لا يجوز محاكمة المتهم عن فعل واحد مرتين
تنص المادة 24 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية : ” لا يجوز تعريض أحد مجددا للمحاكمة أو للعقاب على جريمة سبق أن أدين بها أو برء منها بحكم قضائي وفقا للقانون والإجراءات الجنائية في كل بلد.”
يطلق على مرحلة المحاكمة الجنائية مرحلة التحقيق النهائي ، التي يكون قاضي الحكم من خلال ما يدور فيها من تصريحات ومناقشات ومواجهات بين أطراف الخصومة الجنائية قناعته سواء بالإدانة أو البراءة لما تمثله هذه المرحلة من أهمية في إظهار الحقيقة لاقتضاء الدولة حقها في الجزاء ، ولكن قد يتبين للمحكمة في بداية المحاكمة عند مثول المتهم أمامها أنه قد سبق لهذا المتهم أن حوكم على نفس الجريمة المتابع فيها ، وهذا غير جائز قانونا ويشكل انتهاكا لحقه في عدم جواز محاكمته مرتين على نفس الفعل ، ونظرا لأهمية هذا المبدأ وإن كان الدستور الجزائري لم ينص عليه صراحة ، ولكن كما رأينا سابقا فإنه يمكن اعتبار هذه الضمانات من المتطلبات القانونية للمحاكمة العادلة (1).
وعليه سنقسم هذا المبحث إلى مطلبين نتناول في المطلب الأول ماهية مبدأ عدم محاكمة المتهم عن فعل واحد مرتين و تطبيق المبدأ واستثناءاته في الفرع الثاني.
المطلب الأول : ماهية مبدأ عدم محاكمة المتهم عن الفعل الواحد مرتين
سنتناول هذا المطلب من خلال فرعين حيث سنتناول في الفرع الأول تعريف مبدأ عدم جواز محاكمة المتهم عن الفعل الواحد مرتين وفي الفرع الثاني سنتناول أهمية هذا المبدأ.
الفرع الأول : تعريف مبدأ عدم محاكمة المتهم عن الفعل الواحد مرتين
يعد هذا المبدأ من الضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة حيث أكد عليه المشرع الجزائري في المادة الأولة من ق إ ج في الفقرة الثانية ” .. لا يجوز متلبعة أو محاكمة أو معاقبة شخص مرتين من أجل نفس الأفعال ولو تم إعطاؤها وصفا مغايرا،..” نصت المادة 311 من قانون الإجراءات الجزائية : ( إذا أعفي المتهم من العقاب أو برئ أو أفرج عنه في الحال ، ما لم يكن محبوسا لسبب آخر دون إخلال بتطبيق أي تدبير آمن مناسب تقرره المحكمة ، ولا يجوز أن يعاد أخذ شخص قد برئ قانونا أو اتهامه بسبب الوقائع نفسها حتى ولو صيغت بتكييف مختلف ) معنى ذلك أنه لا يجوز متابعة أي شخص أو توجيه الاتهام له ، بسبب الوقائع سبق محاكمته عليها حتى ولو تم تغيير التهمة ولكن الوقائع نفسها ، وتجدر الإشارة أن هذا الدفع يقدمه المتهم أو دفاعه كدفع شكلي لأنه يمس بإجراءات المتابعة الجزائية فبالرجوع للمادة 311 حددت بأنه لا يجوز أخذ الشخص أو توجيه الاتهام له أي متابعته جزائيا وبالتالي على قاضي الحكم التطرق لهذه المسألة الشكلية قبل التطرق لموضوع المحاكمة (2).
