مفهوم الوحدة الوطنية في الفقه والقانون
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
يعتبر مفهوم الوحدة الوطنية من المفاهيم السياسية التي احتلت مساحة واسعة في الأدبيات السياسية التي تناولت موضوع النظم السياسية في العالم الثالث ولاسيما في فترة ما بعد الاستقلال، حيث برز موضوع الوحدة الوطنية من المواضيع التي شغلت قدراً كبيراً من اهتمامات القادة السياسيين.. وإن عوامل التجزئة الجغرافية والطائفية والعشائرية واللغوية دفعت هذه النظم الجديدة وأحزابها إلى العمل على تحقيق الاندماج القومي، الأمر الذي أثار معارضة بعض الجماعات المضادة للاندماج أو الوحدة الوطنية، والتي طالبت بالانفصال وتأسيس كيانات سياسية واجتماعية مستقلة عن الدولة الجديدة التي استقلت. ومما يلاحظ في دول العالم أنه من النادر جداً أن تجد دولة متجانسة قومياً أو دينياً، إذ أن التعددية القومية ما بين أغلبية وأقليات داخل الدولة الواحدة ينجم عنها ثقافات وقيم خاصة بكل قومية، الأمر الذي يترتب عليه ولاءات فرعية تغطي على الولاء الوطني فيما إذا لم يستطع النظام السياسي احتواء هذه الولاءات وتأطيرها في الإطار الوطني الأوسع.
ويقصد بمفهوم الوحدة الوطنية العملية التي تهدف إلى تحقيق الاندماج وتلاحم عناصر الأمة وذلك بمزج الجماعات المختلفة والمتميزة بعضها عن البعض الآخر بخصائص ذاتية في نطاق سياسي واحد تسيره سلطة مركزية واحدة، وبقوانين سارية على كل إقليم الدولة وتنطبق على كل أفراد المجتمع بدون تمييز أو محاباة. ويتركز مفهوم الوحدة الوطنية على بناء وعي سياسي متطور من خلال ثقافة سياسية تأخذ باعتبارها كل الخصائص الوطنية والقومية والطائفية.
ويرى هوبز، أن الوحدة الوطنية: هي سيطرة الدولة وزيادة مقوماتها من خلال الحكم المطلق الذي سيسهم في إضعاف المناوئين لها أو المنافسين لها. كما يجب على الدولة غرس صفات الولاء وحب الوطن عند الأفراد عن طريق برامج التعليم والتدريب والتوجيه السياسي.
أما عند روسو، فالوحدة الوطنية هي قيام عقد اجتماعي بين الشعب والنظام السياسي القائم، بحيث يتوحد الشعب في وحدة قومية مصيرية وفى إطار من مسؤولية مشتركة يطيع فيها الفرد الحكومة التي هي نظام اجتماعي ارتضاه عن طواعية واختيار.. والربط بين السيادة في توحيد الشعب وقيمه والتعبير عن إرادته المندمجة في الإدارة العامة، هي محصلة إرادات الأفراد التي تختلف في مجموعها عن الإرادات الفردية على اعتبار أنها ليست تعبيراً عن شيء عفوي طارئ، وإنما هي تعبير عن الوحدة الوطنية التي تستند إلى القيم والمثاليات. وتقترن هذه الوحدة بالديمقراطية من خلال حكومة ديمقراطية يستطيع الشعب في ظلها أن يجتمع، وأن يتمكن كل مواطن من التعرف على غيره من المواطنين.
والوحدة الوطنية عند هيجل، هي طاعة القانون في إطار الحرية الممنوحة منه على أن يتوافق القانون مع منطق العدل الذي هو منطق التاريخ. وقد فسر هيجل هذا التعريف من خلال فلسفته التي رمى فيها إلى تمجيد القومية الألمانية، وتأكيده أن رسالة الشعب الألماني تجاه العالم هي رسالة مقدسة. وقد كان لهذه الفلسفة دوراً كبيراً في قيام حركة وحدة ألمانيا التي تحققت في النصف الأخير من القرن التاسع عشر.
ويرى “لينين” أن الوحدة الوطنية هي تحقيق المساواة التامة في الحقوق بين الأمم، وحق الأمم في تقرير مصيرها، واتحاد عمال جميع الأمم هو البرنامج القومي للعمال والفلاحين والمثقفين الأمميين.. وعلى هذا الأساس تتحقق الوحدة الأممية. أما ستالين فله تعريفين للوحدة الوطنية: أما تعريفه الأول، فيرى أنه اشتراك الأفراد في اللغة والأرض والحياة الاقتصادية أو في التكوين النفسي الذي يتجلى في الخصائص التي تصف الثقافة القومية ويكون ذلك الاشتراك من خلال استقرار الأفراد تاريخياً على أرض محددة. أما تعريفه الثاني فهو يرى أنّ إلغاء جميع الامتيازات القومية لأفراد الدولة من خلال قانون يسري على جميع أنحاء الدولة ويمنع كل تقييد على حقوق الأقليات مهما كان أصلها أو دينها، سيحقق ذلك الوحدة الوطنية. وقد ارتأى لوك أن الوحدة الوطنية هي قيام سلطة عامة يقبل بها جميع أفراد الشعب وفق إراداتهم الحرة، فتكون السيادة للشعب ويجب أن يأتي الحكام من الشعب، وأن تتطابق مصالحهم وإراداتهم مع مصالح وإرادات الشعب
لكن الباحث الكندي “غلين ويكشفن” يرى أن الوحدة الوطنية هي الأثر الذي يحدث نتيجة أسباب معينة في المجتمع حيث تقود هذه الأسباب إلى ترابط الشعب مع بعضه البعض، بحيث يمنع هذا الترابط أي دعوات انفصالية في البلاد.. وأنه لإدامة الوحدة الوطنية لابد من معرفة الأسباب التي تؤدي إلى تدميرها؛ مثل انعدام الأمن وتأكيد المصلحة الخاصة على المصلحة العامة والتمييز بين المواطنين من قبل الحكومة ووجود محسوبية في أجهزة الدولة. كما يرى نفس الباحث أن زيادة الإنفاق الحكومي على البرامج الاجتماعية ليس حلاً لتحقيق الوحدة الوطنية، بل إن أفضل الحلول هو: التأكيد على الحريات الفردية للمواطنين.
كما عرفها عدداً من الباحثين العرب ومنهم العميد محمد سليمان الطماوي الذى اعتبر أن الوحدة الوطنية هي قيام رابطة قوية بين مواطني دولة معينة تقوم على عناصر واضحة يحس بها الجميع ويؤمنون بها ويستعدون للتضحية في الدفاع عنها.
وفي ضوء ما تقدم، يمكن القول إن الوحدة الوطنية هي التي يشعر من خلالها أبناء الوطن الواحد بهويتهم الوطنية الشاملة وبأن الأرض التي يقيمون عليها هي وطنهم الحقيقي، بالرغم من التمايز الطائفي أو العرقي أو اللغوي؛ فهي قائمة على الإحساس بالهوية الوطنية وتجاوز أطر الجماعات الأثينية والطائفية والعرقية من خلال تشييد مؤسسات أوسع وأشمل من الإطار القومي الضيق ليغطي الوحدة السياسية للدولة ككل.
وإذا كانت الدول الأوربية قد استطاعت أن تبني نظماً سياسية مستقرة ومؤسسات تمثيلية ودستورية راسخة، وارتكزت على معيار الانتخاب والاقتراع العام المباشر والسري لتداول السلطة سلمياً، فإن ذلك جاء نتيجة لرسوخ أسس بنيان وحدتها الوطنية من خلال أزمات الشرعية والاندماج والمشاركة السياسية والانطلاق نحو تنمية اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية شاملة، تجسد المصالح السياسية المشتركة وتعمق التلاحم الوطني لكل جزء من الدولة والشعب الذي يقيم فيها. وتلك التجربة السياسية المتقدمة والناضجة نجدها حاضرة في الفكر والممارسة لدى القيادة السياسية في سورية التي هي في الواقع منفتحة ومعبرة عن حقيقة القوى الفاعلة في الواقع الاجتماعي وترجمتها في النظام السياسي وتمثيلها، وهي تكرس مقولة أن النظام الذي لا يستطيع أن يستوعب الجزء لا يستطيع أن يستوعب الكل وهذا هو جوهر الوحدة الوطنية من خلال حرص المشرّع على النص في الدستور المادة التاسعة على أنه:
“يكفل الدستور حماية التنوع الثقافي للمجتمع السوري بجميع مكوناته وتعدد روافده باعتباره تراثاً وطنياً يعزز الوحدة الوطنية في إطار وحدة أراضي الجمهورية العربية السورية”. ويعاقب قانون العقوبات في المادة 307 منه كل عمل وكل كتابة وكل خطاب يقصد منه أو ينتج عنها إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية أو الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين، وبالغرامة من ألفي ليرة إلى عشرة آلاف ليرة وكذلك المنع من ممارسة الحقوق المذكورة في الفقرتين الثانية والرابعة من المادة 65 ويمكن للمحكمة أن تقضي بنشر الحكم.
وختاماً، ونظراً للظروف التي تشهدها البلاد وما يتم تداوله من شعارات أو مقولات وآراء من شأنها المساس بالكيان السوري ووحدة أبنائه وإقليمه، ندعو المشرّع لتشديد عقوبة الجرائم التي تنال من الوحدة الوطنية أو تعكر الصفاء بين عناصر الأمة، وتمنع العبث أو المساس بها وذلك في إطار ترسيخ مبادئ سيادة القانون والمواطنة التي يكون فيها المجتمع والمواطن هدفاً وغاية يكرس من أجلهما كل جهد وطني ويعد الحفاظ عليهما مؤشراً على حضارة الوطن وهيبة الدولة.
اترك تعليقاً