ما بين تطوير القضاء وانتداب الطائف
محمد بن سعود الجذلاني
مما جرى عليه العمل في المرفق القضائي لسنواتٍ طويلة مضتْ انتدابُ أصحاب الفضيلة قضاة محكمة التمييز في محكمتي التمييز في مكة والرياض إلى محافظة الطائف أربعة أشهر صيفَ كل عام.
وكانت بداية هذا الأمر مرتبطة بما كان في السابق من انتقال مقر الحكومة في الصيف إلى الطائف الذي لم يعد موجوداً اليوم، لأن الحكومة أصبحت تنتقل في الصيف إلى جدة بدلاً من الطائف، إلا أن انتداب قضاة محاكم التمييز أصبح تقليداً شبه مستمر إلى العام الماضي.
ومن المسائل الجديرة بالتساؤل والبحث، ما يمكن أن يطرأ على هذا التقليد السابق من تغيير أو يلحقه من تأثر بعد البدء بتطبيق الأنظمة القضائية الجديدة التي بدئ العمل بجزء كبير منها ممثلاً في تحويل محاكم التمييز إلى محاكم استئناف، وافتتاح فروع جديدة لمحاكم الاستئناف في عدة مناطق من المملكة وهو ما باشره فعلياً المجلس الأعلى للقضاء.
وهناك فوارق كثيرة بين محاكم الاستئناف الحالية وبين محاكم التمييز التي حلّت مكانها من شأنها أن تجعل إعادة النظر في مسألة انتقال محاكم التمييز (استئناف حالياً) إلى الطائف لم يعد أمراً سهلاً، ويترتب عليه مساوئ وأضرار كثيرة تلحق بالمتقاضين أمام هذه المحاكم أولاً، وبالصالح العام وخزانة الدولة أيضاً.
ومن أبرز هذه الفروق:
1 – أن قضاء محاكم التمييز وفقاً لنظامها السابق كان قضاء رقابة على الأحكام فقط، بينما أصبح اختصاص محاكم الاستئناف الحالية قضاء موضوعياً فتحكم في القضايا بعد سماع أقوال الخصوم طبقاً للمادة (17) من نظام القضاء، وبذلك أصبحت درجة ثانية للتقاضي.
وما من شك أن لهذا الفرق أثره الكبير في وجوب إعادة النظر في مسألة انتقال محكمة الاستئناف إلى الطائف، لأن في ذلك حرجاً شديداً ومشقة غير محتملة تلحق بالخصوم، بل إن فيه حرماناً لكثير من المتقاضين من حقهم في الوصول إلى المحكمة التي تنظر دعاواهم.
ومع أن انتقال محاكم التمييز في السابق إلى الطائف كان فيه تأثيرٌ سلبي على متابعة الناس لقضاياهم، حيث يضطرون إلى متابعتها عن طريق الهاتف، ويضطر بعضهم إلى السفر للطائف إن كانت قضيته تتطلب مقابلة القضاة؛ إلا أن الوضع في محاكم الاستئناف سيكون أسوأ بكثير نظراً لما أشرت إليه من تغير طبيعة اختصاصها وأنه سيكون فيها جلسات ترافع تتطلب حضور الخصوم أمام القاضي.
ومن أبرز السلبيات التي كانت محل تذمر في السابق من انتقال محكمة التمييز إلى الطائف ما يحدث من تأخير في قضايا السجناء الذين يتوقف الإفراج عنهم على انتهاء قضاياهم من محكمة التمييز مثل من حكم عليهم بسجنٍ تعزيري، ولا يمكن دخولهم تحت تعليمات العفو إلا بعد انتهاء القضية من التمييز، خاصة مع تزامن فترة الانتداب مع دخول شهر رمضان.
2 – أن كثيراً من اختصاصات محكمة التمييز في السابق، وكذلك الاختصاصات القضائية لمجلس القضاء الأعلى سابقاً، أصبحت من اختصاص المحكمة العليا حالياً، وأن غالب قضاة محكمتي التمييز القدامى أصبحوا أعضاء في المحكمة العليا حالياً، ما يجعل الاكتفاء بوجود المحكمة العليا في الطائف هو الإحلال الأنسب لنقل محاكم الاستئناف التي لم يعد نظامها ولا طبيعة عملها ولا ظروفها الحالية مناسبة ً لنقلها إلى الطائف.
3 – أن محاكم التمييز السابقة كانت مقتصرة على محكمتين في مكة والرياض وعدد قضاتها قليل، مقارنة بما عليه الحال في محاكم الاستئناف الحالية التي أصبح عدد قضاتها في تزايد مستمر، وكذلك أصبحت فروعها متعددة وفي تزايد، ما يشكل عبئاً مالياً كبيراً، بل ضخماً على خزانة الدولة في حال استمر انتقال تلك المحاكم إلى الطائف صيفاً، سواء اقتصر الانتداب الصيفي على محكمتي الرياض ومكة – وفي ذلك عدم عدالة بينهم وبين قضاة الاستئناف في سائر مناطق المملكة – أو كان الانتداب شاملاً للجميع، وهو ما يضاعف إرهاق خزانة الدولة دون أن تتطلب حاجة العمل ذلك.
4 – أنه ما من شك في مدى التأثير السلبي في هذا الانتقال، وما يؤدي إليه من تأخير في البت في القضايا، وتعريض المعاملات للضياع عند نقلها، وهو ما حصل في السابق في بعض الوقائع، إضافة إلى ما كان عليه العمل سابقاً من اعتياد بعض أصحاب الفضيلة قضاة التمييز من محكمة التمييز في مكة أو في الرياض على التردد بين مدنهم الأصلية، وبين مقر عملهم في الطائف بشكل أسبوعي لقضاة الرياض ويومي لقضاة مكة، ما يؤثر بشكل كبير في استقرار القاضي وحسن أدائه.
5 – أن انتقال محاكم الاستئناف الحالية إلى الطائف يترتب عليه بلا شك تكاليف مالية ضخمة تتمثل في تهيئة مقرات مناسبة لتلك المحاكم على كثرة قضاتها وموظفيها ومراجعيها من الخصوم ووكلائهم، وهذا العبء يضطر الوزارة إلى استئجار مقرين لكل محكمة استئناف واحد في مكانها الأصلي، والثاني في مقرها الصيفي في الطائف، وهذا المقر الصيفي لا يستخدم سوى شهرين في العام، بينما تدفع أجرته عن العام كاملاً، وهذا أمر لا يتوافق أبداً مع المصلحة، ولا مع حفظ المال العام وصرفه في وجوهه المشروعة.
وبعد كل ما سبق بيانه من فروق بين واقع محاكم التمييز في السابق، ومحاكم الاستئناف في ظل نظام القضاء الجديد، فإن من الجدير بيانه أيضاً أن الانتداب في النظام إنما هو: «التكليف بمهمة رسمية لا تصلح إلا في البلد المنتدب إليه».
فهل هذا التعريف مما ينطبق على كثير من الموظفين الذين جرى العرف على انتدابهم في الصيف إلى الطائف فيكون ذلك بمثابة التنزه والاستجمام لهم على حساب مصلحة المراجعين وعلى حساب خزانة الدولة ومصارف المال العام؟.
وما من شك في أن الوضع في السابق يختلف عنه حالياً، حيث كان رئيس مجلس القضاء الأعلى، وكذلك رئيس ديوان المظالم يذهبان إلى الطائف ولا يرافقهما سوى أقل القليل من موظفي مكتبهما، وكانا يجتمعان في مبنى واحد يكفي للجهتين معاً، بينما التوسع الذي حصل أخيراً من زيادة أعداد الموظفين والقضاة في المجلس الأعلى للقضاء ما بين مستشارين ومفتشين على وظائف قضائية وموظفين، وكذا في ديوان المظالم، وبالتالي فهل يبقى من المصلحة انتقال كل هذا العدد منهم للعمل في الطائف صيفاً، بحيث أصبح الأمر يبدو وكأنه ميزة يتمتع بها قاض أو موظف، ويحرم منها زميلٌ آخر مماثلٌ له في الرتبة أو أعلى منه، وغالباً ما يكون المحروم أكثر عبئاً ومعاناة في العمل من الزميل المنتدب.
ومن هذا المنطلق، فإن أي مال تصرفه الدولة على تحسين أحوال قضاتها وإعفافهم وكفايتهم عما في أيدي الناس، إنه مال صرف في أهم أوجه المصالح ولا يخفى ما له من آثار على تحسين مرفق العدالة وأداء القضاة وتحفيزهم على العمل والجد، وهذا ما يطالب به كل منصف يعلم أحوال القضاة وما يحتاجون إليه من التفاتة جادة إلى تحسين مستوياتهم المالية التي أصبح كثير من شرائح المجتمع، خاصة من العاملين في القطاع الخاص أفضل من القضاة بكثير في هذا الجانب، ولا أطالب بمساواتهم لأن من المعلوم أن القطاع الخاص يبقى أكثر دخلاً في الغالب من القطاع العام، ولكن أؤكد أهمية تحسين أوضاع القضاة المعيشية، وقضاء أهم حوائجهم المادية لمصلحة العدل أولاً وأخيراً لا لمصالح القضاة الشخصية.
أقول مع أن ذلك مطلب شرعي إلا أن ما يصرف من أموال طائلة على انتداب الجهات العدلية في الصيف إلى الطائف لا يمكن أن ينظر إليه من هذه الزاوية، بل هو أقرب إلى الهدر منه إلى التصرف الرشيد ومقتضيات المصلحة، فإذا أردنا البذل المالي للقضاة فإنه من الضرورة التسوية بينهم في العطية، كما يسوي الوالد بين أولاده، بل أشد، لأن الأمة ترجوا من القضاة من العدالة أكثر مما يُرتجى من بر الولد لوالده، وبالتالي فليت هذه الأموال يتم توزيعها بعدالة بينهم وفق آلية واضحة حتى ولو كانت مكافأة موسمية كل صيف مقابل بقاء القاضي يكدح ويكابد في محكمته في شدة حر الصيف، والناس يذهبون يمنة ويسرة إلى المصائف داخل المملكة وخارجها.
إني أضع هذه الإشكالات والتساؤلات على طاولة معالي وزير العدل لأن وزارته هي المعنية بالدرجة الأولى بالنواحي المالية والإدارية للمرفق العدلي بفروعه المختلفة في المملكة، وهي المسؤولة عن صرف ما خصصه خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – من ميزانية ضخمة لتطوير مرفق القضاء، وليسمح لي معالي وزير العدل برحابة صدره المعهودة أن أوجه إليه سؤالاً منطلقه المصلحة العامة:
هل صرف ملايين الريالات على نزهة صيفية لقضاة وموظفي وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء ومحاكم الاستئناف؛ هل ذلك أقرب لمصلحة المرافق القضائية؟ أم أن الأجدر بها أن تصرف في رفع مستوى مباني وزارة العدل التي تعاني سوء التجهيزات ومن قلة الموظفين وضعف كفاءتهم، وتحقيق ما وعدتم به من خطوات إصلاحية في كلمتكم التي سبق لي استعراض مضامينها في هذه الصحيفة التي تتطلب ميزانية لم يبخل بها خادم الحرمين الشريفين – حفظه الله – على وزارة العدل، وما من شك أنكم، وجميع منسوبي الجهات العدلية مسؤولون أمام الله أولاً ثم أمام خادم الحرمين الشريفين والمواطنين عن حسن التصرف في هذه الأموال وتخصيصها للأهم ثم المهم، وفقاً لما يفرضه فقه الأولويات.
وختاماً، أؤكد ثقتي بأن أصحاب الفضيلة والمعالي قادة المرافق القضائية أكثر مني حرصاً على المصلحة العامة، وأوسع مني نظراً في سبل تحقيقها إلا أن من واجبنا جميعاً التواصي بالحق والذكرى تنفع المؤمنين.
اترك تعليقاً