وقد كرست المحكمة العليا هذا المبدأ في العديد من قراراتها واستقرت بأن الدفع بحجية الشئ المقضي به في المواد الجنائية قاعدة من النظام العام (3). ونجد هذا المبدأ أيضا في التشريع المصري وتحديدا في نص المادة 454 من قانون الإجراءات الجزائية التي نصت على أنه تنقضي الدعوى الجنائية بالنسبة للمتهم المرفوعة عليه والوقائع المسندة إليه ، بصدور حكم نهائي فيها بالبراءة أو الإدانة، ولكن المحكمة الدستورية العليا رفعت هذا المبدأ إلى مصاف المبادئ الدستورية ، عندما قضت بأن المبدأ عدم جواز معاقبة الشخص مرتين عن فعل واحد وإن لم يرد طرحه في الدستور إلا أنه يعتبر جزء من الحقوق الوثيقة الصلة بالحرية الشخصية ويعتبر من الحقوق التي يعتبر التسليم بها في الدول الديمقراطية مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية (4).
ويتمتع الحكم بحجية الشئ المقضي فيه ينتج عنه منع من إعادة نظر موضوع الدعوى مرة أخرى بين نفس الأطراف وفي نفس الوقائع أي يجب اقتضاء أن تكون بين المحاكمة الأولى والثانية وحدة ثلاثية من حيث الموضوع والأطراف والدعوى كما استقرت عليه المحكمة العليا في الجزائر (5).
ويشترط لصحة الدفع بحجية الشيء المقضى به أن يكون هناك حكم أو قرار سبق صدوره نهائيا من محاكمة جزائية معنية ، أما إذا كان الحكم لازال قابلا للتعديل أو التغيير فلا يجوز للدفاع أن يتمسك بعدم جواز محاكمته مرة أخرى لسبق صدور حكم في الدعوى بحكم محكمة الجنايات الصادر في غيبة المتهم المتخلف عن الحضور لأن هذا الحكم لا يكتسب قوة الشيء المقضى به و إنما هو مجرد حكم تمهيدي يسقط بحكم القانون عند حضور المحكوم عليه وأن إلقاء القبض عليه طبقا لمقتضيات المادة 326 من قانون الإجراءات الجزائية (6).
الفرع الثاني : أهمية مبدأ عدم محاكمة المتهم عن الفعل الواحد مرتين
لهذا المبدأ أهمية بالغة لإضفاء الاستقرار القانوني والعدالة وضمان الحريات العامة، فعدم استقرار المراكز القانونية في المجتمع وتغيرها بالبراءة وأخرى بالإدانة، أو حتى تغير العقوبة في الإدانة نفسها، ينشر الفوضى في المجتمع ويبطل مصداقية الأحكام النهائية ويبعث عدم الاستقرار في المعاملات، ومن ثم كان من الإلزامي إضفاء قوة للحكم النهائي لوقف الدعوى الجنائية عند حد معين كفالة للاستقرار القانوني، والمنطق يفرض فكرة إن العدالة أساسها عقاب المتهم المدان مرة واحدة جزاء له على الفعل المجرم الذي افترضه، كما أن العمل بهذا المبدأ أو احترامه ما هو إلا التزام بمبدأ الضرورة والتناسب في العقوبات وعدم توقيع الجزاء دون أي حدود إذا كون هذا الفعل جرائم متعددة (7).
المطلب الثاني : تطبيق مبدأ عدم محاكمة المتهم عن الفعل الواحد مرتين واستثناءاته
إن تطبيق هذا المبدأ لا يثير آية إشكالات في القانون الجزائي الوطني لأنه أصبح من المبادئ الدستورية وكذلك معظم القوانين الوطنية الجزائية قد أخذت بهذا المبدأ وقسم منها احتوت على استثناءات على هذا المبدأ وهذا ما سنتناولة لاحقا بحيث سنتناول في الفرع الأول تطبيق المبدأ وفي الفرع الثاني الاستثناءات على المبدأ.
الفرع الأول : تطبيق مبدأ عدم محاكمة المتهم عن الفعل الواحد مرتين
كما ذكرنا سابقا ان أغلب التشريعات العالمية الجزائية قد أخذ بهذا المبدأ بشكل أو بآخر.
وهناك اختلاف كبير بين الدول حول كيفية الأخذ بهذا المبدأ فهناك من الدول تحرم اتخاذ الإجراءات القانونية عن نفس الفعل بعد قرار نهائي بالإدانة أو البراءة ومنها تجوز إعادة المحاكمة عند ظهور وقائع أو أدلة جديدة عن الفعل أو في حالة حصول خطأ جسيم وأساسي في المحاكمة الأولى عن الفعل كما أن هناك دول تسمح بإعادة المحاكمة ولكنها تمنع العقاب مرتين عن نفس الفعل.
ومحور تطبيق هذا المبدأ هو حجية الأحكام الجنائية أو قوة الشيء المقضي فيه لأن مبدأ عدم جواز المحاكمة عن الفعل مرتين هو الأثر القانوني السلبي لاكتساب الحكم صفة الحكم النهائي البات (8).
وفي سبيل تطبيق المبدأ لابد أن تتوفر جملة شروط وهي :
– صدور حكم من محكمة جزائية مختصة ومشكلة حسب القانون ويجب أن يكون هذا الحكم فاصلا في الدعوى إما بالبراءة أو الإدانة لان الأحكام الأخرى كالحكم بعد الاختصاص أو الأحكام التحضيرية والتمهيدية أو الوقتية لا تكون لها قوة إنهاء الدعوى الجزائية والنتيجة لا تمنع من المادة النظر في الفعل وإعادة بحثه (9).
– أن يكتسب الحكم درجة البات ويكتسب الحكم هذه الدرجة أما باستنفاذ جميع أوجه الطعن القانونية أو بانقضاء مدة الطعن القانونية المقررة للطعن بالأحكام الجزائية.
– إتحاد الحكم الصادر بالشروط أعلاه مع الدعوى الجديدة(الثانية) من حيث الخصوم والموضوع والسبب.
فالخصوم في الدعوى الجزائية هم سلطة الإدعاء التي تمثل الدولة وهذا الطرف أو الخصم ثابت لا يتغير أما الطرف الثاني أو الخصم الآخر هو المتهم الذي يتغير من دعوى جزائية إلى أخرى.
وبموجب هذا المبدأ لا يمكن إقامة دعوى جزائية على شخص سبق وأن تمت محاكمته من نفس الموضوع مرة ثانية ولكن إذا ما ظهرت وقائع جديدة تثبت بأن هناك شركاء أو فاعلين أصليين فإن الإدعاء العام له أن يحرك الدعوى ضدهم(10).
ووحدة وموضوع الدعوى الجزائية هو بصورة عامة المطالبة بحق الدولة في عقاب الأفراد الذين يخالفون قواعد قانون العقوبات والقوانين الجزائية الآخرى ويرتكبون أفعال عدها المشرع جرائم.
أما وحدة السبب فمعناها وحدة التهمة أي الواقعة المكونة للجريمة التي صدر فيها الحكم البات، والسبب في الدعوى يتألف من شقين الواقعة المادية، والوصف القانوني الذي يعطي لها والعبرة بداهته هو بذات الواقعة المادية أيا كان الوصف الذي أعطى لها فيما بعد فإذا أصدر حكم بات بحق المتهم عن الواقعة المادية المكونة للجريمة تحت وصف السبب مثلا فلا يجوز إعادة محاكمة نفس الشخص عن نفس الواقعة وبوصف أو تكيف مختلف.
وإذا ما اختلفت الوقائع موضوع الدعوى فعندئذ يجوز محاكمة الشخص مرة ثانية من الواقعة التي لم يفصل فيها القضاء ،مثلا إذا حوكم شخص من سرقة وتبين بعد ذلك أنه أخفى الأشياء المسروقة أو ارتكب اغتصابا فالحكم البات الصادر من واقعة السرقة لا يمنع من محاكمته من الأفعال الأخرى المغايرة، ولمعرفة فيما إذا كانت الواقعة المراد محاكمة الشخص عنها هي نفس الواقعة التي تمت محاكمته عنها مسبقا قد وضع الفقه معيارا للاستناد عليه والمعيار هو طرح السؤال التالي : هل كان للقضاء عند نظر الواقعة الأولى سلطة الفصل في الواقعة الجديدة التي يراد محاكمة المتهم أم لا. فإذا كانت الإجابة بنعم فلا يمكن إعتباره مستقلة عن الواقعة الأولى التي صدر فيها الحكم لأن القانون قد افترض عدم ثبوتها وهو إثبات لا يقبل إثبات العكس وبالتالي لا يجوز المحاكمة الثانية عنها، أما إذا كانت الإجابة بلا فيعني أنها واقعة مستقلة وبالتالي يجوز المحاكمة الثانية وذلك لاستحالة افتراض أن القاضي قد بحثها وقرر عدم ثبوتها (11).
الفرع الثاني : إستثناءات مبدأ عدم محاكمة المتهم عن فعل واحد مرتين
إن هذا المبدأ قد بني على أساس متطلبات العدالة والاستقرار القانوني ولكن هناك من يذهب إلى أن العدالة المطلق أمر مستحيل الوجود، كما أنه من غير المعلوم فيما إذا كانت التعديلات التي يحتمل أن ينالها الحكم سوف تقربه من تحقيق العدالة أم تبعده منه أكثر (12).
وتثبيت الحكم الصادر بإدانة شخص برئ من فعل الجريمة أمر لا يمت إلى العدالة بصلة لا من قريب أو بعيد، وعليه أجاز بعض القانون في حالات معينة إعادة المحاكمة عن فعل مرتين سميت بحالات إعادة المحاكمة أو الطعن بالتماس إعادة النظر، وذلك لأنه من العدوان الصارخ على العدالة ترك الحكم الصادر بنسبة الجريمة إلى بريء على حالة بمقولة أنه لم يعد ممكنا النظر في القضية من جديد (13).
وأغلب التشريعات التي سمحت بإعادة المحاكمة إجازتها فقط في أحكام الصادرة بالإدانة ولم تجيزها في الأحكام الصادرة بالبراءة وذلك لأن مبررات إجازة النظر في الأحكام الصادرة بالإدانة والعقوبة في أحوال حددها القانون (14).
المراجع:
1- شهيرة بولحية ، الضمانات الدستورية للمهم في مرحلة المحاكمة ، أطروحة مقدمة لنيل دكتوراه علوم في الحقوق ، تخصص عام ، السنة الجامعية 2015/2016 ، ص 280.
2- شهيرة بولحية ، المرجع السابق ، 281.
3- أحسن بوسقيعة ، قانون الإجراءات الجزائية في ضوء الممارسة القضائية ، الجزائر : برتي للنشر ، 2015 ، ص 160.
4- قرار المحكمة الدستورية العليا في 23 يناير 1992 في القضية رقم 22 ، الجريدة الشرعية : العدد 4 ، 1992.
5- شهيرة بولحية ، نفس المرجع ، ص 282.
6- قرار صادر يوم 12-11-88 غ ج الأولى في الطعن رقم 50 040 م ق ع 921 ص 183 جيلالي بغدادي –الإجتهاد القضائي في المواد الجزائية الجزء الأول ، ص 42.
7- علي فضل البوعينين، ضمانات المتهم في مرحلة المحاكمة، القاهرة دار النهضة العربية، 2006 ، ص 275.
8- د. جلال ثروت ، أصول المحاكمات الجزائية، ج 1 ، الدار الجامعية، بيروت ، طبعة 1983ص 268.
9- عبد الأمير العكيلي، أصول الإجراءات الجنائية ، ج2، مطبعة جامعة بغداد، طبعة 1988، ص 874..
10- د. حمودي الجاسم، دراسة مقارنة في أصول المحاكمات الجزائية، ج1، مطبعة العاني ، بغداد ، طبعة 1962، ص 116.
11- د. حمودي الجاسم، المرجع السابق ، ص 123.
12- د. عبد الرحيم محمد الكاشف، الرقابة الدولية على تطبيق العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، دار النهضة العربية، 2003، ص 231.
13- رمسيس بهنام الإجراءات الجنائية تأصيلا وتحيليلا، منشأة المعارف الاسكندرية، 1984، ص 702.
14- د. عبد الرحيم محمد الكاشف، المرجع السابق ، ص 210.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً