تمّيـز الدعوى الجنائية عن غيرها من الدعاوى
المؤلف : فاضل عواد محميد الدليمي
الكتاب أو المصدر : ذاتية القانون الجنائي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
للدعوى الجنائية بذاتية معينة نظراً لأهمية الموضوع الذي ترتكز عليه، وهو إقرار حق الدولة في العقاب واحترام الحرية الفردية، وهذه الذاتية تبدو واضحة إذا تمت المقارنة بين الدعوى الجنائية وغيرها من الدعاوى (المدنية والتأديبية)، فتكشف المقارنة عن وجود بعض القواعد المشتركة التي تحكم الدعويين هذا من جهة، وعن اختلافهما بعد ذلك خلافاً عميقاً يبرز لنا ذاتية الدعوى الجنائية في كثير من الوجوه من جهة أخرى، ولدقة الفصل بين الدعوى النائية وغيرها من الدعاوى، فقد تم بحث العلاقة بين الدعوى الجنائية والدعوى المدنية في فقرة أولى وعلاقتها بالدعوى التأديبية في فقرة ثانية.
أولاً: أوجه الارتباط والاختلاف بين الدعوى الجنائية والدعوى المدنية
غالباً ما تصيب الجريمة بالضرر المادي أو المعنوي حقين أولهما حق من إصابة ضرر الجريمة سواءاً أكان المجني عليه أم المدعي بالحق المدني، والثاني هو الحق العام(حق المجتمع) الذي يصان عن طريق الدعوى الجنائية، في حين تكون الدعوى المدنية الوسيلة التي يصان بها الحق الشخصي لمن أصابه ضرر من الجريمة(1)، ولهذا فإن هناك بعض قواعد الارتباط بين الدعويين، ولكن هذه القواعد لا تعطي للدعوى المدنية أية ميزة من شأنها المساس بذاتية الدعوى الجنائية والتأثير على طبيعتها، بل العكس هو الصحيح، فعلى الرغم من وجود الأساس القانوني للدعويين الجنائية والمدنية وهو الجريمة، إلا أن الدعويين مع ذلك تختلفان في جملة أمور تقتضيها عليها طبيعة كل منهما.
أوجه الارتباط بين الدعويين
تعد الجريمة هي الأصل المشترك للدعوى الجنائية والدعوى المدنية المرتبطة بها، ومن شأن هذا الأصل أن يؤثر على العلاقة بين الدعويين ويترتب عليه ارتباط بينهما من بعض الوجوه، فالمدعي في الدعوى المدنية الناشئة عن الجريمة له الخيار في رفعها أمام المحكمة المدنية أو المحكمة الجنائية التي تنظر الدعوى الجنائية فتنقل الدعوى المدنية من قضائها المختص بها أصلاً إلى القضاء الجنائي تبعاً للدعوى الجنائية(2)، فله أن يتدخل في الدعوى الجنائية التي أقامها الادعاء العام مطالباً بتعويض ما لحقه من ضرر إزاء ارتكاب الجريمة، بل له أكثر من ذلك حيث أجاز له القانون في جرائم الجنح والمخالفات في حالة أحجام الادعاء العام عن رفع الدعوى الجنائية أن يحرك هذه الدعوى أمام المحكمة الجنائية وذلك بمطالبة المتهم أو المسؤول المدني عن طريق المحكمة بتعويضه، ومن هذا فإن المدعي المدني يقوم بدور خطير في الدعوى الجنائية، فإذا تدخل فيها أصبح إلى جانب الادعاء العام مؤيداً له في اتهام مرتكب الجريمة، أما إذا حركها فإنه يفعل لك لتغافل الادعاء العام عن رفع الدعوى ويعد هنا شبه رقيب عليها، لكن دوره هنا يقف عند تحريك الدعوى الجنائية، فهو وإن كان إلى جانب الادعاء العام في الاتهام لكنه لا يستطيع أن يذهب بالدعوى الجنائية إلى أقصى الحدود، لأن استعمال هذه الدعوى ومباشرتها محصوراً بالادعاء العام وحده، كما أن طعنه في الحكم الابتدائي الذي يصدر في الدعويين يكون قاصراً على الحكم في الدعوى المدنية، أما الطعن في الحكم الصادر في الدعوى الجنائية يكون من اختصاص الادعاء العام(3).
ويظهر الارتباط بين الدعويين أيضاً عندما تطغى الدعوى الجنائية وتستوعب الدعوى المدنية، فيتعين على المحكمة المدنية أن توقف الفصل في الدعوى المدنية حتى يحكم في الدعوى الجنائية نهائياً(4)، وهذا ما نصت عليه المادة (26) الأصولية. كما أن الحكم الجنائي الصادر من المحكمة الجنائية في موضوع الدعوى الجنائية بالبراءة أو الإدانة له قوة الشيء المحكوم فيه أمام المحاكم المدنية في الدعاوى التي لم يتم الفصل فيها بشكل نهائي فيما يتعلق بوقوع الجريمة ونسبتها إلى فاعلها(5)، وعلى العكس من ذلك فالأحكام الصادرة من المحاكم المدنية لا يكون لها قوة الشيء المحكوم به أمام المحاكم الجنائية فيما يتعلق بوقوع الجريمة أو نسبتها إلى فاعلها. وعلى الرغم من توافر أوجه الارتباط الظاهرة بين الدعويين الجنائية والمدنية عندما تستند كلا الدعويين على فعل جرمي يترتب عليه ضرر اجتماعي (جريمة) وضرر خاص (مدني)، فإن هناك شرائع لبعض الدول قد فصلت بين الدعويين فصلاً يكاد أن يكون تاماً، ومنها القوانين الجرمانية والقوانين الانجلوسكسونية، فالقانون الألماني لا يجيز رفع الدعوى المدنية إلى جانب الدعوى الجنائية إلا في حالات محددة تنحصر بالاعتداء على جسم المجني عليه والتدخل في الدعوى الجنائية بطلب ترضية خاصة تشبه العقوبة وتسمى (Busse)(6)، كذلك هو الحال في هولندا فلا يجوز للمدعي المدني التدخل في الدعوى الجنائية إذا طالب بتعويض يزيد عن (150) فلورينا، أما في الدول الانجلوسكسونية فالدعوى المدنية منفصلة تماماً عن الدعوى الجنائية، فهي لا ترفع إلا أمام المحاكم المدنية قبل أو أثناء أو بعد رفع الدعوى الجنائية، على أن تحريك الدعوى الجنائية من حق كل مواطن(7).
الاختلاف بين الدعويين
تتميز الدعوى الجنائية بذاتية خاصة لا يستقيم معها التصور المعطى للدعوى المدنية إذ أن الدعوى المدنية هي الحق في الحصول على الحماية القضائية لأعمال حق شخصي، في حين أن الدعوى الجنائية هي مطالبة الادعاء العام إلى القضاء باسم المجتمع بتوقيع العقاب على المتهم إذا ثبتت إدانته، فمن يهيمن على الدعوى الجنائية ليس هو المجني عليه أو المتضرر من الجريمة مباشرةً وإنما هو المجتمع متمثلاً بالادعاء العام، تحقيقاً لهدف عام وهو تطبيق حكم القانون وليس تحقيقاً لهدف شخصي كما هو الحال في الدعوى المدنية(8).
فمن حيث السبب نجد أن سبب الدعوى الجنائية هو الجريمة التي تشكل اعتداءاً على امن المجتمع واستقراره، أما السبب المباشر للدعوى المدنية هو الضرر المتولد عن هذا الاعتداء(9)، ومن حيث الخصوم وسلطتهم في الدعوى فإن الخصم في الدعوى المدنية هو المتضرر من الجريمة وهو صاحب الحق المدين به أو من يمثله قانوناً، أما في الدعوى الجنائية فإن الخصم فيها يكون إضافة للمجني عليه الادعاء العام على الرغم من كونه خصم من طبيعة خاصة، وذلك لأن الادعاء العام في العراق يراقب المشروعية باسم المجتمع من مرحلة تحريك الدعوى الجنائية حتى انتهائها وهو بهذا الوصف أسمى من أن يكون مجرد خصم في الدعوى الجنائية(10)، لهذا فإن الادعاء العام يمتلك سلطات لا يملكها الخصم في الدعوى المدنية مثل سلطة القبض والتفتيش والتوقيف، أما الخصم المدني فإنه يتكافأ في سلطته مع الطرف الآخر للنزاع(11)، ولتعلق الدعوى الجنائية بمصلحة المجتمع فلا يملك الادعاء العام أن يتصالح مع المتهم ولا أن يتنازل عن الدعوى، إلا في حالات استثنائية أجاز فيها القانون للمجني عليه التصالح مع المتهم في الجرائم التي يتوقف تحريكها على شكوى م(194، 195) من قانون أصول المحاكمات، بينما تتعلق الدعوى المدنية بمصلحة شخصية لذلك يكون للمضرور من الجريمة التصالح مع المتهم و العدول عن مباشرة دعواه. كما تختلف الدعوى الجنائية عن الدعوى المدنية من حيث سيرها، فالأصل في الدعوى المدنية أن تقوم على مرحلة واحدة منذ بدايتها حتى نهايتها وإن تعددت إجراءاتها، هذا بخلاف الدعوى الجنائية حيث أنها تقوم في أغلب الأحوال على عدة مراحل وهي تبدأ بالتحري وجمع الاستدلالات والتحقيق الابتدائي والإحالة ثم التحقيق القضائي من قبل محكمة لموضوع ومن ثم يصدر الحكم فيها وينفذ، وقد اقتضى هذا التعدد في مراحل الدعوى الجنائية أن تتعدد الأجهزة القائمة فيها، فسلطة الضبط القضائي تباشر مرحلة جمع الاستدلالات والادعاء العام يباشر مرحلة الاتهام ويباشر قاضي التحقيق سلطة التحقيق الابتدائي والإحالة أما المحكمة فتباشر مرحلة التحقيق القضائي ومن ثم إصدار الحكم أو القرار في الدعوى. يضاف إلى ذلك أن قواعد الإثبات في الدعوى الجنائية تختلف عن نظيرتها في الدعوى المدنية، فمبدأ الإثبات الحر (الاقتناع القضائي) يحكم الدعوى الجنائية كقاعدة عامة، بينا مبدأ الإثبات المقيد (الأدلة القانونية) هو ما يحكم الدعوى المدنية(12)، فالدعوى المدنية لا تهتم بحسب الأصل بشخصية المدعى عليه إلا في الحالات التي يقتضي فيها تحديد الحق الأخذ بنظر الاعتبار ظروف المدعى عليه، كما في نظرية الظروف الطارئة، وفي الدعاوى التي ترفع لتعيين القيم أو الوصي، فالقاضي المدني يصدر حكمه وفقاً للقانون دون عبرة بمدى ملاءمة الحكم لشخصه، هذا بخلاف الدعوى الجنائية فالقاضي لا يحاكم الجريمة بل يحاكم المجرم وهو ما يقتضي الاحاطة بظروف المجرم وملامح شخصيته ثم تقدير العقوبة وفقاً لهذه الظروف(13).
كما أن الادعاء العام بوصفه طرفاً في الدعوى الجنائية لا يتصرف على أساس أنها ستعود عليه بمصلحة خاصة، وإنما يخضع لمقتضيات الواجب الملقى عليه باحترام القانون فلا يعرف كسب الدعوى أو خسارتها، بل عليه واجب تحقيق المصلحة العامة الذي قد تكون في براءة المتهم، وهذا ما تختلف به عن الدعوى المدنية التي لا يهدف فيها الفرد إلى غير تحقيق مصلحته الخاصة بكسب دعواه(14). وأخيراً فإن الدعوى الجنائية لا تقام إلا أمام المحاكم الجنائية فحسب، أما الدعوى المدنية فقد تقام أمام المحاكم المدنية، كما قد تقام أمام المحكمة الجنائية بالتبعية للدعوى الجنائية، كما أن كلاً منها تختلف عن الأخرى في طريقة انقضائها، فالدعوى الجنائية تنقضي بوفاة المتهم أو التقادم أو العفو العام أو وقف الإجراءات القانونية أو صدور حكم نهائي فيها أو إلغاء القانون الذي يعاقب على الجريمة، كما قد تنقضي بالتنازل أو الصلح في الحالات الخاصة التي حددها القانون، أما الدعوى المدنية لا تنقضي إلا بالتقادم الخاص بها والتنازل أو الترك وصدور حكم فيها، لذا فإن من الطبيعي أن تبقى الدعوى الجنائية قائمة دون الدعوى المدنية أو بالعكس حتى وإن أقيمتا معاً.
ثانياً: الدعوى الجنائية والدعوى التأديبية
إن الدعوى التأديبية هي التي ترفعها هيئة أو دائرة على أحد الأفراد المنتسبين إليها بسبب إخلاله بواجب خالف فيه النظام القانوني المتبع من قبل تلك الهيئة أو الدائرة وتبغي من وراء ذلك مجازاته عما وقع منه في حقها من خلل، بصرف النظر عن كون الفعل المنسوب إليه يعد جريمة بموجب قانون العقوبات أم لا(15). وهذه الدعوى تختلف عن الدعوى الجنائية في عدة أوجه، فهي لا ترفع إلا بناء على طلب الجهة المنتسب إليها الموظف المقامة عليه، وتتم إجراءات التحقيق (والمحاكمة) أمام هيئة يتم تحديدها وتشكيلها على وجه معين، وهذه الهيئة (مجلس الانضباط أو مجلس التأديب) ليس لها صفة قضائية، على أنه قد يوجد محكمة إدارية تفصل في هذه الدعوى، كما إن الجزاءات التي توقع على من تقام عليه وثبت ادنته من نوع خاص غير ما جاء في قانون العقوبات(16). وإجراءات الدعوى التأديبية لا أثر لها على الدعوى الجنائية، فمحاكمة الموظف تأديبياً لا تمنع من محاكمته جنائياً إذا كان الفعل المسند إليه يكون جريمة يعاقب عليها قانون العقوبات(17)، كما أن الحكم بالعقوبة الجنائية لا يمنع من رفع الدعوى التأديبية بسبب ذات الفعل، بل أن صدور الحكم الجنائي بثبوت الجريمة يكون سبباً أقوى لتحريك الدعوى التأديبية، يضاف إلى ذلك أن هناك رأي يذهب إلى أن السير في الدعوى الجنائية يوجب إيقاف الدعوى التأديبية المرتبطة بها حتى يتم الفصل فيها نهائياً، على أساس حجية الحكم الجنائي على الدعوى التأديبية. وهنا بروز آخر لذاتية الدعوى الجناية في مواجهة الدعوى التأديبية.
__________________
1- ينظر: جواد الرهيمي، أحكام البطلان في قانون أصول المحاكمات الجزائية، المكتبة الوطنية، بغداد 2003، ص112.
2- ينظر: د. علي زكي العرابي باشا، المبادئ الأساسية للإجراءات الجنائية، ج1، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1951، ص13.
3- ينظر: د. عدلي عبد الباقي، شرح قانون الإجراءات الجنائية، ج1، المطبعة العالمية، القاهرة 1951، ص21.
4- ينظر في ذلك ص75-76 من الرسالة (الفصل الثالث).
5- ينظر في ذلك ص70-71 من الرسالة من هذا الفصل.
6- وهي غرامة مالية يجوز للمحاكم الجنائية أن تحكم بها في جرائم السب والبلاغ الكاذب إذا ترتب على الجريمة ضرر مالي أو كان من شأنها التأثير على المركز الاجتماعي للمجني عليه أو مستقبله، كما أن الحكم بها جائز أيضاً في جرائم الغش والاعتداء على النفس، وفي جميع الأحوال لا يمكن للمحكمة أن تحكم على المجني بغرامة تزيد عن (2000) مارك، ينظر في ذلك: د. عدلي عبد الباقي، المرجع السابق، هامش رقم 1، ص22.
7- ينظر: د. عدلي عبد الباقي، المرجع السابق، ص22-23.
8- ينظر: د. سليمان عبد المنعم، د. جلال ثروت، أصول المحاكمات الجزائية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1996 ص349، جواد الرهيمي، أحكام البطلان في قانون أصول المحاكمات، المرجع السابق، ص113، د. رضا حمدي الملاح، ذاتية الدعوى الجنائية، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق/جامعة القاهرة، 2003، ص104.
9- ينظر: د. فوزية عبد الستار، شرح قانون الإجراءات الجنائية، دار النهضة العربية، القاهرة 1986، ص44.
10- ينظر: جواد الرهيمي، أحكام البطلان في قانون أصول المحاكمات، المرجع السابق، ص113.
11- ينظر: د. أحمد فتحي سرور، نظرية البطلان في قانون الاجراءات الجنائية ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة 1959، ص38.
12- ينظر: د. سليمان عبد المنعم و د. جلال ثروت، المرجع السابق، هامش ص350.
13- ينظر: د. أحمد فتحي سرور، اصول قانون الاجراءات الجنائية، دار النهضة العربية، القاهرة 1969بق، ص38.
14- ينظر: د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون الاجراءات الجنائية، المجلد الاول ، دار النهضة العربية، القاهرة 1981، ص35-36، ولنفس المؤلف، أصول قانون الإجراءات الجنائية، المرجع السابق، ص35.
15- ينظر: د. علي زكي العرابي باشا، المبادئ الأساسية للإجراءات الجنائية، الجزء الأول، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1951، ص13.
16- ينظر: د. حسن صادق المرصفاوي، أصول الإجراءات الجنائية، منشأة المعارف، الإسكندرية 1972، ص22.
17- ينظر: د. حسن صادق المرصفاوي، أصول الإجراءات الجنائية، المرجع السابق، ص22.
اترك تعليقاً