مفهوم المفاجأة في جرائم الشرف في القانون السوري
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
تعتبر حالة المفاجأة أو التلبس الواردة في جرائم الشرف المنصوص عليها في المادة 548 من قانون العقوبات من أكثر الظروف القانونية إثارة للجدل بين المفكرين والباحثين والمدافعين عن حقوق الإنسان والمنظمات المؤيدة لحقوق المرأة والمجتمع المدني، بالنظر لملابسات تطبيقها والآثار المترتبة عليها لجهة العقاب، بما يوحي أن إرادة المشرّع تتجه منحى التخفيف في العقاب على الجاني والتهاون في حماية الحق في الحياة والسلامة الجسدية للمعتدى عليه.. الأمر الذي يشكّل خروجاً على المبادئ الدستورية وانتقاصاً من حق المساواة بين الأفراد؛ فما هو المقصود بحالة المفاجأة وما هي شروط تطبيقها ومفاعيلها القانونية؟
لقد نصت المادة 548 من قانون العقوبات السوري المعدلة بالمرسوم التشريعي رقم 1 لعام 2011 أنه:
“يستفيد من العذر المخفف من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخوته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد وتكون العقوبة الحبس من خمس سنوات إلى سبع سنوات في القتل”.
وهذه المادة لم تبق على نصها الأصلي، وإنما طرأ عليها تعديل وتبديل فقد كانت في الأصل تنص على أنه:
“1ـ يستفيد من العذر المحل من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في حالة الجماع غير المشروع فأقدم على قتل أحدهما أو إيذائه بغير عمد.
2ـ يستفيد مرتكب القتل أو الأذى من العذر المخفف إذا فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في حالة مريبة مع آخر”.
وبمقارنة هذا النص مع الأصل الفرنسي نجد أن النص العربي لم يحالفه التوفيق في الإعراب عن حقيقة مراد الشارع وآية ذلك أن النص العربي ترجم عبارة “rapports sexuels illegitimes” بـ “حالة الجماع غير المشروع”، وهي ترجمة قاصرة وغير صحيحة، وعبارة النص الفرنسي أكثر شمولاً ويتسع مدلولها لجميع “الصلات الجنسية غير المشروعة” من جماع وغيره.. وهو ما حدى بالمشرّع السوري إلى تعديل نص الفقرة الأولى من المادة 548 بالمرسوم التشريعي رقم 85 لعام 1953. وقد جاء في الأسباب الموجبة للتعديل أنه: “لما كانت عبارة (في جرم الزنا المشهود) وعبارة (في حالة الجماع غير المشروع) الواردتان في المادة 548 لا تدلان على حالتين مختلفتين بل إنهما تدلان على حالة واحدة، الأمر الذي لم يقصده واضع القانون، لذلك أبدلت العبارة الثانية بعبارة (في صلات جنسية فحشاء). والمقصود بها الحالات التي يمكن وصفها بالجماع أو الزنى كخلوة المرأة وهي عارية من ثيابها مع رجل أجنبي وما شابه ذلك من الأوضاع الفاحشة، لكن هذا التبرير لم يقنع الفقه؛ فقد وردت كلمة الفحشاء في غير محلها وعندهم الأصح استعمال كلمة “غير المشروعة”. وأما السبب الحقيقي لإيراد عبارة “الزنى” و”الصلات غير المشروعة” جنباً إلى جنب في النص التشريعي، فهو أن الزنى لا يرتكب إلا في حال قيام العلاقة الزوجية.. والشارع في المادة 548 لم يشأ أن يُقصر العذر المحل على ذوي القرابة الزوجية وإنما شمل أيضاً الأصول والفروع والأخوة، وكذلك لم يشأ أن يتخذ من الوطء وحده سبباً لإعفاء مرتكب القتل أو الإيذاء من كل عقاب، وإنما كان يعتبر في النص السابق قبل التعديل كل اتصال جنسي غير مشروع، عذراً يجعل مرتكب القتل أو الإيذاء في حلَ من كل عقاب.
