كيف يحرم العمال من حقوقهم بقوة القانون
امتدت قضية نور الدين الإدريسي المشيشي 14 سنة دون أن تجد طريقها إلى الحل، بالرغم من استصداره حكما ابتدائيا وآخر استئنافيا يقضيان بتعويضه بحوالي أربعين ألف درهم عن ما سمي بالإشعار في الإعفاء والطرد التعسفي والعطلة السنوية وعن أجرة الشهر الثالث عشر.. والظاهر أن الحالة التي بين أيدينا ليست سوى نموذجا لواقع الطرد التعسفي الذي تقبل عليه الكثير من المؤسسات من حين لآخر، ضاربة عرض الحائط قانون الشغل والظروف الاجتماعية للعمال بعد الاستغناء عنهم، بل هي نموذج كذلك لعجز القضاء على تنفيذ أحكام قد يستصدرها، أمام تحايل بعض أرباب الشركات، سواء بإدعاء الإفلاس أوحل الشركة أو ما إلى ذلك من حيل تتيح لأصحاب الشركات الإفلات من أداء ما يجب أداؤه من حقوق للعمال.
طرد تعسفي مفاجئ تحت الوعد والوعيد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اشتغل المشتكي لدى مختبر “لابو فيلم المغرب” منذ بداية 1984 إلى حدود مارس 1993، حيث كان يشغل منصب مراقب ويتقاضى مبلغ 2.420.00 درهم كأجرة شهرية، إلا أنه بعد عودته من عطلة عيد الفطر وتوجهه مبكرا كعادته إلى عمله، لم يجد الحارس الذي اعتاد فتح مقر العمل؛ بعد قليل من الانتظار، جاء رب الشركة الذي لم يتردد في إشعاره بالعودة إلى بيته تحت ذريعة أن المختبر في حالة إفلاس، يقول نور الدين الإدريسي “لما نزل صاحب الشركة من سيارته، سلم علي وسألني عن حال وليدتي التي لم يتجاوز عمرها آنذاك 42 يوما بالضبط، إلا أن هذا الأخير فاجأني لما قال، لي أين يا الإدريسي؟ فأجبته إلى العمل، فرد علي مبتسما وعلامات الشر في عينينه، لقد أفلست! فكان جوابي مقتضبا والدموع تملأ عينَيْ، الشغل شغلك وأنت أدرى مني بأحواله، فرد علي: لا تبكي سوف أزورك غدا في منزلك، لا عليك.. عند مغادرتي ببضعة أمتار ناداني باسمي وقال: إياك أن تلجأ إلى المحكمة، فإن فعلت فلن تأخذ أي درهم مني”.
بعد أسبوع من الانتظار عاد نور الدين الإدريسي إلى مقر الشركة حيث وجد بقية العمال مستمرين في العمل، فحاول المسير إرضاءه بمبلغ ألف وخمس مائة درهم، كما وعده بأن يعطيه نفس المبلغ بعد بعض الوقت، رفض المشتكي المبلغ الذي عرض عليه، فتوجه إلى مفتش الشغل، الذي قام باستدعاء الطرفين للمثول أمامه إلا أن مسير الشركة رفض الحضور، وبعد إعادة المحاولة، ما كان له إلا تسليم شهادة بهذا الرفض للمشتكي الذي قام بتوكيل محام عنه لرفع الأمر إلى القضاء.
خطوات قانونية ثابتة أظهرت حق العامل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فعلا رفعت القضية إلى المحكمة الابتدائية كما ينص على ذلك القانون، وقامت الشركة بتنصيب محام لينوب عنها، حيث تنكرت للمشتكي ونفت طردها له معتبرة، حسب المذكرة الجوابية التي أدلت بها بتاريخ 05 شتنبر 1994، “أنها قامت بتشغيله دون أن تكون له أية دراية في ميدان التصوير الفوتغرافي فساعدته على اكتساب المهنة بطريقة عصرية، إلا أنه في آخر المطاف، وبعد اكتساب التجربة أخذ يشتغل بمفرده ويتهاون في عمله داخل الشركة، وأنه يتغيب عن عمله مدعيا أنه في حالة مرض، فبعثت له برسالة بواسطة أحد مشغليها الذي سلمه إياها، فلم يعر لها أي اهتمام…”
عقب المشتكي على ما جاء في جواب الشركة، وأوضح أنه فور فصله عن العمل بتاريخ 31 مارس 1993، قام بإجراءات حبية قصد تسوية مشكلته، مستدلا بعرضه للنازلة على مفتش الشغل الذي حرر رسالة يطلب من خلالها المسؤول القانوني عن الشركة لأجل الحضور إلى مكتبه قصد تسوية حبية بينهما، كما أوضح أنه لا دليل على كونه لم يلتحق بعمله، وأن الرسالة التي تتمسك بها الشركة كحجة على إعادة استدعاء نور الدين الإدريسي للالتحاق بالعمل، رسالة من صنع الشركة ولا يمكن الاحتجاج بها لمخالفتها للحقيقة والقانون، خاصة وأن المشرع في مثل هذه الحالات أوجب احترام المسطرة التي ينبغي سلوكها في شأن المراسلات أو الإنذارات، هكذا أصدرت المحكمة قرارها لصالح نور الدين الإدريسي ابتدائيا بضرورة تعويضه بما يقارب أربعين ألف درهم.
بتاريخ 26 مارس 1998 استأنفت شركة “لابو فيلم المغرب” الحكم، على أساس انعدام ما يثبت واقعة الطرد، وأن المشتكي هو من غادر عمله بدون سبب مشروع، وبالتالي عدم صواب الحكم الصادر لتأويله الخاطئ للوقائع وكذا الوثائق المدلى بها… إلا أن المشتكي بدوره تقدم بمذكرة جوابية مع استئناف فرعي، حيث لاحظ على المؤسسة أنها رددت نفس الاعتبارات التي سبق وأن أثارتها في المرحلة الابتدائية دون أن تدعمها بأية حجة أو معطيات جديدة، مذكرا بأنه قام بإجراءات حبية قصد تسوية مشكلته عبر عرض النزاع على مفتش الشغل الذي حرر له وثيقة معلومات بذلك، نافيا ما أدلت به الشركة بشأن إرسالها إنذارا إليه قصد الرجوع إلى عمله، ومطالبا برد هذا الاستئناف والأخذ بعين الاعتبار استئنافه الفرعي، حيث التمس من خلاله رفع التعويض إلى مبلغ مائة وعشرين ألف درهم الذي تمت المطالبة به ابتدائيا… كان لزاما الانتظار إلى غاية 30 ماي 2001، لتصدر محكمة الاستئناف قرارها النهائي، الذي قضى بتأييد الحكم الابتدائي دون أن يقدم على أي تعديل في مقتضياته.
إلى هذا الحد ليس هناك ما قد يثير الاستغراب في هذه النازلة، والعبرة التي يمكن استخلاصها تكمن في الخطوات القانونية التي أقدم عليها المشتكي، خصوصا توجهه إلى مفتش الشغل وحرصه على تسلم شهادة من هذا الأخير تثبت نيته في الصلح الحبي، مقابل الخطوات أو الردود التي أقدمت عليها الشركة والتي لم تستند على حجج تؤكد ما أدلت به من أقوال، لدرجة أن الوثيقة الوحيدة التي اعتمدتها على أساس أنها رسالة إنذارية للمشتكي، لم تتم إحاطتها بإجراءات قانونية أخرى تؤكد صحتها، من قبيل إرسالها عبر البريد المضمون أو عبر عون معترف به لتأكيد الإشعار بالتوصل…
++++++++++++++++++
اعتراف المحكمة بحق العامل لا يعني حصوله عليه!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المثير في التعامل مع هذه الوضعية كان لسببين: أولهما رفض المسير القانوني للشركة تنفيذ الحكم الصادر عن المحكمة، ثانيهما في الصيغة التي نهجتها الشركة لوضع المطالب بحقه أمام متاهات قضائية جديدة، قد نلخصها في وضعية الإفلاس التي عرضتها أمام أنظار المحكمة، تحت ما يعرف بالتسوية القضائية، التي تنتهي إلى ما يعرف بالتصفية القضائية، والتي ينتج عنها نوع من التملص من العديد من الديون، سواء كان ذلك اتجاه مؤسسات الدولة أو الأبناك أو العمال أنفسهم…
فبعد الحكم النهائي، كلف عون قضائي بتنفيذ ما قررته المحكمة، حيث توجه إلى مقر الشركة فوجد رب المؤسسة الذي يحمل في نفس الوقت صفة المسؤول القانوني لها، وبعدما عرف العون القضائي بنفسه وبموضوع المهمة التي جاء للقيام بها، امتنع رب المؤسسة عن أداء المبلغ المحكوم به كما منع العون من حجز المنقولات المتواجدة بالشركة، بعد ذلك طلب العون إذنا بتسخير القوة العمومية للسهر على تنفيذ الحكم، لكن رغم انتقال هذه الأخيرة رفقة المساعد القضائي لم يتسن لهم التنفيذ، وذلك لامتناع وعصيان المسؤول القانوني عن ذلك، حسب ما جاء في محضر العون القضائي.
رفع المشتكي شكاية جديدة لدى وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بتاريخ 29/11/2002، من أجل تحقير مقرر قضائي، حيث شرح الأحكام الصادرة لصالحه ابتدائيا واستئنافيا، كما شرح إجراءات التنفيذ التي قام بها، معززا ذلك بشهادة الامتناع والعصيان التي أدلى بها العون القضائي بالرغم من تسخير القوة العمومية لمباشرة التنفيذ… لكن إلى حدود اليوم، لم يعرف مصير هذه الشكاية، ولم تحرك النيابة العامة أية مسطرة بخصوصها، علما أنه لا يوجد ما يمنع ذلك، الشيء الذي فتح الباب لعدد من التساؤلات والشكوك حول نية إقبارها… من جهة أخرى، قام المشتكي بحجز بقيمة أربعين ألف درهم على أصل السجل التجاري للشركة بناءا على الحكم القضائي الصادر لصالحه، إلا أن دخول الشركة إلى ما يعرف بالتصفية القضائية وضع هذا الحجز في خانة انتظار إلى أن تبث المحكمة في الوضعية المالية الحقيقية للشركة، وأن تحدد مالها من ممتلكات وما عليها من ديون. في مثل هذه الحالات، لابد من التذكير أن القانون المغربي، أعطى أولوية لتسديد الديون التي تستحقها الدولة من قبيل الضرائب وغيرها، ثم ديون المؤسسات البنكية، بعد ذلك وفي مرتبة ثالثة، إلى حقوق العمال، بمعنى آخر، يتم توزيع ما تبقى لدى الشركة – إذا ما تبقى شيء يذكر – حسب تراتبية تضع العمال في المرتبة الثالثة، وهو ما لا يسمح لهم في معظم الحالات من الاستفادة من أي من الحقوق، نظرا لأن الشركة لا تدخل التصفية القضائية إلا في حالة عجز مالي وأن ما قد تتوفر عليه لا يكفي لتسديد ديون الدولة التي تأتي في الدرجة الأولى، فبالأحرى تسديد ديون الأبناك وبعدهم العمال..
تجدر الإشارة كذلك إلى أن عملية التصفية القضائية غالبا ما تعرف أشكالا وحالات من التصريحات غير الحقيقية، كما هو الحال بالنسبة للتصريح الضريبي الذي ينتج عنه التهرب الضريبي، حيث يتم الإدلاء بمعطيات مالية وتجارية مخالفة للمعطيات الحقيقية، وبالتالي يمكن القول إن بعض المؤسسات قد تتملص من حقوق عمالها كما تتملص من أداء الضرائب الواجب أداؤها…
على هذا الأساس، وبالرغم من استصدار المشتكي لحكم نهائي لصالحه، وبالرغم من قيامه بالحجز على السجل التجاري للشركة، قد لا يستفيد شيئا وقد لا يستخلص ولو جزءا بسيطا مما يستحق، ليصير ضحية بقوة القانون، بعدما كان ضحية لسلوك مشغله غير القانوني.
توجه المشتكي برسالة تلو الأخرى لكل من وزارة العدل والديوان الملكي، يشرح من خلالها “تمسكه بحق مشروع كرسته أحكام قضائية نهائية صادرة باسم جلالة الملك”، إلا أنه وإلى حدود اليوم لم يفلح في الحصول على جواب يشفي غليله.
محمد خليل محام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واقع الممارسة يُحوِّل أحيانا التعامل القانوني الإيجابي إلى واقع تهضم فيه الحقوق
حينما تكون هناك مؤسسة قائمة قانونيا وواقعيا، وحينما يكون هناك طرد تعسفي، ألحت مدونة الشغل الجديدة على مسطرة الصلح، حيث أصبح لمفتشية الشغل مجال قانوني صريح بمقتضاه يمكن لمفتش الشغل كمؤسسة إدارية أن يصرح من خلال محضر رسمي بوجود صلح أو عدم وجوده، لكن بعض المؤسسات تكون أحيانا في مرحلة التسوية القضائية، وبسوء نية، لا تخبر عمالها بمشروع التسوية، وتقوم بنشر هذا المشروع عبر بعض الجرائد التي لا قيمة لها، وهذا خطأ وزارة الداخلية، حيث تعطي لهذه المؤسسات إمكانية الاختباء وراء تلك الإعلانات، ونظرا لأننا لسنا دولة قارئة أصلا وأن هامش الإطلاع على تلك الإعلانات قليل جدا، لا يعلم العمال بمسطرة التسوية القضائية، فتقوم المؤسسة بطرد أي من العمال وأحيانا جميعهم دون أن يستفيد هؤلاء من أي حق من حقوقهم، لأن التسوية القضائية بما تعنيه من أن المؤسسة في وضعية عجز وأنها أمام صعوبة مالية لا تسمح لها بتأدية ديونها – وقد تكون بتواطؤ مع جهة معينة قد لا نسميها حتى لا نسقط في مطبة رسالة إلى التاريخ – يتم التستر عليها إلى أن تتحول إلى تصفية قضائية، فيصبح العامل أول الضحايا.. هذا بشكل عام.
المهم في الحالة التي أمامنا، أن العامل أحرز حكما نهائيا لصالحه، لكنه لم يستطع تنفيذ الحكم بالرغم من خروج عون قضائي رفقة القوة العمومية لأجل ذلك، وقد حرر العون محضرا بامتناع وعصيان المسؤول القانوني للشركة عن التنفيذ… في هذه الحالة يجب أن يتابع هذا المسؤول وفق مسطرة العصيان، وأكثر من هذا يجب أن يتابع وفق مسطرة تحقير مقرر قضائي، وينتصب الشخص المتضرر كمطالب بالحق المدني؛ إذن بعد تحرير محضر الامتناع والعصيان من طرف العون القضائي وإحالته على السيد وكيل الملك، كان لزاما أن يتابع هذا الأخير المسؤول القانوني للشركة على أساس جنحة تحقير مقرر قضائي، حيث يحال على المحكمة في حالة اعتقال أو سراح حسب خطورة الجرم، فإذا كان هناك عدد كبير من العمال المعنيين بالطرد، لابد أن يحال في حالة اعتقال، لأن في ذلك نصب على المجتمع الذي يُكَوِّنٌ القاعدة القانونية، وطبعا يبقى للقضاء أن ينظر في الموضوع وأن يحاكم المعني بالأمر وفق المقتضيات التي يراها مناسبة، فلا مُعَقِّب على القضاء إلا وفق الإجراءات القانونية المسطرة، والتي تعني إمكانية استئناف الحكم الابتدائي أو الطعن في الحكم الاستئنافي.
هذا بالنسبة للامتناع عن تنفيذ الحكم، أما أن تكون الشركة في حالة تصفية قضائية، فهذا لا يعني أن حقوق العمال قد انتهت، بالعكس من حق العمال، خصوصا إذا كان لديهم حكم قضائي، دخول هذه التصفية وفق مسطرة يحددها القانون؛ لكن من الناحية الواقعية قد يتم أحيانا هضم تلك الحقوق بتواطؤ مع السانديك، أي الخبير الذي تعينه المحكمة لإنقاذ الشركة من الإفلاس، إذن من الناحية القانونية يمكن القول إن القضاء المغربي إيجابي في تعامله مع مثل هذه الحالات، حيث ذهب في إطار القواعد العامة إلى ما يعرف بحسن النية، بحيث يتعامل مع الشركة سيئة النية بمنطق حسن النية، وهذا إيجابي من زاوية نظر المقاولة و بشكل عام من زاوية نظر اقتصادية، في نفس الوقت حافظ على حقوق العمال، إلا أن واقع الممارسة للأسف، أحيانا ما يُحَوّل هذا التعامل القانوني الإيجابي إلى واقع تهضم فيه الحقوق.
أما الترتيب في استخلاص ديون الشركة بعد مرحلة التصفية القضائية، فهذه مسألة مرتبطة بالنظام السياسي، فإذا كان النظام ليبراليا هناك قاعدة معينة، وإن كان اشتراكيا هناك قاعدة أخرى، وإن كان ليبراليا اجتماعيا لابد من أن تكون هناك قاعدة تراعي حقوق الرأسمال وتراعي الحقوق الاجتماعية بنفس الدرجة؛ في المغرب الآن، نحن في بلد ليبرالي، لكن هناك توجها اجتماعيا متصاعدا، وحينما نتكلم عن القانون نتكلم عن التشريع، وحينما نتحدث عن التشريع نتحدث عن البرلمان، وحينما نتحدث عن البرلمان نتحدث عن الأحزاب ومراكز القرار السياسي، إذن يجب مراعاة هذا النوع من الإشكالات والخروج من المفهوم الضيق للسياسة.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً