق المال في السنوات الأخيرة، كان الشخص المقترض لشراء عقار يتعامل مع مالك العقار، ومع مؤسسة تمويل القرض العقاري، ويقوم بتسديد أقساطه العقارية الشهرية من حسابه المصرفي. وكانت هناك مجموعة من الضوابط لعملية الإقراض المدعومة من الحكومة، مثل مؤسستي “فاني مي وفريدي ماك”، أو أن يستأجر سكنا.
أما القروض التجارية فكانت تتطلب التدقيق في مستوى دخل المقترض للتأكد من قدرته على تسديد قرضه، وإلزامه بدفع مقدم يتجاوز 20% من قيمة القرض، ويطلب منه كذلك تأمين هذا القرض. وكان سعر الفائدة على القرض ثابتا، أي أن المقترض كان على دراية بحجم الأقساط التي سيقوم بتسديدها.
وخلال السنوات التالية التي عرفت بتحرير القطاع المالي، وظهور ما سمي “بالابتكارات المالية”[8] شهدت تغييرات جذرية في صيغة العقود العقارية التي أشرنا إليها في السابق، وهذه التغييرات هي التي سببت الأزمة الحالية، ومن أهمها : أولا، عدم التدقيق في مداخيل المقترضين والاكتفاء بأقوالهم، وتقليل الدفعة الأولى إلى ما بين 5% و 10% من قيمة العقار، وتجزئة القرض لتقليل تكاليف التأمين الفعلية. ثانيا، صياغة العقود بصورة يكون فيها سعر الفائدة متغيرا، فيبدأ منخفضا لإغراء هذا المقترض بالوقوع في مصيدة الاقتراض،[9]
ثم يرتفع سعر الفائدة فجأة بعد سنتين أو أكثر مواكبة لأسعار الفائدة في السوق، فيفاجأ هذا المقترض بزيادة كلفة العقار، وقد يجد نفسه عاجزا عن التسديد وقد يترك بيته كذلك. ثالثا، إن من أخطر الابتكارات التي طرأت على العقود العقارية هو أنه تم تجميع العقود العقارية المنفردة، وحولت إلى سندات استثمارية، وتم تعليبها وبيعها في أسواق المال على شكل ديون لتحقيق عمولات للوسطاء، وانتهت نسبة كبيرة من هذه السندات المدعومة بالعقارات في محافظ استثمارية للدول الآسيوية والنفطية، ومن هنا تأتي انعكاسات هذه الأزمة على باقي الاقتصادات العالمية.
وبذلك أصبحت هذه الديون مستحقة من قبل المقترضين الأمريكيين للمستثمرين الذين يملكون هذه السندات وهم الآسيويون وأهل النفط والأوربيون،[10] وسقطت نتيجة لذلك جميع المخاطر عن الوسطاء الذين روجوا هذه الديون، مما دفعهم إلى إنتاج المزيد من هذه المشتقات وبيعها من غير التزام بشروط الاقتراض المذكورة سابقا.
وأخيرا، ومن أجل تقليل التكاليف، كان هناك إفراط من قبل مؤسسات التمويل العقاري في الاعتماد على نماذج جاهزة توضع فيها البيانات عن المقترض، وعن مواصفات العقار الذي سيتم شراؤه ومعلومات أخرى، والخروج بقرارات تحدد جدوى المقترض وإمكانية تسديده لقرضه.[11]
ولكن دقة الاستنتاجات التي يتم الحصول عليها من هذه النماذج تعاني ثلاث إشكاليات على الأقل، في ما يتعلق بالبيانات المستخدمة فيها، وهي : عدم شمولية المعلومات، وعدم دقتها، وكذلك كونها بيانات تاريخية قد تتغير بتغير الظروف، الأمر الذي جعل تنبؤات هذه النماذج، فيها هامش كبير من الخطأ. ففي الأزمة الأخيرة، لوحظ أنه في الوقت الذي كانت فيه أسعار العقارات في تراجع كبير، كانت هذه النماذج تظهر أسعار الذروة في الأسواق.
هذا التراخي في قيود الإقراض والتدقيق لا نستبعد حصوله وعلى نطاق واسع في دولنا بسبب ما تعانيه هذه الدول من ندرة في البيانات، وعدم شفافية القرارات، وضعف المؤسسات، والتقليد الأعمى للسلوكيات المالية السائدة في أسواق المال العالمية.
ج- لا عقلانية المقترض
أدى التوسع الكبير في حجم السيولة والظروف المغرية للإقراض[12] التي سبقت الإشارة إليها إلى تشجيع الأشخاص على التملك والكسب السريع، وروح المراهنات لدى كافة شرائح المجتمع الأمريكي.
فمن ليس لديه منزل وجدها فرصة ليتملك منزلا، ومن كان لديه منزل صغير وجدها فرصة لتوسيع منزله أو استبداله بآخر، وهناك من وجد أن العقارات هي نوع من الاستثمار، خاصة بعد انهيار أسواق الأسهم عام 2000، فالعقار يمكن تأجيره، ويمكن أن يقترض لشرائه بدفعة أولية ويكسب من ارتفاع قيمة المنزل، ويمكن كذلك استخدام قيمته المرتفعة في ظل الأزمة كرهن للاقتراض من أجل الاستهلاك.
والأخطر من كل الفئات السابقة هي فئة المراهنين الذين يشترون بدفعة أولية ويمتلكون العقار لفترة حتى ترتفع قيمته، ثم يقومون ببيعه محققين أرباحا باهضة،[13] ومخلفين وراءهم منازل مهجورة طبعا، وهذه فئة نعتقد أنها كبيرة في الاقتصاديات العربية في السنوات الأخيرة.
د- ضعف الرقابة المالية
أما السبب الأخير للأزمة المالية الحالية فيعود إلى ضعف الرقابة المالية مقارنة بما كانت عليه قبل موجة تحرير القطاع المالي، أي قبل أكثر من ربع قرن. ومن أهم مظاهر التراجع في الرقابة المالية تراجع نسبة الإقراض التي تخضع لنوع أو آخر من أنواع الرقابة من حوالي 80% قبل عشرين عاما إلى أقل من 25% عام 2006،[14] ومن مظاهر هذا التراجع كذلك تعدد الجهات الرقابية بين اتحادية ومحلية وعدم كفاءة مواردها البشرية لمتابعة التطورات الحاصلة في الأدوات الاستثمارية. وأخيرا هناك التوجه السياسي الذي يشجع كل أمريكي على تملك بيته مما أدى إلى تساهل هذه المؤسسات في قيامها بدورها لحسابات سياسية لا مبررات اقتصادية لها.
2 : الأسباب غير المباشرة
إضافة إلى الأسباب المباشرة التي تطرقت إليها في النقطة السابقة، تجدر الإشارة إلى أن هناك عدة تفسيرات نظرية يمكن الرجوع إليها لتفسير الأزمة المالية الراهنة يمكن تلخيصها فيما يلي :
أ- الأسباب الفكرية النظرية
بداية هناك أسباب فكرية، نظرية، أو حتى فقهية، ترجع إلى الفكر الاقتصادي الذي التزم به القيمون على الشأن السياسي والاقتصادي، والذي سيطر على خياراتهم وسياساتهم وقراراتهم منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو الفكر الذي استند أساسا إلى بروز نظريات اقتصاديات العرض في مقابل نظريات اقتصاديات الطلب.
وتجدر الإشارة إلى أن نظريات اقتصاديات الطلب كانت قد ظهرت وهيمنت على الفكر الاقتصادي وعلى السياسة الاقتصادية على إثر الأزمة الاقتصادية الكبرى التي هزت العالم سنة 1929 وما نتج عنها من مضاعفات، كما استوحى هذا الفكر سنده الفكري من كتابات الاقتصادي البريطاني الكبير “جون مايندر كينز”، وخاصة ما ورد في كتابه الشهير “النظرية العامة للعمالة والفائدة والنقد” الذي صدر سنة 1936.[15]
ينطلق التحليل الكينزي من مقاربة كلية أو ماكرواقتصادية من تأثير الطلب الكلي على مستوى الاقتصاد الوطني والذي يعتبر أنه يتحكم في مستوى الاستخدام. فبحسب هذا الاقتصادي، يمكن مواجهة الكساد الاقتصادي وانخفاض البطالة بالرفع من مستوى الاستهلاك ومستوى الاستثمار.[16]
في هذا الصدد يركز على دور الدولة الذي يعتبره محوريا في الرفع من مستوى الطرفين المكونين للطلب عن طريق الإنفاق الحكومي والرفع من الأجور لتكون في مستوى الإنتاجية وتخفيض معدل الفائدة.
وهذا هو ملخص الحلول التي حملتها النظرية الكينزية لمواجهة أزمة الثلاثينات، وهو نفس التوجه الذي طبع السياسات الاقتصادية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وقد نجح هذا التوجه في تلك الفترة نظرا لتبنيه من طرف الولايات المتحدة الأمريكية التي صاحبته من خلال إمداداتها، كما ساعد على انتشاره الارتفاع الملحوظ لمستوى الإنتاجية الصناعية التي تستند إلى قوى محركة (صناعة السيارات، طاقة نفطية بتكاليف محدودة).[17]
لقد بقيت نظريات كينز ونظريات اقتصاد الطلب مهيمنة وصالحة حتى ستينات القرن العشرين، حيث ستنافسها النظريات النقدية، التي كان من أشهر واضعيها والمروجين لها الاقتصادي الأمريكي الشهير “ميلتون فريدمان” من جامعة شيكاكو.[18] وهو من المناهضين للتوجه الكينزي، حيث يعتبر فريدمان أن الاختلالات التي حدثت سنة 1929 نتجت عن عوامل خارجية (النفط) بالإضافة إلى انحرافات داخلية، تتمثل في استراتيجية النقابات التي تدفع إلى ارتفاع الأجور، كما يعتبر أن تدخل الدولة ليس له جدوى وأن السياسات النقدية ذات التوجه الكينزي ساهمت بدورها في تأزيم الأوضاع الاقتصادية.[19]
لقد ارتبط فكر فريدمان بمقاربة العرض التي تقول بضرورة إقرار سياسات معاكسة للتوجه الكينزي عن طريق النقص من الضغط الضريبي ومن مستوى الإنفاق الحكومي وتحرير العمل ليصبح مرنا والحد من الزيادة في الكتلة النقدية.[20]
استند هذا الفكر الاقتصادي الجديد الذي يمكن تسميته بالفكر النيوليبرالي إلى وثيقة صدرت سنة 1989، وأصبحت معروفة تحت إسم “إجماع واشنطن”،[21] وهي تشتمل على عشر “وصايا” اقتصادية، منها الخوصصة، وتخفيض الضرائب على الأثرياء، وتحرير التجارة الدولية وانتقال رؤوس الأموال، وتخفيض الإجراءات والقيود الحكومية على عمل الأسواق، والانضباط المالي، خصوصا تخفيض عجوزات الخزينة إلخ… ولقد اختصر بعض الباحثين هذه الوصايا بثالوث ثبت – خصخص – حرر.
نخلص مما سبق أن السبب غير المباشر الأول للأزمة المالية يعود إلى الفقه الاقتصادي الرافض لتدخل الدولة في المجال الاقتصادي، وبالتالي هيمنة الأسواق والقائمين عليها والمتعاملين فيها على القرارات الاقتصادية مقابل غياب شبه كامل للرقابة ولآليات الضبط الحكومية (والذاتية أيضا). وللتدليل على ذلك يقول البعض إن هنري بولسن (وزير الخزانة الأمريكية) هو رجل وول ستريت (المركز المالي الأمريكي) في واشنطن أكثر مما هو رجل واشنطن في وول ستريت.
ب- تعطيل آليات التصحيح التي تضمنتها اتفاقيات بريتون وودز فيما يخص صندوق النقد الدولي
لقد أنشأت اتفاقيات بريتون وودز صندوق النقد الدولي لمساعدة الدول الأعضاء على تثبيت سعر الصرف دون اللجوء إلى عمليات تخفيض تنافسية،[22] وعلى تحرير تجارة السلع والخدمات فيما بينهم. وللوصول إلى ذلك الهدف تم ربط سعر صرف عملات الدول الأعضاء بقيمة ذهبية وتم تأمين سيولة لدى الصندوق من مختلف العملات (أضيف إليها فيما بعد حقوق السحب الخاصة).[23]
حتى إذا واجه الميزان الجاري لإحدى الدول الأعضاء خللا ما سواء كان ذلك فائضا أو عجزا تمت معالجته كما يلي : إذا كان الخلل عجزا مؤقتا أو موسميا أو عابرا أو قابلا للانعكاس، فإن الصندوق يقرض الدولة العاجزة العملات اللازمة (بفائدة معينة) حتى يزول العجز وينقلب إلى وفر فتسدد الدولة المعنية ما كانت قد اقترضته.
أما إذا كان الخلل أساسيا، فإن الدولة العاجزة تخفض قيمة عملتها بالنسبة إلى الذهب، فتنخفض قيمتها نسبة إلى قيمة عملات باقي الأعضاء، الأمر الذي يفترض أن يزيد من قدرتها التنافسية فترتفع صادراتها وتنخفض وارداتها ويتم تصحيح العجز. وبالنسبة إلى الدولة التي يشهد ميزانها الجاري وفرا أساسيا وليس مؤقتا أو عابرا، فإنه يطلب منها أن ترفع قيمة عملتها الذهبية بحيث ترتفع قيمتها بالنسبة إلى قيمة عملات باقي الأعضاء، الأمر الذي يفترض أن يزيد مستورداتها ويخفض صادراتها، وبالتالي يعيد التوازن إلى ميزانها الجاري.
واضح مما تقدم أن آلية التصحيح لدى الصندوق تحابي الدول ذات الوفر غير الأساسي لأنها لن تضطر إلى دفع أية فوائد ولا إلى اتخاذ أية إجراءات محددة. هذه الآلية شبه الميكانيكية بدأت تتعطل مع بداية السبعينات من القرن الماضي إلى أن تعطلت كليا مع مرور الوقت.
الفقرة الثانية : دور المصارف المالية الإسلامية في تحقيق التنمية
لقد انتبه الغرب إلى علل النظام الرأسمالي وجاءت الدعاوى من الدول الأوربية نفسها تدعو إلى تغيير النظام الاقتصادي الرأسمالي والخروج من الأزمة المعاصرة من خلال الاعتماد على مفاهيم الاقتصاد الإسلامي.
فقد تحدث الكاتب الأوربي “يوفيس فانون” في موضوع بعنوان “البابا والقرآن”، حين قال “بابا الفاتيكان” “إننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلا من الإنجيل لفهم ما حدث بنا وبمصارفنا – يقصد الأزمة المالية المعاصرة، لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا من كوارث وأزمات، وما وصل بنا الحال إلى هذا الحد المزري لأن النقود لا تلد نقودا”.[24]
فما هي المبادئ والأسس التي تقوم عليها المصارف الإسلامية، والأساليب التي تجعلها مؤهلة أولا لحماية الاقتصاد من الانهيار وثانيا للمساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تنشدها كل الدول.
أولا : مبادئ المصارف المالية الإسلامية
يكمن منهج الاقتصاد الإسلامي في تجنب الأزمات الاقتصادية والمالية في أحكام الشريعة الإسلامية التالية :
1- أسس السوق الإسلامي : تقوم هذه الأسس على تربية النفس على الفضيلة والإيمان دون إنكار مبدأ استقلالية أسواق المسلمين، وتحريم انتقاصها بالاحتكار أو الفساد أو الغش، وتحريم فرض الرسوم والضرائب على الأسواق.
2- ضوابط السوق : تقوم على الحرية الاقتصادية المنظمة والمتمثلة في حرية الفرد المضبوطة بمصلحة الجماعة، فالملكية الفردية محفوظة في الشريعة الإسلامية، ويحرم الاعتداء عليها، ويعتبر الاعتداء على الملكية العامة أشد لأنه اعتداء على حقوق المجتمع كله.[25]
3- يعتمد مبدأ التعامل النقدي في الإسلام على مبدأ أن “النقود عقيمة” بمعنى أن “النقود لا تلد نقودا” وأن النقود لا تعتبر سلعة تباع وتشترى، بل وسيلة لإتمام العمليات.
إن غاية هذه القواعد في التعاملات النقدية، استخدام النقود في الاقتصاد من خلال الاستثمار الذي ينتج عنه ربح من خلال العمل الذي يستفيد منه الإنسان، والذي يعده الإسلام الصفة الرئيسية للثروة.
فضمان التوازن الاقتصادي في شقيه الاقتصاد العيني (الحقيقي) والاقتصاد المالي، يتطلب توفر تزامن وتناسق بين التيار السلعي والتيار المالي، بمعنى أن كل حركة للمال (النقود وما شابه) لا بد أن يقابلها حركة للسلع، وفي غياب هذا التناسق سنكون أمام اختلال وظيفة النقود، وبالتالي سيحدث خلل وفساد اقتصادي كبير.
ولعل هذا ما يميز المؤسسات المالية الإسلامية، والتي يرتكز التعامل داخلها على الاقتصاد الحقيقي الذي يتصل بإنتاج وتوزيع السلع والخدمات وليس الاقتصاد المالي الذي وجد لخدمة الاقتصاد الحقيقي، فالبنك الإسلامي يستخدم أموال حقيقية مقابل إنتاج بدون إضافة لكمية النقود المتداولة. وإن كان لابد من ذلك فيكون في أضيق الحدود، مما يؤدي إلى التوازن النقدي دون أن يؤدي إلى اتجاهات تضخمية.
من خلال كل ما سبق، يتضح أن النقود لا تعد سلعة يتم إقراضها مقابل الحصول على أجر لها يتحدد عن طريق سعر الفائدة الذي يتحدد طبقا لقانون العرض والطلب، كما أن النقود لا تنتج بذاتها ربحا، وإنما تستخدم كوسيلة للتبادل، ولا يجوز اتخاذها سلعة ذات قيمة تباع وتشترى.
ثانيا : أساليب التمويل والاستثمار في المصارف المالية الإسلامية
تتعدد وتتنوع الأنشطة التمويلية للبنوك الإسلامية، فهي تؤدي دور كل من البنوك التجارية والبنوك المتخصصة وبنوك الاستثمار والأعمال، فلا يقتصر نشاطها على الأجل القصير كالبنوك التجارية، أو على الأجل المتوسط والطويل كالبنوك المتخصصة وبنوك الاستثمار والأعمال، بل يشمل كل الآجال الأمر الذي ينعكس على هيكل مواردها واستخدامها.
وتتمثل أساليب التمويل في البنوك الإسلامية في الآتي :
التمويل بالمشاركة، والتمويل بالمضاربة، وبيع المرابحة، وبيع السلم، والاستصناع، والمتجارة، والإجارة.
المضاربة أو (المقارضة)
يتمثل هذا الأسلوب في شراكة في الربح بين رأس المال والعمل، وتقوم المضاربة عمليا بين أصحاب حسابات الاستثمار، باعتبارهم مزودين للمال، والمصرف الإسلامي كمضارب (الشريك العامل)، يعلن المصرف الإسلامي رغبته في قبول أموال أصحاب حساب الاستثمار، ويتم تحديد الأرباح في الاتفاق المعقود بين الطرفين، في حين يتحمل الخسائر مزود الأموال، باستثناء حالات سوء التصرف الإداري أو الإهمال أو انتهاك الشروط المتفق عليها من قبل المصرف الإسلامي.[26]
ويصلح أسلوب المقارضة لتمويل مشروعات البنية الأساسية، ومشروعات القطاع العام، ذات العائد الإداري، أي المشروعات العامة المولدة للدخل، وكذلك لمشروعات إنتاج سلع وخدمات قابلة للبيع في السوق.[27] ويلاحظ في الواقع العملي ضعف لجوء البنوك الإسلامية لهذه الصيغة بسبب عدم قدرة البنك على الرقابة وقلة الأمانة لدى بعض العملاء.
التمويل بالمشاركة
يقصد بالتمويل بالمشاركة في البنوك الإسلامية ما يعرف في الفقه الإسلامي بشركة العنان في رأس المال (شركة عقود بالأموال عنان)،[28] وذلك في إطار المعاملات المالية في الفقه الإسلامي. والمشاركة نوع من الشراكة بين المصرف الإسلامي وعميله، حيث يساهم كل من الطرفين برأسمال الشراكة بشكل متساوي أو متفاوت لتأسيس مشروع جديد أو المشاركة في مشروع قائم.
ويكون كل من الطرفين مالك لرأس المال على أساس دائم أو متناقص، ويحصل على الربح أو يتحمل الخسارة بصورة متناسبة مع رأسماله.
وهذا النوع من الشركة جائز باتفاق الفقهاء، إلا أن الخلاف بينهم قائم في بعض شروطها، لذلك نجد نوع من التشديد في التمويل بهذا الأسلوب في الربح والخسارة، باعتباره الهدف من تأسيس المصارف الإسلامية، واستعماله يبقى نادرا بحيث يتم اللجوء إلى الأساليب الأخرى الشبيهة بالدين، وهما المرابحة والإجارة.
بيع المرابحة
يقصد ببيع المرابحة بيع السلعة بتكلفة شرائها مضافا إليها ربحا معلوما، وهو أسلوب جائز شرعا لأنه نوع من البيع يحدد فيه الثمن بالمبلغ الذي تحمله البائع للحصول على السلعة – مصروفات الشراء أو تكلفة الإنتاج بالإضافة إلى ربح معلوم يتفق عليه بين البائع والمشتري، حيث يتميز بيع المرابحة بشروط أهمها علم المتبايعين (البنك والعميل) بتكلفة السلعة وربح البنك.
وهناك نوعان من بيع المرابحة :
في الأول : يشتري المصرف الإسلامي السلع ويطرحها للبيع بدون أي وعد مسبق من العميل لشرائها، ويطلق على هذا إسم المرابحة الطبيعية أو المرابحة الفورية. ويتضمن الثاني نموذجيا وعد العميل بشراء المادة (المواد) من البنك الإسلامي.
الإجارة في اللغة مشتقة من الأجر، وهو العوض.
وفي الشريعة يقصد بها بيع منفعة معلومة بعوض محدد معلوم، أو هي عقد لازم يتم بموجبه تمليك منفعة معلومة – قابلة للبذل والإباحة – لأصل (عين) معلوم من قبل مالكها لطرف آخر مقابل عوض محدد معلوم لمدة معلومة.
والإجارة عقد لازم، لا يملك أحد العاقدين فسخه إلا إذا وجد ما يوجب الفسخ، مثل هلاك العين المؤجرة المعينة، أو إتمام العمل أو استيفاء المنفعة المستأجرة. وإذا انتهت الإجارة وجب على المستأجر رد العين (الأصل) المستأجرة لمالكها كما كانت خالية من ما يشغلها.[29]
هو بيع مؤجل بمعجل أو بيع موصوف في الذمة مؤجل ببدل يعطى عاجلا.
وقد تمت إحاطة بيع السلم بمجموعة من الضوابط نظرا للمخاطر المتصلة به والمتمثلة في البيع الحال والبيع الآجل، حيث أن الأصل في البيع الحال (الفوري) أن يحصل كل طرف على حقه عند التعاقد.
أما في البيع بالأجل يتأخر الثمن، وهو من النقود التي لا تتعين بالتعيين وموجودة في كل وقت.
أما المؤجل في السلم فهو السلعة، ولذا لا بد أن تحدد بمواصفات دقيقة، كما أنه قد يتعذر وجودها بتلك المواصفات عند التسليم. ولذلك وضعت لهذه الصيغة شروط خاصة للحد من هذه المخاطر ودفع الغرر.
هو عقد مع أهل الصنعة على أن يعملوا شيئا أو أنه طلب عمل شيء خاص على وجه مخصوص مادته من الصانع.
[30] وهو جائز في كل ما جرى التعامل باستصناعه، على أن يوضح في العقد جنس المستصنع ونوعه ووضعه وقدره بيانا تاما. بمعنى أنه عقد بيع سلعة موصوفة في الذمة يلتزم البائع (ويسمى صانعا) بصنعها بمادة من عنده مقابل ثمن يدفعه المشتري (ويسمى مستصنعا، أي الذي يطلب من البائع صناعة شيء له) دفعة واحدة (حالا أو مؤجلا)، أو على دفعات أو أقساط.
من خلال استعراض أساليب التمويل المعتمدة من قبل البنوك الإسلامية يتبين أنها الأقدر على تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وذلك للاعتبارات التالية :
1- إذا كانت العلاقة التي تربط سعر الفائدة بالادخار في البنوك التقليدية ضعيفة، فإن استعمال آلية المشاركة في البنوك الإسلامية تجعل هذه الأخيرة شريك بين أصحاب المدخرات الذين يريدون استثمار أموالهم بالمشاركة ورجال الأعمال الذين يريدون تمويلا لمشروعاتهم الاستثمارية على هذا الأساس، من هنا يتضح أن البنوك الإسلامية لا تعتبر مجرد مؤسسة وسيطة بين المدخرين كفريق مستقل، والمستثمرين كفريق آخر، كما هو الشأن بالنسبة للبنوك التقليدية.
وإذا كان المدخرون في البنوك التقليدية ينتظرون فائدة ثابتة على أموالهم، فإن الأمر داخل البنوك الإسلامية يختلف، إذ ينتظر المدخرون المستثمرون عائدا على أموالهم نتيجة استثمارها، وهذا العائد يعتبر ربح يتحدد مقداره تبعا لنجاح المشروع الاستثماري، ومن ثم فهو دخل يرتبط ارتباطا مباشرا بالنشاط الإنتاجي.
2- إن من الأمور الشائعة أن نظام الفائدة يعمل على استبعاد المشروعات الأقل كفاءة ومردودية واختيار تلك ذات العائد المرتفع لكونها الأجدر على دفع الفائدة المطلوبة منها، ومن ثم تكون أكثر قابلية للحصول على النصيب الأكبر من قروض البنوك.
وهذا قول غير صحيح كون أن الذي يحدد حجم التمويل المصرفي القائم على الفائدة لا يتحدد في مردودية المشروع فقط، بل تتدخل عوامل أخرى منها من جهة، الهدف من المشروع والمناخ الاقتصادي العام، ومن جهة ثانية، توفر مصادر تمويلية بديلة أقل تكلفة أو أقل مخاطرة من الائتمان المصرفي مثل التمويل الذاتي من الاحتياطات أو التمويل بالمشاركة عن طريق سوق الأوراق المالية، لذلك ليس من الضروري أبدا أن تكون المشروعات الأعلى عائدا أكثر رغبة في الإقراض بالفائدة من البنوك.
3- تتوفر البنوك الإسلامية على قدرة كبيرة في توزيع المتاح من الموارد النقدية على أفضل الاستخدامات لأغراض التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فنظام التمويل بالمشاركة كما ينبغي أن يمارس من خلال نظام مصرفي إسلامي لا يعتمد على الملاءة المالية لأصحاب المشروعات الاستثمارية، وإن جاز أخذ هذه في الاعتبار، وإنما يعتمد أساسا على جدوى المشروع الاقتصادي والثقة في جدية صاحبه وخبرته.
من هنا فإن المصرفية الإسلامية تفتح بابا جديدا للخروج من مأزق توزيع الموارد التمويلية المتاحة على أصحاب الملاءة المالية فقط، ومن ثم فهي تفتح الطريق أمام توزيع أفضل للدخل القومي، وهذا أمر في غاية الأهمية لعدالة التنمية الاقتصادية.
4- لقد ثبت بالملموس أن سعر الفائدة يشجع السلوك السلبي، ومن ثم في توزيع الدخل على نحو غير عادل بين الكسالى أو النائمين أو السلبيين من جهة وأولئك الذين يعملون ويواجهون مخاطر ومتاعب النظام المصرفي الإنتاجي. وهذا ما يرفضه الإسلام ويرفضه النظام المصرفي الإسلامي القائم على المشاركة التي تشجع الإنتاج وتوزيع دخل الأعمال الإنتاجية بشكل عادل وكفء.
لقد أضحى البنك الإسلامي ضرورة ملحة لتجاوز الأزمات وتصحيح الأوضاع التي اختلت، فاعتماد البنوك الإسلامية على أسلوب المشاركة لا يعني فقط مساهمتها في إعادة توزيع الدخل بين من يملكون فوائض نقدية قابلة للاستثمار ومن يستثمرونها، بل تساهم كذلك في تشجيع السلوك الإيجابي لدى الأفراد، والذي يعد شرطا أساسيا لقيام تنمية اقتصادية حقيقية، ذلك أن أسلوب المشاركة يقتضي توفر عنصرين، يفكران معا في اتخاذ القرار ويتحملان معا مسؤوليته، وليس فرد واحد هو من يفكر ويتحمل المسؤولية.
[1] – محمد سعيد محمد الرملاوي، الأزمة الاقتصادية العالمية إنذار للرأسمالية ودعوة للشريعة الإسلامية. دار الفكر الجامعي، الإسكندرية، 2013. (ص-ص، 14،15،16).
[2]- رمزي محمود، الأزمات المالية والاقتصادية في ضوء الرأسمالية والإسلام. دار الفكر الجامعي، 2012. (ص، 29).
[3]- يوسف مسعداوي، الأزمات المالية العالمية : الأسباب والنتائج المستخلصة. المستقبل العربي. عدد 365، يوليوز 2009. (ص، 48).
[4]- رمزي محمود، الأزمات المالية والاقتصادية في ضوء الرأسمالية والإسلام. مرجع سابق، (ص، 39).
[5]- ضياء مجيد الموسوي، الأزمة المالية العالمية الراهنة منذ 2008 أزمة عقارية طويلة الأمد تبلغ في المتوسط من 17 إلى 18 سنة. ديوان المطبوعات الجامعية، 2010. (ص، 7).
[6]- يقصد بالمخاطر حالة عدم التأكد المرتبطة بتحقق خسارة مادية أو معنوية، تلازم الشخص عند اتخاذ قرار ما، مما ينتج عنه حالة معنوية تتصف بالقلق والتردد وعدم التأكد من نتائج القرارات المتخذة.
ومع أن كل منشآت الأعمال تواجه حالة عدم التأكد من نتائج نشاطاتها، إلا أن المؤسسات المالية تواجه أنواعا خاصة من المخاطر بالنظر إلى طبيعة نشاطاتها. فالغرض من المؤسسات المالية هو تعظيم الربح والقيمة المضافة للمساهمين من خلال إدارتها للمخاطر في إطار تقديمها للخدمات المالية.
[7]- يوسف خليفة اليوسف، الأزمة المالية والاقتصاديات الخليجية. المستقبل العربي، العدد 358، دجنبر 2008. (ص، 16).
[8]- ضياء مجيد الموسوي، الأزمة المالية العالمية الراهنة منذ 2008 أزمة عقارية طويلة الأمد تبلغ في المتوسط من 17 إلى 18 سنة. مرجع سابق، (ص، 16).
[9]- رمزي محمود، الأزمات المالية والاقتصادية في ضوء الرأسمالية والإسلام. مرجع سابق، (ص، 44).
[10]- ضياء مجيد الموسوي، الأزمة المالية العالمية الراهنة منذ 2008 أزمة عقارية طويلة الأمد تبلغ في المتوسط من 17 إلى 18 سنة. مرجع سابق. (ص، 11).
[11]- أديب عبد السلام، الأزمة المالية العالمية وانعكاساتها على الاقتصاد المغربي. الفكرية، العدد الأول، يناير 2009. (ص، 6).
[12]- منير الحمش، الأزمة العالمية الراهنة .. ومصير النظام الرأسمالي. المستقبل العربي، العدد 364، يونيو 2009. (ص، 14).
[13]- Nouriel ROUBINET,Les banques et les marchés financier se rétabliront –ils en 2009 ?.L’économiste, lundi 5 janvier 2009. (p, 5).
[14]- يوسف خليفة اليوسف، الأزمة المالية والاقتصاديات الخليجية. المستقبل العربي. مرجع سابق. (ص، 19).
[15]- إلياس سابا، الأزمة المالية العالمية : أسبابها وانعكاساتها. المستقبل العربي، العدد 360،فبراير 2009. (ص، 10).
[16]- فتح الله ولعلو، نحن والأزمة الاقتصادية العالمية. المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2009. (ص، 122).
[17]- رمزي محمود، الأزمات المالية والاقتصادية في ضوء الرأسمالية والإسلام. مرجع سابق، (ص، 34).
[18]- إلياس سابا، الأزمة المالية العالمية : أسبابها وانعكاساتها. المستقبل العربي. مرجع سابق، (ص، 11).
[19]– فتح الله ولعلو، نحن والأزمة الاقتصادية العالمية. مرجع سابق، (ص، 124).
[20]- عبد السلام لزرق، الأزمة الاقتصادية العالمية : المظاهر ووسائل المواجهة. مجلة طنجيس للقانون والاقتصاد. عدد 11، السنة 2011. (ص، 42).
[21]- منير الحمش، الأزمة العالمية الراهنة…ومصير النظام الرأسمالي. المستقبل العربي. مرجع سابق، (ص، 21).
[22]- عبد السلام أديب، الأزمة الاقتصادية بالمغرب إلى أين؟ دراسات في ميكانيزمات الأزمة. مرجع سابق، (ص، 104).
[23]- ضياء مجيد الموسوي، الأزمة المالية العالمية الراهنة منذ 2008 أزمة عقارية طويلة الأمد تبلغ في المتوسط من 17 إلى 18 سنة. مرجع سابق، (ص، 30).
[24] – أحمد شعبان محمد علي، البنوك الإسلامية في مواجهة الأزمات المالية. دار الفكر الجامعي، الإسكندرية. الطبعة الأولى، 2010.
[25] – أحمد شعبان محمد علي، البنوك الإسلامية في مواجهة الأزمات المالية. مرجع سابق. (ص، 289).
[26] – حامد الحمود العجلان، الربا والاقتصاد والتمويل الإسلامي : رؤية مختلفة. المستقبل العربي، عدد 382، دجنبر 2010. (ص،40).
[27] – عبد الحميد محمود البعلي، دور المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية في الإصلاح الاقتصادي. الاقتصاد الإسلامي. مرجع سابق، (ص،61).
[28] – أحمد شعبان محمد علي، البنوك الإسلامية في مواجهة الأزمات المالية. دار الفكر الجامعي، الإسكندرية، طبعة 2010. (ص، 126).
[29] – أحمد شعبان محمد علي، البنوك الإسلامية في مواجهة الأزمات المالية. مرجع سابق. (ص، 199).
[30] – عبد الحميد محمود البعلي، دور المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية في الإصلاح الاقتصادي. الاقتصاد الإسلامي. مرجع سابق، (ص،63).
اترك تعليقاً