وتتخلص شروط تطبيق المادة 548 بما يلي:
أولاً- أن يكون الجاني متمتعاً بالصفة الزوجية أو بدرجة القرابة المذكورة في المادة 548 المعدلة: وحكمة الشارع في تخفيف العقاب على الجاني في هذه الحالة هي الثورة النفسية أو الانفعال العميق الذي يحدثه مشهد الخيانة الزوجية أو مشهد الصلات الجنسية غير المشروعة التي ترتكبها البنت أو الأخت مثلاً مع شخص أجنبي.. وهذه الثورة وذلك الانفعال، هما اللذان يعذر معهما الزوج أو الأب أو الأخ إذا قتل الآثمة والآثم معاً. ومن الواضح أن الأشخاص المستفيدين من هذا التخفيف هما الزوج والزوجة؛ إذ أن كلمة الزوج وهي ترجمة لكلمة ” eonjoint ” الفرنسية التي تحتمل التذكير والتأنيث وتطلق لغة على البعل وعلى امرأته. والواقع أن الزوجة التي تفاجأ بزوجها في جرم الزنى المشهود لا تقل شعوراً بالثورة والغيرة والانفعال عن الزوج الذي يفاجأ بزوجته وهي في وضع مماثل.. ولذلك من العدل أن يكونا كلاهما على صعيد واحد من المساواة أمام القانون في هذا الصدد. ويستفيد من النص أيضاً الأصول والفروع والأخوة والأخوات ذكوراً كانوا أم إناثاً لأن النص مطلق، والمطلق يجري على إطلاقه، ولا ريب في أن هذا التعداد ورد على سبيل الحصر ولا مجال للتوسع فيه.
ثانياً- أن تتوافر حالة التلبّس بجرم الزنى أو بصلة غير مشروعة:
ويتطلب تحقق هذا الشرط أن يكون الشخص الذي يرتكب الإثم المشهود ممن عددتهم المادة 548 وأن يُضبط أحد هؤلاء متلبساً بجرم الزنى أو بأي اتصال جنسي آخر غير مشروع. والتلبّس هنا معناه أن يُشاهد الشخص الآثم حال ارتكابه جرم الزنى أو مباشرته الاتصال الجنسي غير المشروع مع شخص آخر، أو عند الانتهاء من ارتكابه أو مباشرته؛ فإذا لم تتوافر حالة التلبّس أو “مشهودية” الجرم وكانت الظروف تدعو إلى الريبة والاشتباه فقط، دون أن تصل إلى درجة اليقين، فلا يجوز أن يمنح الجاني العذر الوارد في المادة 548. وكون الإثم الواقع من زنى أو اتصال جنسي غير مشروع ـ مشهود أو غير مشهود ـ هو من الأمور التي يملك تقديرها قاضي الموضوع، ومتى بيّن الحكم الوقائع التي استظهر منها حالة التلبّس وكانت هذه الوقائع كافية وصالحة لأن يُفهم منها هذا المعنى.
ثالثاً- أن يُفاجأ الجاني بما شاهده فيّقدم على القتل والإيذاء في الحال وبلا عمد:
ولقد انقسم الفقهاء في تحديد معنى المفاجأة إلى ثلاثة آراء:
الرأي الأول: ويقول أصحابه أن الجاني لا يستفيد من العذر إلا إذا كان اكتشاف الخطيئة التي وقع فيها الزوج أو القريبة مفاجأة للجاني نفسه، فلا يستفيد من العذر الجاني الذي يقتل عمداً أو مع سبق الإصرار؛ وحجة هذا الرأي أن الحكمة من الاعفاء أو التخفيف مقررة للزوج الذي يُفاجأ بمشاهدة الخيانة، فيهوله الأمر، فلا يعود قادراً على امتلاك زمام نفسه فيثور ويقتل؛ أما الذي يكون عالماً بهذه الخيانة من قبل فيصمم ويدبر القتل في هدوء، فلا يعود معنى لاستفادته من العذر. كما أن ظاهر النص التشريعي اشترط المفاجأة باللفظ الحرفي.
