حماية المستهلك في عقود الإذعان
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
يحتاج المستهلك إلى الحماية أياً كان النظام الاقتصادي الذي تعتمده الدولة؛ فمن المعلوم أن وسيلة المستهلك في إشباع حاجته من السلع والخدمات تكون عن طريق العقد الذي يعتبر في معظم قوانين العالم أحد أهم مظاهر التعبير عن الإرادة، ولكن هذا الشكل الذي يقوم في الأصل على مبدأ سلطان الإرادة أو ما يعرف بقاعدة “العقد شريعة المتعاقدين” يفترض أنه قد نشأ متوازناً بين طرفيه وكانت لديهما الفرصة الكافية للمساومة الحرة والمناقشة المستفيضة، إلا أن حدوث الثورة الصناعية وما ترتب عليها من تطور التصنيع وتركيز لآلة الانتاج، أفرز في التعامل الحقوقي نوعاً جديداً من العقود يأبى المساومة والنقاش، ويمليه أحد المتعاقدين على الآخر الذي لا يملك سوى قبول العقد برمته أو رفضه برمته، وهو في كثير من الحالات لا يستطيع رفضه، بل يضطر إلى التعاقد لعدم وجود البديل وحاجته إلى التعاقد، بحيث يكون العقد في هذه الحالة “تعبيراً عن إرادة الطرف القوي”،
وليس شريعة المتعاقدين، وهذا ما يسمى عقد الإذعان. ولاشك أن المتعاقد الآخر في مثل هذا العقد يحتاج إلى الحماية، لذلك نجد الكثير من الدول، ومنها سورية، وإن اعترفت بالطبيعة العقدية لعقد الإذعان، إلا أنها لم تغفل في ذات الوقت اختلال التوازن وانعدام التكافؤ بين الطرفين في هذا العقد، لهذا أولت بعض الحماية للطرف الضعيف.
مفهوم عقد الإذعان:
ينقسم الفقه عند البحث في تحديد المقصود بعقد الإذعان إلى مذهبين:
المذهب الأول (تقليدي): وفيه يذهب الفقه إلى التضييق في مفهوم الإذعان بحيث لا ينطبق إلا على عدد قليل من العقود؛ فالأصل عندهم أن الفرد حر في التعاقد وفي تحديد شروط العقد، وعقد الإذعان يعتبر خرقاً لهذا المبدأ، حيث يشذ الإيجاب في هذا العقد عن القاعدة، فلا تكون ثمة مفاوضات أو مناقشات، وإنما يستقل أحد الطرفين بوضع شروط التعاقد سلفاً ويعرضها على المتعاقد الآخر الذي لا يملك مناقشتها. ومن هنا يطلق البعض على هذا العقد “العقد الذي توضع شروطه سلفاً بمعرفة أحد المتعاقدين”، كعقود الاشتراك بالكهرباء والمياه والعقود المصرفية.
ولذلك يمكن القول إن الايجاب في عقد الإذعان عند هذا المذهب من طبيعة خاصة ويتميز بخصائص هي:
1ـ عمومية الإيجاب وديمومته
2 ـ القوة الاقتصادية للموجب
3ـ حتمية الايجاب
4 ـ الشروط الموحدة للإيجاب،
حيث تكون هذه الشروط مطبوعة في الغالب ومصاغة بأسلوب معقد يعز فهمه على الكثير من الأشخاص، وتحتوي على الكثير من التفصيلات يكون أكثرها في مصلحة الموجب؛ فهي تارة تخفف من مسؤوليته التعاقدية وتارة تشدد في مسؤولية المذعن.
وتحرير العقد بهذه الصورة يجعل الشخص يُذعن بسهولة إذ أن مثل هذا الإعداد المسبق يضفي عليه نوعاً من الاحترام الزائد وشعور المذعن بضرورة اتباعه، وبعدم جواز المساس بأي شرط من شروط العقد. كما أنّ استخدام الشركات الكبرى للحاسب الآلي في إجراء تعاقداتها قد دعم أيضاً التجريد حيث لا يستطيع معالجة معطيات غير منصوص عليها في برامجه، وبالتالي لا يمكن قبول أي مناقشة في الشروط سابقة الإعداد. ومثال ذلك شراء البرامج والتطبيقات المعلوماتية. أما القبول عند هذا المذهب وبحسب المادة 101 من القانون المدني السوري يقتصر على مجرد التسليم بشروط مقررة يضعها الموجب ولا يقبل المناقشة فيها.
فالقانون في هذه المادة اكتفى بالمساواة القانونية للإرادة الحرة السليمة للمتعاقدين، ولم يتطلب المساواة الفعلية أو الاقتصادية بين الطرفين. وهو يختلف في ذلك عن القانون الفرنسي الذي عمل على تحقيق المساواة الفعلية والاقتصادية وذلك في القانون رقم 35 لعام 1978 الخاص بحماية المستهلك، والذي أبطل الشروط التعسفية التي تفرض على المستهلك نتيجة تعسف مهني بقصد الحصول على ميزة مجحفة. ولذلك نجد البعض من الفقه ينتقد هذا المذهب ويعتبر أن نصوص القانون المدني المنظمة لعقد الإذعان لم تقيّد بهذا المفهوم الضيق بالقيود التي ذكرها هذا الفريق وهو ما دفع الفقه للبحث عن مفهوم جديد لعقد الإذعان.
المذهب الثاني (الحديث): هجر الفقه الحديث المفهوم السابق واتجه نحو مفهوم أكثر اتساعاً يتناسب مع التغيرات الاقتصادية التي يشهدها العالم؛ فقد سعى الفقه والقضاء الفرنسيان الرائدان في ذلك إلى إعادة التوازن في العقود التي تبرم بين المهني والمستهلك، عن طريق استعمال “الحيل” في تفسير النصوص، من خلال تشبيه البائع المهني في حكم البائع الذي يعلم عيوب الشيء المباع في موضوع ضمان العيوب الخفية وذلك حتى يستفيد المشتري من ضمان البائع للعيوب الخفية في جميع الحالات، لأنه يفترض أن البائع قد تعمد إخفاء العيب وكان عالماً به ولم يخبر المشتري. وعليه، يعرّف هذا الاتجاه عقد الإذعان، بأنه: “خضوع أحد الطرفين لعقد محرر سلفاً من جانب المتعاقد الآخر دون أن يستطيع مناقشته أو تعديله”.
وبذلك يتميز هذا العقد حسب هذا المفهوم بخاصتين هما:
1ـ التنظيم المنفرد لشروط العقد من جانب واحد.
2- قدرة الموجب على فرض شروط عقده التي وضعها سلفاً بحيث لا يكون للمذعن “القابل” سوى حرية محدودة لأنه يصعب عليه إيجاد البديل.
والخلاصة، أن العقد يعد من عقود الإذعان كلما كان مضمونه معداً قبل التعاقد بواسطة أحد طرفيه على نحو عام ومجرد، ودون أن يعني ذلك وجود احتكار قانوني أو فعلي، أو أن يكون محل التعاقد سلعة أو خدمة ضرورية؛ ذلك أن الاحتكار ليس شرط مستقلاً في عقد الإذعان، وإنما هو قرينة على أن القبول اقتصر على مجرد التسليم بالشروط المقررة سلفاً من جانب الموجب؛ وهو بذلك يتميز عن غيره من العقود كالعقد الجبري الذي يُفرض على الشخص؛ ومثال ذلك عقود التأمين عن حوادث السيارات؛ فالقانون يفرض على كل شخص يملك سيارة أن يبرم عقد تأمين لتغطية مسؤوليته المدنية التي قد تنجم عن حوادث السيارات.. ولكن لا يُجبر على التعاقد مع شركة محددة بعينها.
وكذلك مالك المخبز مُجبرٌ على بيع الخبز لمن يطلب شرائه ودون أن يتمتع بحرية اختيار المشتري. ويتميز عقد الإذعان عن العقد النموذجي الذي يكون عادة مطبوعاً ومعداً سلفاً ليتم التعاقد بموجبه في العمليات الموحدة توفيراً للجهد والوقت والنفقات، بحيث لايفعل المتعاقدان أكثر من ملء فراغات معينة تتعلق باسم العميل وتاريخ العقد وبعض البيانات الأخرى كعقود التجارة الدولية، مثل النفط والغاز والسكر والقمح وغيرها.
بالمحصلة، فإن تركيز المشرّع فيما مضى في عقود الإذعان على المساواة القانونية دون المساواة الاقتصادية ومحاولته تلطيف تلك المفارقة من خلال الإجازة للقاضي في المادة 150 من القانون المدني ـ إذا تم العقد بطريق الإذعان وكان يتضمن شروط تعسفية أن يعدل هذه الشروط أو يعفي الطرف المذعن منها وذلك وفقاً لما تقضي به العدالة ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك ـ أمراً لم يعد مقبولاً في ظل التطورات الصناعية والتقنية، مما استلزم إصدار العديد من التشريعات الخاصة التي اعتمدت المفهوم الواسع لعقد الإذعان، ومنها قانون التجارة الداخلية وحماية المستهلك رقم 14 للعام 2015.
لكن مما يؤخذ على هذا القانون عدم تفعيل دور جمعيات حماية المستهلك بمنحها صفة تمثيلية عن المستهلكين لرفع الدعاوى، حيث أن الكثير من المستهلكين لسبب أو لآخر، لا يلجؤون للقضاء.. وفي ذلك تكريس فعلي لمبدأ حماية المواطن وتحقيق لهدف المشرّع في ضمان ممارسة المستهلك لحقوقه في الاختيار الأنسب للمنتج والخدمة المتاحة في الأسواق وفقاً لرغباته.
اترك تعليقاً