جرائم الفساد.. حتى لا يكون فساد آخر
محمد بن سعود الجذلاني
يقود خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز – أيده الله بتوفيقه – حملة وطنية غير مسبوقة لمحاربة كل صور الفساد في الدولة، ومحاسبة الفاسدين بل والمقصرين الذين أدى تقصيرهم إلى نشوء حالات فساد غير مبررة. ودور المقصرين من المسؤولين في القيام بمسؤولياتهم يمكن أن يوصف بأنه جريمة فسادٍ بالتبعية وإن لم تكن جريمة فساد أصلية. ومما تتميز به هذه الحملة التي تستحق أن توصف بـ (حملة خادم الحرمين الشريفين لمحاربة الفساد) أنها تتصف بقدر عال من الشفافية والوضوح، وإتاحة الفرصة لعامة الشعب في متابعة مجرياتها ووقائعها، والتعليق على ذلك وإبداء مرئياتهم واستخراج ما في نفوسهم من مشاعر مختزلة وأحاديث نفس كان الناس في السابق يتهامسون بها في مجالسهم، فأصبحوا الآن يجدون لها صدى من قائد البلاد وملك الدولة الذي أدى منهجه الميمون في الإصلاح إلى تفعيل دور رقابة المجتمع على أداء أجهزة الحكومة بحيث يوصل لكل مسؤول في الدولة أن المواطن هو محور تقييم أداء الأجهزة الحكومية، ولم يعد ذلك العنصر الأضعف في منظومة إدارة المرافق العامة.
وبمناسبة ما صدر أخيراً من توجيهات ملكية حول ما سُمي بـ (فاجعة سيول جدة) تضمنت أوامر غير مسبوقة تسعى لفرض هيبة الدولة ورقابتها، وتؤكد عزمها الجاد على السير قدماً نحو محاربة الفساد في كل قضية يثبت فيها شيء من صوره المتنوعة، أقول بهذه المناسبة أجد من الضرورة التأكيد على مسائل لها اتصالها المباشر وأثرها القوي الذي قد يكون نافعاً أو ضاراً حسب ما يكون لها من توظيف صحيح أو خاطئ في هذا الجانب الخطير فأقول مستعيناً بالله:
أولاً: في ظلّ هذه الحملة الجادة والحازمة لمكافحة الفساد وتتبع صوره وأساليبه والقضاء عليها وزجر كل من يثبت تورطه فيها؛ تقتضي الضرورة القصوى وضع تعريف دقيق وواقعي يحدد بوضوح المقصود بجرائم الفساد، ويحصر صور هذه الجرائم بشمولية ودقة، ثم بعد ذلك لا بد أن يوضع تنظيم يوضح درجات ومستويات الأفعال المندرجة تحت كل صورة من صور جرائم الفساد، ويضع لهذه الصور عقوبات محددة ومتدرجة من الأخف إلى الأشد تراعي ما بين المجرمين من تفاوت في حجم الفعل الجرمي المنسوب لكل منهم وما يحيط بجريمته من ظروف مشددة أو مخففة للعقوبة بحيث يصدر القضاء حكمه في كل جرائم الفساد بما يبرئ الذمة ويترك للقاضي سلطة تقديرية كبيرة في اختيار درجة العقوبة المناسبة. ومما يوضح أهمية وخطورة هذه المسألة ما يلي:
1- إن الأمر الملكي الكريم الذي صدر أخيراً بشأن سيول جدة وجّه بإدراج جرائم الفساد ضمن الجرائم التي لا يشملها العفو؛ ولا شك أن هذا التوجيه الملكي الكريم يؤكد جدية وحزم خادم الحرمين الشريفين – حفظه الله – في محاربة الفساد، وغيرته على حقوق الوطن والمواطن، وأن في هذا التوجيه ما يشكل قوة ردع كبيرة لكل من تسول له نفسه الإقدام على أي فعل من أفعال الفساد، وهذا التوجيه بلا شك يجعل من الأهمية بمكان تحديد جرائم الفساد بموجب نظام واضح وصريح يمكن من خلاله تطبيق هذا التوجيه الكريم في محله الصحيح بحيث لا يساء استخدامه فيؤدي إلى حرمان بعض المحكومين من مكرمة العفو بينما قد لا ترقى مخالفاتهم لدرجة (جريمة فساد) وإنما حصل إدانتهم بتقصير معين أو إهمال لواجب فيحرموا من الدخول في تعليمات العفو بينما يدخل فيه من هم أكبر منهم جرماً.
2- إن عدم تحديد جرائم الفساد وصورها بشكل دقيق قد يؤدي إلى مفسدة أعظم تتمثل في الإساءة لأصحاب مخالفات أخرى لا تستحق أن توصف بأنها جرائم فساد، وذلك إما بسبب ضعف تأهيل بعض موظفي جهات الضبط أو التحقيق، أو بسبب وجود نيات شخصية لبعض الموظفين أو المسؤولين الذين يقلبون التوجه العام للدولة إلى محاربة الفساد إلى ميدان لتحقيق مكاسب شخصية لهم، أو تصفية حسابات بينهم وبين بعض زملائهم أو رؤسائهم أو مرؤوسيهم، وهذا قد يؤدي إلى محاربة الصالحين من الموظفين وذوي الكفاءة بل والنزاهة وإقصائهم وتحطيم حياتهم، وحرمان الوطن من عطائهم عبر ركوب موجة محاربة الفساد، فيكون كما يقول المثل العربي الشهير: (رمتني بدائها وانسلّت) أو كما يقول المعري: إذا عيّر الطائيَ بالبخلِ مادرٌ وعيّر قــــساً بالفهــــــــاهة باقـــــــل وقال السُهى للشمس أنتِ كسيفةٌٌ وقال الدجى للصبحِ لونُك حائلُ وفي هذا المقام لا شك أن القضاء العادل المستقل النزيه يؤدي دوراً رئيساً في تمحيص هذه التهم والجرائم والتدقيق فيها بالوجه الشرعي والنظامي الذي يكفل – بإذن الله – ألا يؤخذ البريء بجرم غيره. 3- إن في تحديد جرائم الفساد بوضوح توعية وتحذيرا للناس، وإقامة الحجة عليهم، كما أن فيه احتياطا لأعراض الناس وحقوقهم. كما أن ترك جرائم الفساد مجرد عنوان واسع فضفاض يقود إلى نشوء فساد آخر لا يقل عن الفساد الأول خطورة بما يترتب عليه من مظالم وهدر للحقوق.
ثانياً: إنه مع التسليم بأهمية ومشروعية محاربة الفساد، وإن ذلك من أعظم واجبات ولي الأمر وهو ما استشعره خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – في أوامره وتوجيهاته السامية في كل قضايا الفساد، إلا أنه يجب أن تسعى الجهات المنوط بها تنفيذ هذه التوجيهات سواء جهات الضبط الجنائي والإداري أو التحقيق والرقابة أو الجهات الأمنية كافة، يجب أن تحرص جميعها على توخي الحذر في تنفيذ توجيهات خادم الحرمين الشريفين وتنفيذ ما تقضي به أنظمة الدولة ذات الصلة بحيث يكون تنفيذها لكل ذلك ملتزماً بكل الضوابط والواجبات التي تكفل حفظ حقوق المتهمين وعدم التعرض لهم بأي إساءة أو تعذيب أو تشهير في مرحلة التحقيقات والتحريات، وأنه لا يجوز أن يُمسَّ أي متهمٍ مهما كان حجم الجريمة التي اتهم بها بأي ضرر أو أذى إلا وفقاً لما تقضي به أحكام الشريعة الإسلامية أو بموجب نص نظامي أو حكم قضائي.
ويجب أن يُمَكّن كل متهم في جريمة فساد من ممارسة حقوقه كافة التي كفلتها له الأنظمة والشرائع ومواثيق حقوق الإنسان، سواء في مرحلة التحقيق أو المحاكمة. من حق الدفاع عن نفسه وحق الاستعانة بمحام بل حتى أن تعين الدولة لكل عاجز عن الدفاع عن نفسه محامياً على حساب الدولة إن كان المتهم غير مستطيع مادياً.ومما يؤسف له كثيراً ما نشرته بعض الصحف على لسان أحد المحامين، الذي انتقد استعداد بعض المحامين للدفاع عن المدانين في كارثة جدة معتبراً ذلك خدشاً لمشاعر المتضررين!! وهذا الرأي في الحقيقة فيه تحامل وتجاهل لحقوق المتهم في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية ومواثيق حقوق الإنسان، كما أن تعبيره عن المتهمين بوصف (المدانين) خطأ ظاهر لأن الأصل براءة الذمة وأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قضائي قطعي، وإذا أصبح المتهم مداناً فلا حاجة له إلى المحامي أصلاً لفوات محله.
وعلى النقيض من ذلك فمما يستحق الإشادة ما صرح به الزميل الدكتور ماجد قاروب الذي أكد أن الدفاع عن المتهمين في قضية سيول جدة حق ٌ من حقوقهم يكفله لهم النظام وأكد أيضاً استعداد لجنة المحامين في غرفة جدة للدفاع عن أي متهم لا يجد محامياً يقبل الدفاع عنه. ومن أجمل ما قاله الزميل الدكتور قاروب قوله: (إنه لا يصلح أن نعالج كارثة إنسانية بكارثة حقوقية) وهذه العبارة بالضبط تلخص الفكرة التي أقصدها من مقالي هذا، كما أنها رد قانوني واع على ما صرح به المحامي الآخر الذي اعتبر الدفاع عن متهمي جدة جرحاً لمشاعر ذوي المتضررين – حسب زعمه ورأيه المخالف لأسس الشريعة والقانون.
ثالثاً: كما أن نجاح الجهود في محاربة الفساد يتطلب إعادة النظر في صياغة كثير من الأنظمة، خاصة الأنظمة المالية والاقتصادية وذات الصلة بتشغيل المرافق، والتي قد يكون في بعض نصوصها من الثغرات ما يكون محرّضاً على قيام بعض صور الفساد ومن ذلك على سبيل المثال: نظام المنافسات والمشتريات الحكومية خاصة ما تضمنه من إجراءات ترسية المشاريع والبت في المناقصات، وكذلك إجراءات التوثيق المعمول بها في السابق في كتابات العدل فيما يخص توثيق ملكيات الأراضي والتي نتج عنها كثير من حالات الاستيلاء على أراض حكومية، وهذا ما أكده الأمر الملكي الكريم الصادر أخيراً بشأن سيول جدة، حيث وجه وزارة العدل بالعمل على استصدار نظام متكامل للتوثيق، كما وجه وزارة العدل ووزارة الشؤون البلدية والقروية بإصدار نظام ٍ يضبط تملك ومنح العقارات مما يؤكد خطورة وأهمية مراجعة الأنظمة المعمول بها للتحقق من سلامتها من هذه الثغرات النظامية، التي تعتبر مناخاً صالحاً للفساد الإداري.
وفي هذا الجانب أؤكد أهمية وحساسية دور القضاء الإداري المتمثل في ديوان المظالم عبر نظره لقضايا العقود والتعويضات، إذ ينبغي أن يُفعّل دور القضاء بحيث يكون من صلاحيات القاضي الإداري أن يكتب محضراً لضبط كل ما يجد أنه يمثل صورة من صور الفساد الإداري سواء كانت شبهة جريمة جنائية أو مخالفة لواجبات الوظيفة أدت إلى إهدار المال العام أو رداءة تنفيذ المشاريع، أو تعسف بعض المسؤولين في استعمال صلاحياتهم وسلطتهم التقديرية لتحقيق مصالح شخصية أو الإساءة للغير ثم يحيل القاضي هذا المحضر إلى الجهة المختصة بالرقابة للتحقيق فيه وإظهار المتسبب لمحاسبته. وأؤكد أن هذا الأمر لو تحقق سيكون من أنجع الوسائل لمكافحة الفساد وحماية المال العام، نظراً لكثرة ما تشهده أروقة ديوان المظالم عبر القضايا الإدارية من صور متنوعة من هذا الفساد تمر مرور الكرام، وتقتصر على انتهاء الدعوى بإلغاء قرار ذلك المسؤول أو الحكم على إدارته بالتعويض للمتضرر والذي يدفع من خزانة الدولة دون أدنى مساءلة أو محاسبة لذلك المسؤول.
رابعاً: من أبرز أسباب الفساد الإداري سوء الاختيار للموظفين والمسؤولين في القطاعات الحيوية والمتعلقة بالخدمات الضرورية للمواطنين، وإقصاء ذوي الكفاءة والنصح للوطن والمواطن والمقيم، ولا شك أن ذلك من الخيانة للأمانة أمام الله عز وجل أولاً ثم أمام ولاة أمرنا – أيدهم الله – الذين يسعون إلى رقي الوطن وازدهاره والسعي لتحقيق مصالح المواطنين بكل السبل.
خامساً: إنه عن الحديث عن الفساد الإداري دائماً يقتصر الكلام فيه على أساس أنه (سرقة المال العام) في حين يغفل الحديث عن (سرقة أموال المواطنين والمقيمين)، التي تتم عن طريق إلجائهم لدفع مبالغ من تحت الطاولة لإنهاء معاملاتهم أو إنجاز مصالحهم، ومع أن ذلك بفضل الله لا يمكن أن يرقى إلى تشكيل ظاهرة عامة، إلا أن تعقيد الإجراءات في بعض الجهات الحكومية الخدمية، والروتين الإداري، وتعسف بعض الموظفين والمسؤولين، لا شك أنه مما ينمي ويزيد في هذه المعضلة التي إن لم يكن حسمها وعلاجها والقضاء عليها في وقت مبكر وإلا استفحلت وزاد شرها وتدميرها لأمن المجتمع واقتصاد الدولة.
سادساً: إن الظروف المرحلية تتطلب المسارعة إلى تفعيل هيئة النزاهة ومحاربة الفساد وتسمية رئيسها وأعضائها وسرعة مباشرتها اختصاصاتها.
سابعاً: وأخيراً فإن من أسباب الفساد التي لم أجد من تحدث عنها سابقاً انشغال بعض كبار المسؤولين عن القيام بمسؤولياتهم، إما بمتابعة مصالح خاصة أو لمجرد التواكل والإهمال، واعتمادهم على من تحت أيديهم أو من يلي مركزهم من موظفين في إداراتهم وترك إدارة الأمور في ذلك الجهاز الحكومي للرجل الثاني أو الثالث أو أياً كانت مرتبته في ذلك الجهاز، وإذا ما وقعت الكوارث وافتضحت الخفايا، وقع المسؤول الأول في مأزق التبرير أو الترقيع أو محاولة الخروج بأقل الأضرار من تلك الكارثة. هذه خواطر أو تنبيهات ذات صلة بالفساد الإداري وجرائمه أرجو أن يكون لها عبر منبر هذه الصحيفة المباركة نفع وأثر حسن وأن تجد َ صدى عند كل مسؤول غيور على وطنه ناصح لأمته ممن لهم موقع ودور في تنفيذ حملة خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – لمحاربة الفساد. وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وهو رب العرش الكريم.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً