ماهية السوابق القضائية وأهميتها للقضاء .
“السابقة القضائية” حكم تصدره محكمة لأول مرة في قضية فيؤسس قاعدة قانونية تأخذ بها المحاكم الأخرى -المساوية لها والأدنى منها درجة والواقعة في نطاق اختصاصها للحكم- في قضايا مشابهة للقضية الأولى. وقد اشتهرت الأنظمة القضائية الأنجلوسكسونية بالأخذ بـ”السوابق القضائية” وجعلتها مصدرا رئيسيا للقواعد والمبادئ القانونية.
وتختلف القوانين الوضعية في اعتماد “السوابق القضائية” واعتبارها حجة ملزمة في إصدار الأحكام القضائية وسن القوانين التشريعية، فالنظام القضائي اللاتيني (في فرنسا وألمانيا مثلا) يعتبرها “مصدرا تفسيريا” للقوانين، ويجعل المصدر الرئيسي للقانون “التشريع”.
ويقصر النظام اللاتيني وظيفة السوابق القضائية على مساعدتها القضاة في “تفسير” القواعد القانونية المكتوبة، و”استئناسهم” بحكمها في القضايا التي لا يجدون فيها قاعدة في القوانين المكتوبة.
ويحتج أصحاب النظام اللاتيني لمذهبهم القانوني هذا بضرورة تطبيق مبدأ “الفصل بين السلطات” الذي يجعل للبرلمان حق سن القوانين، بينما يوكل تطبيقها فقط إلى السلطة القضائية، فإذا أعطيت الأخيرة حق سن القانون فقد أخذت ما ليس حقا لها.
ويعيبون مذهب الإلزام بالسوابق بأمور منها أنه عرضة للتغير السريع الذي يطرأ على الوقائع التي ينظرها فيها القضاء، مما يوجب التحول إلى حكم آخر غير حكم القضايا السابقة.
أما النظام الأنجلوسكسوني (بريطانيا وأميركا مثلا) فيجعل السوابق القضائية من أهم المصادر الرسمية التي يعتمد عليها القضاة في إصدار أحكامهم وفي صياغة القواعد والمبادئ القانونية، سعيا للتسوية بين الخصوم والحد من تعارض الأحكام القضائية في القضايا المتماثلة.
ويحتج النظام الأنجلوسكسوني لمذهبه في إلزامية السوابق القضائية بأنها تساهم في تعريف المحامين وموكليهم بما يتجه إليه الحكم منذ بداية رفع الدعوى، كما تخفف معاناة القاضي اللاحق في حسم القضية المرفوعة باستفادته من خبرات القضاة السابقين.
لكن حجية السوابق القضائية في هذا النظام إنما هي في “نص الحكم” المتعلق بالوقائع التي فصَل فيها الحكم القضائي، وأما الحيثيات العرضية الواردة في سياق القرار فإنها تظل صالحة “للاستئناس” فقط.
ويُشترط في اكتساب السابقة “قوةَ القانون” وإلزاميتها للمحاكم الأخرى -في القضايا المشابهة للقضية التي صدر فيها هذا الحكم- ألا يكون حكمُها إعمالا عاديا للقاعدة القانونية المستقرة، لأن كلمة “سابقة” تعني أنها “لم يسبق لها مثيل في القضاء”.
كما يشترط بعض فقهاء القانون أن يكون حكم السابقة القضائية مسلّما من محكمة الاستئناف الخاصة بالنطاق الجغرافي للمحكمة التي أصدرته، مع أن ما تصدره محكمة استئناف من أحكام لا يعد “سابقة قضائية” يلزم نظيراتها الأخريات إلا إذا سلمته محكمة النقض المختصة.
ولكن السوابق القضائية يمكن أن تطبقها محاكم دولة أخرى لا على وجه “الإلزام”، إذ قد يستشهد مثلا محام أو قاض أميركي بحكم قضائي إنجليزي شكّل “سابقة قضائية” معتبرة في سياق دعوى تتعلق بقضية مشابهة.
أما في النظام القضائي الإسلامي -وهو متقدم تاريخيا على النظامين المذكورين سابقا- فإن السوابق القضائية (وكذلك السوابق في الفتاوى) تكون “إنشاءً” اجتهاديا لحكم في خصومة لم يتقدم فيها تقرير لحكم شرعي.
ولذلك فإن أخذ القضاة بالسوابق القضائية الشرعية يقتصر على الاستئناس بها ولا يصل حد الإلزام، بل إن الاستئناس بها مشروط بصحة مأخذ اجتهاد القضاة السابقين عند تقعيد الحكم وتأصيله، وبتمام المطابقة بين الواقعتين المحل النزاع، وإلا فإنه لا يصح الأخذ بالسابقة القضائية مجددا حتى للقاضي الذي أصدرها أول مرة.
ويرى بعض المذاهب الفقهية أنه إذا استقر العمل بالسابقة القضائية صارت أصلا يلزم العمل به مراعاة لقاعدة “ما جرى به العمل”، ولا يجوز للقضاة اللاحقين الخروج عنها إلا بمرجح معتبر.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً