ما هو المفهوم القانوني للدستور ؟
الدستور
الدستور:
عُرف الدستور بالإجمال أنه: «مجموعة القواعد التي تنظم تأسيس السلطة وانتقالها وممارستها، أي تلك التي تتعلق بالتنظيم السياسي». أو أنه «وثيقة أساسية أقرتها سلطة خاصة وفق إجراءات خاصة لتحديد وتنظيم شؤون الحكم وعلاقته مع المواطنين».
تختلف الدساتير وتتعدد أنواعها باختلاف الزاوية التي ينظر منها إلى تلك المجموعة التي تبين نظام الحكم ومظاهره في الدولة.
على أن أهم التقسيمات التي ينتهجها الفقه الدستوري في شرح أنواع الدساتير تنطلق من زاويتين، تتعلق الأولى بالكتابة وتُميز بين دساتير مكتوبة وعرفية، والثانية تتعلق بالثبات أو التعديل وتميز بين دساتير جامدة ومرنة.
1- الدساتير المكتوبة والدساتير العرفية: كانت الأنظمة الدستورية قديماً بكليتها عرفية، ثم أخذت الشعوب تنتزع السلطة من حكامها انتزاعاً، وتضطرهم إلى إصدار الوثائق القانونية المكتوبة التي تضمن حرية الشعب وتكفل مشاركته في السلطة، وكانت هذه الوثائق مقصورة على ما يواجه النزاع بين الحاكم والمحكومين.
والدساتير العرفية constitution coutumiéres: هي الأحكام المتعلقة بتنظيم السلطات العامة وحريات الأفراد مما لم ينص عليه في قانون مكتوب، وإنما في التقاليد والأعراف والسوابق.
والدساتير المكتوبة constitution ecrites: هي الدساتير المدونة والموضوعة من قبل سلطة تأسيسية مخصوصة لذلك، سواء صدرت بوثيقة واحدة، أو عدة وثائق.
وقد أحاطت بكلا النوعين اعتبارات ومزايا متباينة:
فالفقيه الألماني أيسمن Aiesman، يحدد أبرز الاعتبارات التي تدعو إلى كون الدستور مكتوباً بما يأتي:
ـ القانون المكتوب أفضل دائماً من العرف، ولذلك فإن الأحكام الدستورية، وهي أخطر القواعد الحقوقية يجب أن تكون مكتوبة.
ـ إن الدساتير أملتها السيادة القومية فهي في الواقع تجديد للعقد الاجتماعي، أو تعديل لبنوده، وينبغي أن تعرف هذه التعديلات بوضوح عبر الكتابة.
ـ إن الدساتير المكتوبة المنسجمة والواضحة هي أفضل طريقة لتعميم التربية السياسية في البلاد حيث يعرف المواطنون حقوقهم وواجباتهم.
ـ إن الأعراف تكون في بدء نشأتها مضطربة غامضة، أما الكتابة فتمتاز بالصراحة والوضوح، ويضطر الحكام بالتالي للتقيد بالنصوص الدستورية المكتوبة، أما الأعراف فيسهل التهرب منها والتحايل عليها.
ويجدر بالذكر هنا أن أول دستور مكتوب في العالم كان دستور فرنسة عقب ثورتها الكبرى وقد صدر في 3 أيلول 1791م.
أما دُعاة الدساتير العرفية فقد حددوا مزاياها بأنها ليست من صنع رجل أو مجلس، ولكنها من صنع التاريخ والوسط السياسي، فهي تنشأ معه، وتنمو مُتّبعةً سُنّة التدرج والارتقاء، كما أن هذه المرونة تستتبع الاستقرار، لأن التطور الهادئ الذي يحققه العرف من شأنه أن يكفل للمؤسسات السياسية استقراراً لا تستطيع الكتابة كفالته.
يبقى القول إن التمييز بين دساتير مكتوبة ودساتير غير مكتوبة، تقسيم نسبي فما من دستور إلا ويشمل أحكاماً مكتوبة وأخرى غير مكتوبة، فالدستور الإنكليزي نموذج الدستور العرفي في العالم، يشمل وثائق رسمية هامة، اعتبرت جزءاً لا يتجزأ منه، كالعهد الأعظم Magnacharta لعام 1215م، ووثيقة الحقوق Bill of rights لعام 1698م.
2- الدساتير الجامدة والدساتير المرنة: ومناط هذا التمييز ما يعرف بالسمو الشكلي للدستور، الذي يكرس تفوق الدستور من الناحية الشكلية، ويجسد قدسيته وقيمته القانونية بإخضاع إصداره وتعديله لبعض القيود الشكلية تجعل المساس به أمراً عسيراً وكسبه بالتالي استقراراً خاصاً.
أما الدساتير المرنة constitution souples فهي التي يخضع تعديلها إلى ذات الإجراءات التي يجب اتباعها لتعديل القوانين العادية، فهذه الدساتير تستطيع الهيئة التشريعية بيسر وسهولة تعديلها أو إبطالها، وخير مثال لها الدستور الإنكليزي الذي يقوم على ضروب من الأعراف والسوابق والذي كثيراً ما يطالبه البرلمان بالتعديل، حتى قيل إن البرلمان الإنكليزي قادر على فعل كل شيء إلا أن يقلب الرجل امرأة.
لكن هذا لا يعني أن ثمة تلازماً بين الدستور العرفي، ومرونة الدستور أو جموده فالدساتير المرنة يمكن أن تكون مكتوبة ويمكن أن تكون عرفية.
كما أنه من الدساتير المرنة، الدساتير المكتوبة التي سكتت عن أسلوب تعديلها فعدم النص على آلية التعديل يفيد بإمكان تحقيقه كالقوانين العادية.
أما الدساتير الصلبة أو الجامدة constitution rigides وهي الطاغية في دول العالم فهي تلك التي لا يمكن تعديلها أو تنقيحها إلا باتباع إجراءات خاصة أكثر شدة وتعقيد من تعديل القوانين العادية.
ولابد من الإشارة إلى أن صلابة الدستور لا تعني خلوده، فالغرض الأساسي من هذه الصلابة، كفالة الاستمرار والاستقرار للأحكام الدستورية، والنأيُ بها عن الأهواء السياسية والحزبية في المجالس التشريعية، بالنظر لخطورتها وعُلوها على سواها من قواعد قانونية، فالدستور من الناحية الحقوقية، قانون، والقانون بطبيعته صك دائم التطور، ومن الناحية السياسية يحدد تنظيم الدولة في ظروف سياسية واجتماعية معينة ومتى تعدلت هذه الظروف وجب تعديل أحكامه.
وقد جاء في دستور فرنسة الأول لعام 1791م: «أن الأمة لها الحق الذي لا يَبْلى في تغيير دستورها، لكن وفق الشكل الذي نص عليه الدستور».
ومع تقرير مبدأ تعديل الدساتير الصلبة بإجماع الفقه، بدر الخلاف حول السلطة المخولة هذا التعديل، فقد أنكر بعضهم وأشهرهم ڤاتيل Vattelعلى أعضاء الهيئة التشريعية أن يعدلوا الدساتير، لأن المشترعون الأعضاء، يستمدون سلطتهم من الدستور ولا يستطيعون تعديله إلا بتهديم أساس سلطتهم، وقال آخرون: إن التعديل صلاحية معقودة للسلطة التي يعينها الدستور، وثم من قال بأن الأمة تستطيع تعديل الدستور متى أرادت لأنها غير مقيدة بشيء وتستطيع أن تتجاوز الأشكال التي يعينها الدستور، وبما أن المجالس التشريعية تقوم مقام الأمة وتمثلها، فلها حق تعديل الدستور.
وقد ميز الفقه الدستوري في الدساتير الصلبة بين نصوص يُحظر تعديلها إطلاقاً، ونصوص تقبله بشروط خاصة.
أساليب وضع الدستور
يرتبط ذلك إلى حد كبير بظروف تاريخية من ناحية، وبمدى تبني أسس الديمقراطية[ر] واستقرارها من ناحية أخرى، كما أن هذه الظروف التاريخية والأسس الديمقراطية مرتبطة بفكرة السيادة في الدولة وتحديد صاحبها الحقيقي.
وتقسم أساليب وضع الدستور إلى طائفتين:
1- الأساليب غير الديمقراطية: وهي التي لا يقوم الشعب فيها بوضع الدستور إنما يقوم الحاكم بوضعه منفرداً(منحة) أو بالاشتراك مع الشعب (عقد).
أ ـ المنحة: وفيها يتنازل الحاكم عن بعض سلطاته إلى شعبه، وفي هذه الحالة يكون الدستور الناجم عن هذا التنازل وليد إرادة منفردة للحاكم، وغالباً ما يأتي هذا التنازل نتيجة ضغط شعبي واسع، ومن أمثلته دستور «موناكو» عام 1812م ودستور «مصر» لعام 1923م، والقانون الأساسي لشرق الأردن لعام 1928م.
ويتسم هذا الأسلوب بأنه نهائي فيما نجم عنه بمعنى أنه «لا يجوز سحب أو استرداد الدستور الممنوح من الحاكم لصالح الشعب أو انتقاصه، لأن التنازلات المتضمنة في المنحة قد أصبحت حقوقاً مدنية للشعب، ولا يجوز المساس بها أو الاعتداء عليها، وهي للأمة، وليست حقوقاً جديدة يتفضل بها الحاكم، وإنما إعادة لحقوق طبيعية للأمة كانت محرومة منها».
ب ـ العقد: وقد كان هذا الأسلوب خطوة إلى الأمام تجاه الديمقراطية حيث ينشأ الدستور فيه باتفاق بين الحاكم والأمة، وتظهر فيه إرادة الأمة إلى جانب إرادة الحاكم، ويتجسد هذا الأسلوب بإقدام الأمة على انتخاب جمعية تأسيسية لوضع مشروع الدستور الذي يعرض في خطوة تالية على الحاكم ليوافق عليه ويصدقه ويصبح نافذاً، أو قد تعهد الأمة إلى ممثليها في المجلس التشريعي المنتخب بإعداد مشروع الدستور ليعرض على الحاكم فيما بعد للموافقة، وقد تستفتى الأمة بطريقة مباشرة على مشروع دستور ليجري رفضه أو إقراره فإذا ما رفضه الشعب أُلغي برمته، وإذا ما لاقى القبول وجبت له مصادقة الحاكم كي ينفذ.
2- الأساليب الديمقراطية: وتشتهر بأسلوبين رئيسين:
أ ـ أسلوب الجمعية التأسيسية: assemblee constituante ومضمونه أن يقوم الشعب بانتخاب هيئة خاصة تتولى وضع الدستور باسمه ونيابة عنه دون أن يتوقف ذلك على تصديق أو موافقة أحد آخر. ولا شك أن انتخاب أعضاء هذه الهيئة أو الجمعية هو العنصر الجوهري في اعتبارها تأسيسية وصالحة لوضع الدستور، هذا وينتهي عمل الجمعية بانتهاء مهمتها في صياغة الدستور وإقراره، ومن أمثلة هذا الأسلوب الدستور السوري لعام 1950م ودستور اليابان لعام 1947م والدستور الاتحاد الأمريكي عام 1787م.
ب ـ أسلوب الاستفتاء الشعبي le referendum: وفيه يباشر الشعب بنفسه سلطاته من دون مشاركة أحد، ومعناه أن يتولى الشعب وحده الموافقة أو عدمها، على مشروع دستور معين «فإذا وافق عليه يصبح نافذاً ذا قوة قانونية بغض النظر عن الجهة التي قامت بصياغته وإعداده سواء كانت هيئة تمثيلية أو لجنة فنية أو حكومية أو فرداً واحداً».
ويتميز هذا الأسلوب من أسلوب الجمعية التأسيسية وغيرها في أن للشعب الكلمة الأولى والأخيرة وبشكل مباشر في تقدير مصير مشروع الدستور الذي يُعرض عليه.
العرف الدستوري وعلاقته بالدستور
غالباً ما يكون الدستور المكتوب من عمل الفقهاء والمُنَظّرين المهتمين بالبلاغة القانونية والتوازن الشكلي، أكثر من اهتمامهم بفعالية الدستور العلمية، ولذلك تُظهر الحياة السياسية ما هو اصطناعي في الدستور، وتؤدي إلى إدخال بعض الاستعمالات والعادات التي تكمل الدستور أو تعدله، وهذا ما يدعى بالعادة أو العرف الدستوري lacoutume constitutionelle الذي يتميز من الدستور العرفي بأنه لا يقوم إلا في البلاد التي تنتهج دستوراً مكتوباً، أما الدستور العرفي فيتكون بُرمته من مجموعة أعراف وسوابق تنظم عمل السلطات العامة، وحقوق وواجبات المواطنين، فالعرف الدستوري «اصطلاح يُطلق على الأوضاع التي دَرَجت السلطات العامة على انتهاجها في مزاولة منفصلة لنشاط معين يتصل بمسألة دستورية، وينشأ من تكرار هذا السلوك على مر الزمن قاعدة غير مكتوبة يكون لها قوة القاعدة الدستورية».
تختلف الرقابة على دستورية القوانين في طبيعتها بين رقابة سياسية ورقابة قضائية:
1- الرقابة السياسية: وهي التي تتولاها هيئة سياسية بمعنى الكلمة، تحت حجة أن الرقابة على دستورية القوانين وإن كانت قانونية في موضوعها، إلا أنها سياسية في نتائجها، كما أن الهيئة التي ستضطلع بنظر القوانين والحكم عليها بالإلغاء أو النفاذ وفقاً لدستوريتها ستكون في مركز الصدارة في الدولة ومثل هذه الهيئة لا بد أن تكون سياسية.
وقد طبقت هذه الرقابة للمرة الأولى في دستور السنة الثامنة للثورة الفرنسية (دستور 1793م) بإنشاء مجلس الشيوخ الخاص بحماية الدستور، لكنها باءت بالإخفاق لوقوع المجلس أداة طيّعة في يد الامبراطور آنذاك.
ويؤخذ حالياً بها وبشكلٍ جزئي في فرنسة (دستور 1985م) عن طريق المجلس الدستوري الذي تنحصر سلطته في رد القانون إلى البرلمان في حال عدم دستوريته لتعديله، وإلا يُعرض على الشعب لاستفتائه في قبول التعديل أو رفضه.
2- الرقابة القضائية: وهي الأشهر والأجدى بحسبان أن الرقابة عمل قانوني في جوهره، وليس يجاري القضاء في هذا العمل أي سلطة أخرى، لأن تكوين القاضي يدفعه إلى عدم التحيّز كما أن الإجراءات القضائية بما يتوافر لها من علانية، وما تحتمه من تبادل اللوائح وتعليل الأحكام توفر الضمانات للوصول إلى حكمٍ عادل في القانون موضوع الرقابة.
ويجدر بالذكر أن هذه الرقابة كانت ابتكاراً أسلفه القاضي الأمريكي مارشال Marshal عام 1852م مقيماً إياها على أساس «أن الحق ناشئ عن تمازج فكرتين سلطان القضاء ومبدأ سيادة الدستور، ومهمة القضاء هي تطبيق القانون في القضايا المعروضة عليه، فإذا وجد في حكم قضية معروضة، تنازعاً بين نص دستوري ونص قانوني وجب على القاضي أن يطبق أحد النصين، وبما أن النص الدستوري هو الأعلى وجب تطبيقه وإعماله».
والرقابة القضائية قد تنعقد صلاحيتها للقضاء العادي كما هي الحال في الولايات المتحدة، أو لقضاء خاص من هيئة خاصة تدعى المحكمة الدستورية أو المجلس الدستوري كما هي الحال في فرنسة.
انتفاء الرقابة
هناك دول غيبت من نظمها القانونية مبدأ الرقابة على دستورية القوانين بذريعة أن ليس للمحاكم حق تقدير دستورية القوانين من عدمها وأن وظيفتها هي تطبيق القوانين لا الحكم عليها، وأبقت على بعض الصيغ التي تعبر عن ضرورة احترام الدستور في القوانين قبل إقرارها، كما هو الأمر في سورية حيث تنظر المحكمة الدستورية بمشروعات القوانين المحالة عليها من مجلس الشعب لتبت دستوريتها دون أن يكون لرأيها إلزام على مجلس الشعب ومن الدول التي تنتفي فيها الرقابة الدستورية تونس والعراق والأردن.
انقضاء الدساتير
تنتهي الدساتير عادة بأحد الأسلوبين:
1- الأسلوب العادي أو القانوني: ويقصد به إلغاء الدستور وانتهاء العمل به بهدوء وبغير عنف والاستعاضة عنه بدستور آخر جديد، وهذا يجب أن يتم وفقاً للأصول والإجراءات التي يتم بها إنشاء الدستور بإجماله، لا تعديله إذ يمتنع على السلطة التي تملك تعديل الدستور جزئياً، أن تعدله كلياً وتلغيه، لأن حق التعديل الكلي للدستور وإلغاؤه لا يملكه إلا الأمة، فالأمة وحدها التي تستطيع إلغاء الدستور باعتبارها صاحبة السيادة في الدولة.
2- الأسلوب الواقعي أو الثوري: وهو الأوسع انتشاراً ويتم بالثورة أو الانقلاب وهما ظرفان واقعيان يختلفان سياسياً في حقيقتهما، ذلك أن الانقلاب يقوم به أحد ذوي النفوذ أو السلطان في الدولة كإجراء يهدف إلى تغيير في شؤون الحكم دون اتباع لأحكام الدستور. أما الثورة فهي حركة اجتماعية مفاجئة تتحقق بقوة الشعب من غير مراعاة الأشكال القانونية الموضوعة، وتستهدف إقامة نظام قانوني يحل محل نظام آخر.
ورغم هذا الاختلاف السياسي بين طرفي الانقلاب والثورة فهما من الوجهة الدستورية مفهوم واحد في أثرهما على إنهاء الدساتير، وهذا ما حدا بالفقه الدستوري إلى توحيد الاصطلاح عليهما «بالثورة» وأثرها في إنهاء الدساتير.
ومما لاشك فيه أن نجاح الثورة أو إخفاقها لا يؤثر في وجود الدولة، وإنما يؤثر في نظام الحكم فيها، لكن نجاحها يؤدي إلى سقوط فوري للدستور القائم متى تناقضت أحكامه مع أهداف الثورة مفسحاً في المجال لتولي الحكومة الفعلية مقاليد الحكم بدلاً من الحكومة القانونية والسقوط الذاتي للدستور لا يحتاج إلى تشريع يقرره، وخاصة إذا كانت الثورة شاملة، والإعلان عن سقوطه بعد نجاح الثورة لا يعني أكثر من تقرير كاشف ومؤكد لحالة واقعية ترتبت فعلاً.
اترك تعليقاً