الرأي الثاني: يفرق أصحابه وفي طليعتهم العلامة غارو بين حالتين:
الأولى: حالة الجاني الذي يكون واثقاً من خيانة زوجته أو قريبته فيدبر الأمر بضبطها متلبسة بخطيئتها كأن يتظاهر بأنه سيغيب عن المنزل ثم يكمن فيه ويقتل الآثمين متلبسين بالخطيئة، ومثل هذا الزوج لا يستفيد من العذر لانتفاء الحكمة من ذلك.
الثانية: حالة الجاني الذي يكون مرتاباً فقط في سلوك زوجته أو أخته مثلاً فيراقبهما حتى إذا شاهدها ترتكب الآثم استحال شكه إلى يقين فثار وقتل، وهذا الجاني يستفيد ولاريب من العذر ولو توافر لديه العمد.
الرأي الثالث: وهو الرأي الذي يأخذ به العلامة غارسون، ويقضي باستفادة الجاني من العذر في جميع الأحوال سواء ارتكب جريمة القتل قصداً أو عمداً، وسواء أكان واثقاً من سلوك الآثمة أو عالماً به من ذي قبل، أم لم يكن. ويرى أصحاب هذا الرأي أن القول بغير ذلك معناه تجاهل طبيعة هذا العذر القانوني؛ فالشارع يجعل منح العذر منوطاً بتوافر شروط موضوعية لا علاقة لها ببحث نفسية الجاني، ولا بوقت تكوين قصده الجرمي؛ إذ أنه يمنح الجاني حق الاستفادة من دون أن يسأله أن يقيم الدليل أنه غضب وثار لرؤيته ارتكاب الإثم.. ذلك أن الشارع يفترض هذه الثورة بقرينة قانونية قاطعة ومن شأن القرائن القانونية القاطعة أنها تطبق دون حاجة إلى إثبات علة تقريرها بل أنه لا يباح للنيابة أن تقيم الدليل على انتفاء هذه العلة أو تثبت العكس.
والواقع أن القانون السوري يشترط صراحة المفاجأة.. ولكنه يوجب أن تقع المفاجأة على الشخص الذي يقترف الإثم لا على الجاني، إذ هو ينص على من يفاجئ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته، لا على من تفاجئه زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته؛ فصياغة النص تفترض أن يكون الجاني هو المفاجئ؛ أي أن يظهر حين لا يتوقع أحد حضوره ولا يتعارض هذا الوضع مع إمكان تطبيق النص في حال العمد أو سبق الإصرار، ولكن الذي يحسم الموضوع بصراحة كلية هو أن الشارع السوري رأى في طبيعة العذر ما يتنافى مع ارتكاب القتل أو الإيذاء عمداً.. ولذلك أوجب بنص صريح في صلب المادة 548 من أجل منح هذا العذر أن يكون الجاني قد “أقدم على القتل أو الإيذاء بغير عمد”.. وهذا معناه أن الشارع السوري حسم الخلاف بأنْ انحاز بنص صريح إلى الأخذ بالرأي الأول الذي سبق أن أوضحناه.
والخلاصة: ينبغي في نظر الشارع السوري أن يحصل القتل أو الإيذاء في الحال وبغير عمد، وهذا يتماشى مع الحكمة من وجود هذا العذر؛ فالزوج أو الأب الذي لم يقدم على القتل مثلاً إلا بعد أن فشلت مفاوضاته التي بدأها عقب اكتشاف الخطيئة للحصول على تعويض مقابل ستر الفضيحة والسكوت عليها، ليس جديراً بأن يمنح العذر المنصوص عليه في المادة ،548 لأن القتل في مثل هذه الحالة يكون انتقاماً بارداً لا فعلاً دفعت إليه النخوة أو المروءة أو ثورة الغيرة على الشرف أو العرض..!!
اترك تعليقاً